لقد أثبتت تجارب بعض الدول الحية والناجحة أن التعليم الجيد هو الخطوة الأساسية الأولى نحو التقدم والرقي، لذا ركزت جهدها كله في التعليم حتى لحقت بركب الحضارة والتكنولوجيا رغم قلة مواردها الذاتية، لأنها عرفت تمام المعرفة أن الاستثمار الحقيقي للشعب هو التركيز على تعليمه والاهتمام بتطوير التعليم عبر تطوير مناهجه وبرامجه وأنظمته والاهتمام بالمدرسين والمدارس، واهتمت هذه الدول بتأسيس لجان التطوير من الخبراء المختصين، ورصدت ميزانيات تفوق ميزانيات الجيوش، وسخّرت له كل الإمكانيات فكانت النتيجة أن حققت مستويات عالية في الإنتاج ورفعت من اقتصادياتها بفضل ذلك الاستثمار الجيد، ولعل في كوريا الجنوبية وبعض الدول الآسيوية وإسرائيل بعض الأمثلة
ونحن في السلطنة نعاني من أزمة كبيرة في مجال التعليم، ورغم أن الحكومة تبذل الجهود لإنقاذ السفينة من الغرق إلا أن الأمواج والعواصف يبدو أنها من القوة بمكان لذا فإن السفينة تتخبط يمنة ويسرة، ولا يمكن أن نلخص كل المشاكل التعليمية في مقال واحد بل إن العملية برمتها تحتاج إلى مختصين لبحث الخلل ولوضع الحلول لأن الشيء المؤكد حتى الآن هو تدني مستوى خريجي الدبلوم العام في المستوى التحصلي والثقافي وهذا بدوره أثّر حتى على مستوى خريجي الجامعات، وقد يعود السبب إلى ضعف في المناهج وضعف في مستوى المدرسين التحصيلي والثقافي، وإلى كثرة الإجازات طوال السنة الدراسية، وإلى نقطة هامة وهي غياب الرؤية وغياب الهدف لدى الحكومة ولدى الهيئة التدريسية والطلبة، إذ صار اهتمام الطلبة منصبا فقط في الإجازات وهي من الطول بمكان، في وقت غابت فيه هيبة المدرسين أمام التلاميذ مما جعل من بعض المدرسين أن يهتموا فقط بالراتب الذي يستلمونه نهاية الشهر، وغابت عنهم رسالة التعليم وهي بالتأكيد رسالة سامية، هذا عدا مستواهم الثقافي المتدني
وقد أعلن جلالة السلطان المعظم حفظه الله ورعاه في كلمته أمام مجلس عمان أن التعليم هو أساس التنمية لذلك كان لابد لنجاح خطط التنمية وبرامجها التنفيذية على النحو المبتغى والمستوى المطلوب من ضمان جودة مخرجات التعليم والنهوض بمختلف أنواعه ومراحله وفقا للسياسة العامة للدولة وبما يؤدي إلى بلوغ الأهداف التي نسعى جميعا إلى تحقيقها، وأعلن جلالته حفظه الله أنه “من أولويات المرحلة التي نمر بها والمرحلة القادمة التي نستشرفها مراجعة سياسات التعليم وخططه وبرامجه وتطويرها بما يواكب المتغيرات التي يشهدها الوطن والمتطلبات التي يفرضها التقدم العلمي والتطور الحضاري وصولا إلى بناء جيل مسلح بالوعي والمعرفة والقدرات المطلوبة للعمل المفيد”
إن هذه التوجيهات السامية إذا تم تنفيذها وتحويلها إلى خطة عمل فإنها حتما ستؤدي إلى وضع الحلول للخلل الذي تعاني منه العملية التعليمية، لأننا فعلا نحتاج إلى إعادة بناء التعليم من الصفر، فما نُشر في الخارج عن مستوى التعليم في السلطنة ينذر بالخطر، إذ تذيّلت السلطنة مع دول عربية أخرى التصنيف العالمي لأداء طلبة الصف الرابع في العلوم والرياضيات والقراءة، وأوضحت دراستان تدعمهما كلية “بوسطن” الأميركية أن دول آسيا الغنية نسبيا ومنها كوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ تصدرت ترتيب التحصيل العلمي للطلاب على المستوى الدولي، وهي النتيجة التي قال الباحثون إنها ترجع إلى التزام مجتمعي قوي بالتعليم الابتدائي، وتصدرت الدول نفسها الأداء في الرياضيات والعلوم وتقدمت في القراءة.
وقيّمت دراسةٌ الاتجاهات في الرياضيات والعلوم الدولية أداء 63 دولة في العلوم والرياضيات، في حين قيّمت دراسةٌ أخرى التقدم في القراءة من خلال أداء 49 دولة، مما قد يعني ضمن ما يعني أن الدراستين لو شملتا أكثر من هذه الدول ربما تكون النتيجة كارثية لأن السلطنة احتلت مع قطر والمغرب أسوأ أداء في القراءة
ويرى “مايكل مارتي” الأستاذ بكلية بوسطن أن “التعليم مشروع متعدد الأجيال لذلك إذا رجعت إلى ما قبل 30 أو 40 عاما فستجد أن كثيرا من هذه البلدان لم يكن لديها نظام تعليم وكانت مجموعة صغيرة فقط من الناس تحصل على تعليم مناسب”، وهو كلام قد تنقصه المصداقية، فبالرغم من أن التعليم الحديث بدأ في عمان وانتشر مع بداية العهد الجديد إلا أن الجيل الذي درس في فترة السبعينات والثمانينات كان جيلا متعلما تعليما جيدا لوجود كوكبة كبيرة من المدرسين العرب أصحاب الخبرات الطويلة ممن كانوا يؤمنون برسالة التعليم قبل أن يشملهم التعمين، وأيضا بوجود مناهج دراسية قوية شارك في إعدادها مختصون في المجال التربوي، ولكن الأهم من ذلك هو وجود خطة وهدف ودراسة، وأريد أن أصل إلى أن التعليم رغم تنوعه وزيادة عدد المدارس والطلبة والمدرسين ورغم وجود التكنولوجيا الحديثة، إلا أنه تراجع كثيرا عن ذي قبل ولم يقتصر الأمر على عدم القدرة على القراءة فقط بل اختفت معاني الوطنية من الجيل الجديد، وأصبح هم الكل هو الأخذ من الدولة فقط دون التفكير في مبدأ العطاء، وكانت النتيجة كما هو معروف لدى الكل، ثم إن كلام “مايكل مارتي” يجب أن ينطبق على الدول التي حققت مستويات عليا على مستوى العالم فهذه الدول بدأت نهضتها مع بداية نهضتنا أو أن الفرق ضئيل جدا، فلماذا نجحت تلك الدول وفشلنا نحن؟!
