إن شاء الله “WORK”

في أحد الأروقة الانيقة بجامعة السلطان قابوس وقبل ما يزيد على ١٢ عاما، كنت أتبادل أطراف الحديث مع أحد مدرسينا من الأساتذة الغربيين، عندما مر أحد الزملاء مسرعا وأشار إلينا بيده مسلما، فبادره الدكتور التحية واستوقفه ليسأله عن عمل كلفه به منذ فترة، فبدت علامات الارتباك واضحة على وجه زميلي وأجابه وهو يحث الخطى بالإنصراف:

“I will bring it on Saturday IN SHAA ALLAH”…

أي بمعنى “سوف أحضر العمل يوم السبت إن شاء الله”…

لم يجبه الدكتور، بل قفل راجعا وعلامات الإمتعاظ بادية على وجهه، والتفت إلي قائلا:

” Look Said, I do  not trust this INSHA ALLAH work” والترجمة النصية لعبارته ” أنظر سعيد: لم أعد أثق بأي عمل يرتبط بعبارة إن شاء الله’…

قد أكون شعرت حينها  أنه ربما خدش جلال العبارة الشريفة, ولكنني ضحكت ولم أحاول التبرير في حينه, ربما لأنني وجدت أن في داخلي شيءٌ ما يدفعني لأن أتفهم كثيرا امتعاضه وحقيقة ما يرمي إليه بقوله هذا، فالرجل قضى عمرا بين أروقة الجامعة يؤهله لأن يصل إلى مثل هذا الاستنتاج الصادم، وقبل أن يستطرد استأذنته منصرفا وعبارته لا تزال مشتعلة في أذني، وفي الطريق المتعرج إلى السكن الجامعي أخذت أقلب في مخيلتي الاستخدامات الشائعة لتلك العبارة الشريفة وقلت لنفسي: أن الرجل  ربما أصاب كبد الحقيقة، فاستخدام عبارة “إن شاء الله” شائع بيننا كطلبة –ربما بدون أن نشعر- كأداة للتسويف أو كستارة نخفي خلفها كسلنا وعدم اقتناعنا بأننا سنقوم فعلا بما أوكل إلينا من عمل, وأحيانا نقذف بالعبارة عندما نقصد “أننا ربما سنقوم بما كلفنا به وربما لا”, وهناك استخدام أخير وهو لا يعدو كونه “تحريف للكلم عن مواضعه” وهو عندما نضمر بخبث شديد أن نترك المهام الموكلة إلينا للأقدار وحسب ما تسنح به الظروف بدون أن نضع في خلدنا الشروع في بذل الجهد التي يتطلبه تنفيذ تلك الأعمال أو الواجبات المكلفين بها, وهو ربما الاستخدام الشائع..

“ياإلهي”!!! إذن فالرجل لم يجانب الحقيقة، فقد أبدعنا في صنع ستار مذهل من هذه العبارة نخفي خلفه بعضا من خبثنا وشقاوتنا، وأجدنا في جعل العبارة هلامية توميء إلى أكثر من معنى وتبرر بشكل رائع العجز والتقصير عندما نرمى بهما، ففي نهاية الأمر كل شئ مرتبط بمشيئته سبحانه سواءً فعلنا ما طلب منا أو لم نفعل, يالعبقريتنا !!!!!!

في الحقيقة لم أعلم في حينها فيما إذا كان ذلك ذكاء وخبث منا أم هو شئ في مخزوننا الثقافي أو في لا وعينا نمارسه بتلقائية؟ تساءلت وأنا أتأمل الحاضر، ولم يتطلب مني ذلك كثيرا من الوقت والجهد لأستنتج: أن الحاضر لم يختلف كثيرا، فنحن لا نزال أوفياء لعادتنا في تحريف كثير من الكلم من بعد مواضعه ولا زلنا نحتفظ بنفس مهاراتنا التي طورناها عبر الأجيال في تشويه وقلب معاني الكلمات ولي أعناق الكثير من العبارات الرائعة في أصلها لتوافق أهواءً في نفوسنا، وهي لا شك أنها عادة سيئة تخفي خلفها الكثير من سيئاتنا ليس أقلها قصر النظر والشلل الكلي أو الجزئي عن القدرة على التحليل العلمي والواقعي وربط الكلمات والمصطلحات بمدلولاتها العلمية الصحيحة كما وضعها أصحابها لا كما تشاء أهواؤنا، وذلك لا يتأتى إلا بردها إلى منبعها الأساسي بدل أن نحاول اختراع مفاهيم ومعانٍ تقلب رأسا على عقب مدلولات ومرامي مثل هذه المصطلحات والكلمات, وذلك لا يعني أن نحجم عن تطويعها وتطويرها لتلائم بيئتنا الثقافية والأخلاقية والدينية بدون أن نعبث في مقاصدها الأصيلة…

