بين تلافيف اللاشعور وأعماق الوعيّ الوجودي تحاول الكاتبة العمانية زوينة
الكلباني من خلال روايتها رسم لوحة مشبعة بالألم الداخلي الذي يتغلغل في
الذات الإنسانية ومحاولة البحث عن ماهية الوجود من خلال التعمق في
إشكالية ظلت مستعصية منذ الحقبة الأولى للوجود البشري على هذه الأرض وهي
إشكالية الموت ولا شك أنها إستطاعت إلى حد كبير أن تسبر أغوار هذه النفس
التائهه في أصقاع الوجود وأن تلجّ في أعماقها على قدر يتناسب مع أحداث
الماضي التي تحاول أحيانا فصله عن الواقع إلا أنه ينأى بنفسه عن ذلك
محاولة رسم تمازج بينهما في رواية يغلب على طابعها المونولوج الداخلي
والبعد السيكولوجي للنص.
ثالوث وتعويذه هي الرواية الأولى للدكتورة زوينة الكلباني الصادرة عن
المؤسسة العربية للدراسات والنشر لعام 2011م وهي رواية يغلب عليها الحسّ
التشاؤمي والتوجّس من الحياة حيث أنها تصيب قارئها بالعطب وتحفّز في نفسه
لواعج من الألم كلما مضى في طرق الحياة الواسعة وتجعله يصيخ السمع لقلبه
علّه يجد ذاته المتشظّية بين ثنايا دقاته , أنها تشعل فتيل القلق الداخلي
الذي لا تخبوا جذوته رغم محاولتها في بعض الأحيان إستعادة الروح من خلال
الإلتفات إلى الجانب العاطفي في الإنسان ومحاولة ربطه بالوعيّ العقلاني
الواقعي.
تستلهم الكاتبة في بداية روايتها بجملتين إحداهما لفيلسوف التشاؤم آرثر
شوبنهاور الذي لا يرى شيئا آخر سوى إعتقاده بأن الحياة شر مطلق مما يعطي
إنطباع أوليّ بأن الرواية ستسلك طريقا تشاؤميا وستتخللها حالات من القلق
والإضطراب والإنفعال وهو بدوره يقع على عاتق بطلة الرواية نوره الهاربة
من شبح الموت الذي يطاردها بذكرى مروّعه لا تزال تتماوج في أطواء نفسها
أينما ذهبت بها الأقدار فمنذ أول وهلة وهي لا تتجاوز الثالثة من عمرها
أطبق الموت بجناحه على أبيها وأمها وأخيها الرضيع في حادث سير في الدمام
حيث كان يعمل الأب ولم ينج أحد من الحادث سوى هي وأختها جواهر ومنذ تلك
الحقبة أضحت عقدة الثالوث تطاردها كأنها الجرح الذي لا يندمل بل يزداد
عمقا كل لحظة.(رجعنا إلى ضنك بثلاثة نعوش)..(رقم ثلاثة ولفظة الموت
متحدتين على الشفاه أينما ألوذ , كانت تصل إلى مسامعي هاتان المفردتان
(ماتوا الثلاثة؟!!!)..(بثلاثتهم ماتوا؟!)..(لعنتُ الموت وأعلنت الحرب على
الرقم ثلاثة)..(كانت محاولات جدتي هباءً وهي تلقنني الأرقام من (1-10)
كنت أعد من (2,1)وأقفز كالبرق إلى رقم (4)).ظلت هذه العقدة ملازمة لها
أينما شاهدت هذا الرقم أو أوقعها الحظ عنده.
هذه الروح المضطربة أوعزت في قلب نوره شيئا من التوجّس إتجاه الجوانب
الإيجابية في الحياة ك الحب الذي قد يثني عزيمة التشاؤم من التطاول في
الإعماق بشراهه فحين تكتشف نوره بمحض الصدفة قلبا مخبؤا وسط هذه الفوضى
التي تتنازعها تبدأ تتفاعل مع الموقف بفتور وقلق على الرغم من محاولتها
ثني نفسها عن حالة الفتور هذه.(حاولت أن أقنع نفسي أن مشاعري إتجاه سعود
ما هي إلا أوهام وانني أكبر من التصرف كمراهقة..لكن أجد نفسي غارقة في
التفكير فيه).من خلال ذلك نجد أن الكاتبة نجحت في إبراز الصورة النفسية
العميقة التي إعتملت في دواخل البطلة قبل حبها لسعود وإستطاعت تصوير
الجوانب الخبيئة أثناء مرحلة تقبلها لهذا الحب إلا أن الصدفة العجيبة
التي قدمتها الكاتبة للقارئ بخصوص إكتشافٌ كان بمحض الصدفة بأن صديقة
نوره ما هي إلا خالة سعود وذلك أثناء طلب نوره لهاتف سعود للإتصال
بصديقتها أثناء وصولها إلى مطار هيثرو بلندن فكان بإلامكان تقديمها بصورة
أفضل مما كانت.
