خواطر عن روحانيات الحج

كانت رحلتي الأولى للديار المقدسة عام 1992، وقد ذهبت إلى هناك والتاريخُ الإسلامي كله بشخصياته وأحداثه في ذهني وكنت أظن أنني سأرى العديد من الآثار الإسلامية التي تحكي تاريخ هذا الدين خاصة وأن التاريخ الإسلامي تواصل بتواصل الحج والعمرة من مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى  اليوم، ولكني عند وصولي إلى المدينة المنورة وكنت في شوق شديد لرؤية كل ما تعلمناه في المدارس وكل ما قرأناه في الكتب رؤية العين، تفاجأت بغياب كل شيء إلا المسجد النبوي الشريف ومقبرة البقيع، ومع ذلك لم أستطع أن أرى المرقد الشريف ولا أن أتعرف على قبور من في البقيع، وعندما استعنت بكتيب به تاريخ من دفن هناك وجدت كلمات عائمة تصف قبر فلان في أقصى الجنوب الشرقي للبقيع وقبر فلان في المكان الفلاني وهكذا، وقد تصادف أن كان بجانبي حاج باكستاني كان يسلم على كل قبر باسم صاحبه ولكن رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انقضوا عليه وأوسعوه ضربا إلا أنه واصل سلامه لآل البيت وللصحابة، ثم سألته كيف عرفت أنت هؤلاء كلهم؟ قال لي إن هذه حجته العشرون وإنه سبق وأن حج في الخمسينات من القرن الماضي وكان هناك من يشرح للناس ويقول لهم قبر من هذا وقبر من ذلك، وقد طابقت ما يقول الحاج الباكستاني مع ما في الكتيب ووجدت أن معظمه صحيح، وتساءلت ما هي المصلحة في إخفاء أسماء هؤلاء العظام الذين قام الدين الإسلامي على أكتافهم؟

وقد شاء الله أن أقرأ مجلدا في مقر البعثة العمانية في المدينة المنورة فيه رد من سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله على الكاتب الصحفي “مصطفى أمين” الذي كتب مقالا بعد زيارته الأماكن المقدسة استنكر فيه اختفاء الآثار الإسلامية في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة واستشهد فيه كيف أن الأمم الحية تحافظ على تراث أبنائها من المبدعين وتجعل من بيوتهم متاحف تحفظ آثارهم، فكيف بالأمة الإسلامية التي حفلت بالعظماء وكيف أن أصغر طالب في المدرسة يعرف أسماء رجالات الإسلام ومعاركهم ومواقفهم إضافة إلى أن التاريخ تواصل ولم ينقطع، إلا أن الشيخ ابن باز كان له رأي في هذه المسألة، وهو الرد الذي يتم تكراره في كل مناسبة يتم النقاش فيه عن الآثار الإسلامية وهدمها، وهو الخوف من أن يتحول القبر إلى مزار وأن يتحول المسلمون إلى عبادة القبور مما يشكل ذلك  شركا صريحا وأن الشريعة لم تأتِ بتعظيم الآثار ولا بِتعظيم القبور، بل ولا بالغلو بالمخلوقين، وإنما جاءت بالنهي عن تعظيم القبور، ومن ذلك بناء المساجد عليها، وكذلك بناء القبب والأضرحة وكثير من النقاط حول هذا الموقف

وعندما تحولنا من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه في بالي وكيف قطع تلك المسافة وكنت في شوق أن أصل إلى مكة وأشاهد الحرم وغار حراء وجبل  النور ومكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودار الأرقم بن الأرقم ومناطق الغزوات النبوية، وعند وصولنا لمكة فوجئت بالأخ “أحمد بن فيصل الجهضمي” يقول لي وسط تلك العمارات إن هذا هو الحرم وظننته من الوهلة الأولى قد أخطأ حتى تبينت منارة الحرم إذ أني وجدت نفسي في مدينة لا تختلف عن أي مدينة أخرى من المدن الحديثة ووجدت أن خارج الحرم المكي كل قذارات الدنيا ومياه المجاري، وقلت إن هذا المكان يحتاج إلى شخصين لتطويره وتنظيفه هما “مهاتير محمد” رئيس وزراء ماليزيا الأشهر والمهندس “عبد الله بن عباس” رئيس بلدية مسقط حينها، أما الآن فإن الأمور قد تغيرت أكثر وأصبحت مكة أقرب إلى المدن الأوربية حيث الأبراج والبنايات العالية التي تحيط بالحرم، وحيث الغلاء الفاحش في كل شيء، وحيث غياب الروحانيات عن المكان الأقدس بالنسبة للمسلمين