ونظرة فاحصة إلى واقعنا تكشف عن عوار كبير في فهمنا وبالتالي في توظيفنا للكثير من هذه المصطلحات والمفاهيم  -والتي في أغلبها وليدة العصر الحديث- وتكشف عن بون شاسع بين ما فهمه وطبقه الاخرون وبين ما فهمناه وطبقناه نحن, فالديمقراطية عندنا مرتبطة بالفوضى والتهييج وممارسة ثقافة الضجيج والتشويش والمبادرات الفردية والإرتجالية بعيدا عن العمل المؤسساتي الذي يعتبر حاضنة للفعل الديمقراطي في العالم المتقدم, وأحيانا ترتبط الديمقراطية عندنا بالدعوة إلى الانسلاخ الكامل أو الجزئي عما يؤطره المجتمع لأفراده سواءً من خلال الدين او الأعراف والتقاليد ومجمل الإرث الثقافي والأخلاقي الذي يشكل ذاكرتنا الجمعية، وهي عندنا غير مرتبطة بالتطور الطبيعي للمجتمع ونضج مختلف شرائحه ليتمكن أفراده من هضم واستيعاب متطلبات هذا الزائر الجديد وبالتالي  تغلغله واندماجه تلقائيا في النسيج الثقافي والأخلاقي والسياسي المكون لوعي هذا المجتمع، بل نصر على تسويقها على أنها عبارة عن حرق مراحل ومارثون يجب أن نلحق بدورته الأخيرة ولو كنا على أرضية هشة وحتى ونحن نرتدي الدشداشة والمصر، ولم لا؟ فمنطقنا أنه كما عملت الديمقرطية هناك فستعمل هنا؟ وكعادتنا نقع في خطيئتنا المزمنة: لم نتساءل كيف؟ وماهي الطرق والوسائل والبدائل لجعلها تعمل في بيئتنا التي هي بالتأكيد تختلف جذريا عن البيئات الأصلية التي ترعرعت ونمت فيها الديمقراطية؟…

ومثال اخر ظهر بوضوح كأحد إهراصات “الربيع العربي” وكأحد إفرازاته وهو “حرية التعبير”, أو بشكل أدق أنه اتخذ منحى اخر إبان “الربيع العربي”, وهو الاخر لم يسلم من اجتهاداتنا ووضع لمساتنا عليه، فهذا المفهوم أقمنا اصرة بينه وبين ما اعتقدنا أنه حقنا في القذف  والسب والتجريح وتوزيع التهم المجانية من تخوين وفساد في كل الإتجاهات، وبالتالي كانت الصحف والفضاء الإلكتروني وعلى رأسه مواقع التواصل الإجتماعي ساحات لصنع بطولات تقوم على التحدي والكفر بكل بما لدينا وتبشر بمستقبل يعدنا بالحرية والإنعتاق إن نحن واصلنا إلقاء حجارتنا على في كل الإتجاهات, والمرجع في اجتهاداتنا هذه وفي حقنا في ممارسة هذا الفعل هو حرية التعبير بالمفهوم الغربي كما ندعي ونظن وكما جادت به علينا قريحتنا، ولكن في خضم نشوتنا لم نلتفت إلى أنه مع حرية التعبير التي تكفلها القوانين الغربية والتي تبدو وكأنها مفتوحة  الافاق فإن قضايا السب والتجريح والقذف تكلف الصحف الغربية والأفراد الملايين إن لم تكن مثل هذه الاتهامات مرفقة بالأدلة القاطعة وبالأرقام،  ولكن لا يزال البعض لم يستوعب مثل هذه الأطر والمحددات ويصر على أن يناصب الأرقام والحقائق العداء ويستمرفي تسيير قوافل من الكلمات تعز من يشاء وتذل من يشاء بدون أن يدرك أن قوافل كهذه تقف عاجزة عن تقديم قراءة بسيطة وواقعية لبعض التحديات والإشكالات تمهيدا لاحتوائها وبالتالي وضع الحلول لها…

ربما كانت تلك العبارة التي قالها ذلك الدكتور ناتجة عن امتعاض لحظي ونفس أرهقهها التسويف، لكنني وجدتها تصور بدقة شديدة إحدى مشاكلنا مع إفرازات الحضارة الحديثة وهي عدم  قدرتنا على استيعاب وهضم مدلولات وتطبيقات هذه الإفرازات على أرض الواقع كما أراد لها أصحابها لا كما جادت به قرائحنا نحن أو كما أملت علينا به اجتهاداتنا، و فشلنا الذريع في كثير من المناسبات في تطويعها لتناسب وضعنا الحضاري والثقافي المرتبك…  

العدد الثاني والثلاثون ثقافة وفكر

عن الكاتب

سعيد الحاتمي