أثناء وجود نوره في لندن مع صديقتها فاطمة تكتشف بأن رائحة الموت لا تزال
تحوم حولها من خلال التعاطي مع الشخصيات التي تلتقي بها كشخصية الفنانة
ظلال عنوان الصديقة العراقية المقيمة في هولندا التي تقيم معرضا للصور
الفنية في لندن فتستجدي نوره من خلال هذه الصور ما تيسر من بكاء أسرار
البوح الداخلي وتتماهى مع عقدة الموت والرحيل التي عانت منها ظلال هي
الأخرى وقد نلاحظ بأن نوره رغم إنكسارها الداخلي والإضطراب الذي يعشعش في
مخيلتها إلا أنها تستطيع في مواقف عديدة أن تكون أكثر تماسكا وقوة ربما
تستقي ذلك من نبع جدتها صاحبة الشخصية القوية والنضالية.
قد يؤخذ على الرواية جانب مهم جدا وهو المغالاة في ذكر الموت فنلاحظ بأن
أغلب شخصيات الرواية لها علاقة مع الموت وربما هذا أمتزج بسبب الرتم
السريع للرواية وعدم إغراق النص السردي بالتفاصيل العميقة وكذلك سهولة
الإنتقال من حدث إلى آخر مما دعت هذه الجوانب إلى تضييق حدود الإبداع
وحصر إمكانات الكاتبة في زوايا معينة كما أن تغييب بعض التفاصيل الدقيقة
قد تجعل القارئ لا يرتبط بالنص إرتباطا وثيقا في أحيان كثيرة فنلاحظ بأن
الكاتبة تتطرق إلى عدة جوانب ذات أبعاد إجتماعية منها إستنكار البطلة
للزواج التقليدي الذي ينوء تحت ثقل التخلف الإجتماعي ورفضها الزواج من
أبن عمها ما هو إلا إستنكارا لذلك كذلك تتطرق الكاتبة إلى حالة العنف
الأُسري الذي يمارسه الزوج ضد زوجته حيث يذهب الجميع كالعادة بأن يد
السحر هي المسؤولة عن ماهية هذا العبث وكذلك أيضا من الجوانب الإجتماعية
التي تعرضت لها الكاتبة هي مشكلة الشذوذ الجنسي التي أوردتها الكاتبة
بشكل باهت.
من وجهة نظري أظن بأن نهاية الرواية كتبت بحسّ إنساني عالي جدا وقد
إستطاعت الكاتبة إبراز موهبتها أكثر بعد أن فتحت الدروب المغلقة التي
تجلئ معها عنصر الإبداع بصورة برّاقة من خلال إستطاعتها ملامسة الجانب
الإنساني بصورة لا نراها إلا مع كبار الكّتاب والروائيين. حيث كانت
النهاية تراجيدية على عكس ما قد يظن القارئ , فبعد أن خيّل للجميع بأن
نوره قد بدأت تتصالح مع الحياة وبدأت الحياة تتصالح معها كان الموت عدوها
اللدود يرفض هذا التصالح والولوج إلى عوالم السعادة فقرر على حين غرّة أن
يطبق بجناحيه على خطيبها سعود هذه المرة في يوم زفافها وأمام ناظريها
مستخدما عدوها الثالوث بعد أن كان سعود يسير بسيارته أمام سيارتهم هي
وأختها وزوج أختها قبل أن تعترض طريقه ثلاثة جِمال كأنها قررت الفتاك به
بعد أن نصبت شراكها في الخفاء ضده.(لا أعدمك يا حبيبي !!لن تموت , لنا في
العيش حق وأوطار!!)..لكنه لا يستمع إليها ويموت رغما عن نداءاتها
وتوسلاتها وبعدها تدخل نورة في غيبوبة أستمرت معها شهور عديدة وحين
تستفيق يخامرها شعور بأنها قد هزمت الموت وعبثيته ولا داعي مرة أخرى
للخوف منه(دكتور,ما عاد الموت يخيفني!لقد إقتربت منه وحاورته حينما وقعت
على صدر سعود مغشيا عليَّ , وصفيت حساباتي معه).
لقد إستطاعت الكاتبة زوينه الكلباني في عملها الروائي ثالوث وتعويذه أن
تثير القلق في جوف القارئ وتجعله يتهادن للسقوط في مأزق الرعب
الميتافيزيقي تحت ظل أسئلة لا تهدأ وتيرتها وفي عالم يتماوج فيه الخير
والشر , رغم أنها الرواية الأولى للكاتبة التي دخلت بها إلى عالم الأدب
إلا أنها إستطاعت أن تنال حظا وافرا من الإهتمام والقراءة كما أنها
أختيرت من ظمن الروايات التي قُدمت عنها قراءات في جامعة عين شمس تحت
عنوان : محاضرة عن الأدب العربي الحديث , وهي بلا شك تُعّد سابقة ثريّة
للكاتبة وللأدب العماني على أن يظل الأمل يحدونا لرؤية الأدب العماني
سامقا في سماء الأبداع دوما وفي مختلف أنحاء العالم.