ورغم أني ذهبت إلى تلك الديار مرة أخرى إلا أن الإنطباعات الأولى التي كانت في ذهني قبل ذهابي الأول ظلت هي المسيطرة عليّ، حتى وقعت قبل أيام على مقال كتبه “أجمل مسرور” وهو ناشط سياسي ومقدم برامج  بريطاني من أصل بنجلاديشي في جريدة “الغارديان” بعنوان : ماذا فعلوا ببيت الله الحرام؟ نشرها يوم 28 أكتوبر الماضي، قال فيها “يجري اليوم تدمير روحانية الحج بناطحات السحاب والاختناقات المرورية حول المدينة المقدسة، في حين أن ارتفاع تكاليف الحج يعني أن هذا الركن ما عاد يتحمل تكاليفه إلا الأغنياء فقط، ويقول “أكملت حجي، ولكني قلق للغاية من أن الحج قد فقد معانيه الروحية الحقيقية، لقد نجحت في استكمال شعائره، ولكن التكلفة الاقتصادية والبيئية والبشرية مذهلة، كما أرثي حال هذه المدينة، التي اجتاحتها سرعة التغيير وطمست التاريخ والتراث في طريقها”. ويقول “لقد جئت إلى هنا مع التركيز على أمر واضح: حياتي كلها لله. وأود أن أتعهد بأن أعيش حياة أكثر وعيا وذات معنى، وأن أهتم بأمر البشر كما أهتم بنفسي، فالحج تجديد فردي وجماعي للإيمان، ولكن عندما أنظر من حولي  أرى غابة كثيفة تهيمن على الأفق وتفرض نفسها على بيت الله – الكعبة – وأنا أشعر بالخيانة من قبل القائمين على الأماكن المقدسة، فإذا كنت أريد أن أرى ناطحات السحاب، فيمكنني القيام برحلة سريعة لدوكلاندز في لندن، ما جئت هنا لأستعرض مدينة أخرى من المباني العالية، تماما مثل لاس فيغاس أو نيويورك. في هذه الأماكن لا أجد فيها الروحانية. أنا أظن أن الله تعالى لا يريد أن يدنس بيته المقدس بهذا الشكل”

ويتناول أجمل مسرور جانبا هاما في رحلته للحج إذ يرى أن تكلفة الحج خلال السنوات الخمس الماضية زادت بثلاثة أضعاف، مما يجعل الحج أمرا بالغ الصعوبة بالنسبة للناس العاديين، فالفنادق الجديدة الشاهقة من فئة الخمس نجوم المحيطة بالكعبة متاحة لأولئك الذين يمكن أن يتحملوا مصاريفها، أصبح الحج هذا العام بالفعل أحد أركان الإسلام المتاح للأثرياء، حيث ارتفعت الأسعار بشكل غير عادل وغير متكافئ، في حين أن أحد معاني الحج هو المساواة بين جميع الناس بوضع قطعتين من القماش الأبيض غير مخيط، مما يلغي على الفور التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، بينما الاتجاه الحالي هو جعل المساواة حلما

ويرى أن جعل مكة المكرمة خالية من السيارات يجب أن يكون في طليعة إستراتيجية البنية التحتية للنقل العام، فالناس يقضون الكثير من الوقت عالقين في ازدحام حركة المرور، ويمضي الحجاج أكثر من نصف وقتهم في انتظار الحافلات لتأخذهم إلى المكان المقدس، وبدلا من ذلك كان عليهم أن يقضوا ذلك الوقت في التأمل والصلاة في بيت الله.

لم يتكلم الكاتب عن قطار المشاعر الذي أصابه العطل والذي أثار العديد من التعليقات الساخرة على مواقع التواصل مثل تويتر وفيس بوك، وهي قصة أخرى تحتاج إلى رواية إذ أن مهمة القطار هي لخمسة أيام فقط في السنة ومع ذلك تعطل ولم تفد الأيام ال360 الأخرى للإستعداد لهذه الأيام الخمسة، ولكنه – أي أجمل مسرور – تحول إلى نقطة أخرى هي مدى القذارة التي تعج بها منى ومزدلفة وعرفات، وهي الأماكن الثلاثة الأكثر أهمية في مسار الحجاج، بزجاجات البلاستيك والأغطية والحقائب المتناثرة بما يفوق إنتاج العديد من المدن سنويا، فالضرر البيئي الناجم عن رمي الناس للنفايات في هذه المواقع يتناقض بشكل مباشر مع تعاليم الإسلام، ولهذا يجب أن يتخذ القائمون على الحج خطوات جادة للحد من رمي النفايات بفرض غرامات كبيرة على الحجاج ومنظمي الرحلات، وينبغي حظر مادة البلاستيك لما لها من آثار سلبية على البيئة كما هو معروف.

وأظن أنه يجدر بي أن أشير إلى رسالة كتبها لي أحد الحجاج العمانيين من منى قال لي فيها: إن الشعوب المسلمة بطبيعتها قذرة وتصنع القذارة وتعشقها ولا يهنأ بالها إلا بالعيش في المزابل، ووصف لي كيف خرج من المخيم في منى ليشم نفحة من نفحات قدسية المكان، فلم يستطع أن يتحرك أبدا لأن المكان كان عبارة عن مخلفات بشرية ومجاري وزبالة لدرجة أن قال إن النفوس أصبحت تكره البقاء في ذلك المكان الذي أراد الله له القداسة فأبت شعوب المسلمين ذلك

هناك مشكلة كبيرة سيعاني منها المسلمون طالما أن روحانية المكان قد اختفت وأن كل آثار المسلمين في ذلك المكان قد اندثرت، وتبقى الخطوة الثانية هي طمس تاريخ أولئك الرجال رويدا رويدا من المناهج الدراسية، وتبقى المشاعر طقوسا بلا روح كما هو مخطط أن يبقى القرآن الكريم كتابا يتلى في سرادقات العزاء وفي المواسم

وبناء على ما تقدم – كما يرى أجمل مسرور – فإن الحج سيصبح قريبا عبادة مادية ومعرضا يظهر فيه الأثرياء ثروتهم ونبلهم، وفي ظني أن ذلك سيكون صحيحا بل قد تنبأتُ به منذ فترة طويلة، فيكفي أن قيمة الحج هذا العام في بعض الحملات العمانية وصلت إلى 3 آلاف ريال وزيادة أما بقية المقاولين العمانيين فإنهم أمام الغلاء يقدمون خدمات لا ترقى إلى المستوى المأمول، وقد تم اكتشاف حملات عمانية وهمية تعرض أسعارا مخفضة ولا تملك أساسيات تقدمها للحجاج

الحادي والثلاثون ثقافة وفكر

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com