لقد عُقدت العديد من الندوات لتحسين التعليم لكن النتائج على الواقع كانت صفرا، ربما لأن هذه الندوات لمجرد العرض فقط، أو لأنه لم يتم تطبيق التوصيات على الواقع، وقد أعدت وزارة التربية والتعليم الخطة العامة لتحسين التعليم ورفع مستوى التحصيل الدراسي للطلبة وخصصت ثلاثة أعوام دراسية، ولكن الخطة تضمنت بعض الأخطاء إذ أنها شملت إجراء اختبارات لمعرفة قدرات الطلبة على القراءة والكتابة، وشمل ذلك بداية من الصف الخامس إلى الثاني عشر رغم أن الأساس هو الصف الأول إلى الرابع باعتبار هذه الصفوف هي اللبنة الأساسية لبقية المراحل الدراسية، وبالتالي فمن عرف القراءة في هذه المرحلة لا يحتاج إلى المزيد من التركيز في هذا الجانب
عندما نقارن التعليم في عُمان ومع بقية الدول التي حققت نتائج تعليمية جيدة وانعكس ذلك على مستوى رقي تلك الشعوب، قد يصاب المرء – خاصة الغيور على سمعة الوطن – بارتفاع في ضغط الدم أو بسكتة قلبية، فدولة مثل كوريا التي تصدرت ترتيب التحصيل العلمي على مستوى العالم، يزيد عدد طلابها على 12 مليون شخص من جميع الأعمار، هذا فضلا عن أعضاء الهيئة التدريسية حيث يتجاوز عدد المشتركين في العملية التعليمية كلها أكثر من ثلث سكان كوريا التي يبلغ عدد سكانها 48 مليونا، ويتعلم الطلبة الكوريون وفق مناهج دراسية تنمي لديهم السلوك الحياتي المفيد، ويعلّم المنهج الدراسي التلاميذ في المرحلة الابتدائية المواد الدراسية الآتية:
– التربية من أجل الأمانة.
– التربية من أجل الحياة ذات المعنى.
– التربية من أجل التمتع بالحياة.
– التربية الخلقية.
– التربية الرياضية.
– الحِرَف.
– النشاطات اللا صفية، إلى جانب تعليم اللغة والحساب والدراسات الاجتماعية، وهذه المناهج بهذه الطريقة تعمل على بناء الشخصية وبناء الذات القادرة على العطاء المتميز في الحياة، ويتم دراسة هذه المناهج خلال عام دراسي تصل أيامه في حدِّها الأدنى إلى 220 يوماً.
إننا لا نحلم أن نصل إلى كوريا أو سنغافورة أو هونج كونج أو إسرائيل أو الهند أو الصين – رغم أن ذلك حق من حقوقنا – ولكن الآن نبحث عن أبسط الأشياء وهي إلغاء أمية الطالب العماني لأننا إذا أردنا أن نبني جيلا جديدا مسلحا بالثقافة والعلم على مدى 50 أو 60 عاما القادمة يجب أن نعمل من الآن، وكفانا الندوات الكثيرة التي لم تأت بالفائدة وكفانا المبالغ الضخمة التي تصرف على هذه الندوات، فالمسألة تحتاج إلى وقفة جادة من الجميع لأن هذا هو مستقبل البلد ومستقبل الأجيال، بل إن الاهتمام بالتعليم أهم من الاهتمام بالمطالبة برفع الرواتب أو بدفع ديون الناس الخاصة
الموضوع طويل ويحتاج إلى صفحات كثيرة، ولكن المطلوب من وزارة التربية والتعليم ومجلس التعليم وكل الجهات ذات الصلة أن تستعين بأصحاب الخبرات وبيوت الخبرة العربية والأجنبية ومن أبناء الوطن ومن بعض أعضاء الهيئة التدريسية وهم فرسان الميدان لإعادة بناء التعليم في عمان من جديد، وليس عيبا أن نقول إننا فشلنا ولكن العيب إذا استمرينا في هذا الفشل وكابرنا أنفسنا
وأختم المقال بشعار رفعته كوريا الجنوبية التي حققت المراكز الأولى في التحصيل التعليمي إذ يقول الشعار: ( ليس لدينا سوى الإنسان والمدرسة، والمدرسةُ هي الاستثمار الأول الذي ينتج لنا الثروة البشرية، وهذه الثروة في المسؤولة عن تحقيق معجزة التنمية والتقدم )، وفي بالي سؤال: أين الخلل وأين المشكلة؟ هل إننا لا نملك الوطنية والغيرة والأمانة والإخلاص وأن هذه الصفات مقصورة على غيرنا ؟! أو أن الخلل في جيناتنا..؟!!