حُب وفقد وغياب على ياسمين سعيد الهاشمي

(أ)

يا سعيد.

(ب)

أتدري ان أجمل ما في الحب هو انه تدريب باهظ، ومستمر، وقاسٍ، ومضطرب للغاية على الغياب؟.  يريد الحب أن لا تلتفت إليه بعد أن ينصرف (أو هكذا يتظاهر لأنه يشكُّ دوماً في ان الرسالة قد وصلتك حيث غيّب عنك من غَيّب إلى الأبد أو مؤقّتا بسبب إحساسه انك من تلاميذه النجباء، ولا يزال يثق بك).  يجيئك الحب كي يقدم لك رضعة واحدة من ثدي أمك أو آخر ابتسامة من روح أختك وهي تموت أمامك على الرمل في ظهيرة قائظة، ولا يتورع الحب بعد ذلك عن الغيلة لا في النهار ولا في الليل؛ لأن الحب لا يستطيع أن يفهم نفسه سوى بإعتباره أعظم مُزارِعٍ في التاريخ.  الحب لا يطيقك لأنه يدرك أنك لا تستطيع أن تتحمل نفسك من دونه ولو أفقدك الكثير من العمر وصحة الجسد والنفس.  الحب غريب الأطوار، ولذلك فإنه يلقي الأطوار كلها في حضنك، ثم يذهب ليعيد التعرف على نفسه في أطوارك.  إذا التقاك المحبوب فأنت التقيته، وإذا غاب عنك المحبوب فأنت أحببته، وإذا التقى بك المحبوب مرة أخرى فأنت خسرته:  سيمضي العمر كله ونحن في أول فهم الحب، لأنه لم يحدث لنا سوى الحب، وهذا من حُسْنِ العذاب لأننا لم نتعلم في غير مدرسة الحب.  يريد الحب أن يقول لك انه ليس من شيء على هذه الأرض سوى القسوة، فاقرأ كتاباً في السجن أو ازرع ياسمينة على ضحكة جدتك.  يريد الحب أن يترك في يديك كل المفاتيح وهو يدرك انه أخذ كل الأقفال.  يريد الحب أن يكون عظيماً كأن يجعلك تقرأ كتباً في السجن.  ويريد الحب أن يجعلك بسيطاً كأن تقول لبسمة مبارك، وباسمة الراجحي، وناصر صالح، وعبدالله الغيلاني، وبدر الجابري، وخالد النوفلي، ومحمود الرواحي، ومختار الهنائي، ومحمد الفزاري، ومحمود الجامودي:  تلقيت اليوم رسالة من صديقي وهو يقول لكم انه يحبكم، و”يحاتيكم”، ويخاف عليكم، ويهديكم السلام.   يريد الحب أن تكون أكثر الأيتام ألماً لأنه يستطيع أن يحبك أكثر فقد أصبح كل الأمهات.  لكن الحب يسألك:  إلى أين ستمضي الآن؟، فترد عليه:  إلى حيث ستمضي أنت.  الحب هو أن تتوقع أطول نصل في العالم مغروزاً في الظهر وأنت لما تنته من القبلة بعد.  الحب هو أن يتركك الجميع تحديداً وبالضبط لأنك كنت تبحث عن الجميع كي تحبهم، فلا تنسى لأن الحب يعلمك القدرة على التظاهر بالسهو.  الحب يَعِدُكَ بأراضي سبع قارّات كاملة، ثم لا يهبك سوى قطعة تراب أصغر من القلب كي تزرع عليها كل ياسمين العالم.  يُفْرِّطُ الحب في نفسه حين يريدك، وأنت بعد ذلك لست إلا نسياً منسيّا؛ لأن الحب لا يريد أن يرفع رأسك فوق السحاب، بل أن يجعل قدميك موطن المطر.  يريد الحب منك أن تتحلى بالحزن.  يخاف عليك الحب إذا أحس أنك تورطت في غيره، ولذلك فإنه يعود إليك من غيومه الكثيرة كي يصرخ في وجهك:  أين أنت؟!، لقد افتقدتك!.  ومع ذلك فليس الحب أن تكون متواضعاً بل أن تكون قادراً على الغضب في أية لحظة (وأن تتحمل النتائج).  للحب قائمة طويلة من المهمات التي نجح في بعضها وأخفق في بعضها، وبعد هذا يصبح الصفح والغفران ضرباً من قلة الأدب.  يريد الحب أن يحرجك في الزوايا الصغيرة والعسيرة لأن الحب لا يفهم الهندسة والجَبْر أصلاً (ولا يعرف الحب أن العرب هم من اخترعوا رقم “صِفْر” أصلا).  الحب أخرق لأنه لا يزال يعيش في العصر البدائي، ويريد منك أن تتعب من كل المواعيد وكل العصور.  أتدري أن الحب يشبه الموت لفرط حنانه؟.  أتدري انه إذا كنت قادراً على الحب فعليك أن تتمرّس على الفقد والغياب أولاً، وبغير ذلك ليس لك في بلاد الحب كلها زاوية أو مكان.  أتدري انه إذا كنت قد أحببت فإن الحب لا يستطيع أن يمنحك شيئاً للبحث عن عاطفة أخرى؟.   والحب هو أن تريق كل العمر لأجله، ثم يعتذر لك كل العمرعن إسعافك بجرعة واحدة، فالحب يطالبك أن تبذل كل عمرك لأجله لمجرد انه مرَّ بك لحظة واحدة فقط؟.  أتدري ان الحب هو أن محفوظة حبيب قد صارت أختك؟.  أتدري أن الحب هو ان اسم أمّك قد صار مريم، وان اسم أُمّي قد صار سعيدة؟.  والحب هو أن لا يعرفك أحد.  أتدري أن الحب هو أن تمضي فقط، لكن بشرط أن تحمل كل الدرب الذي خلفك، وكل الدروب التي كانت قبلك؟.  الحب هو أن يجحدك الجميع فتموتَ بسالةً في أحشائك، ثم تبتسم وأنت تُحْتَضَر؟.  أتدري أن الحب هو سحابة بسيطة بالكاد تدركها فناجين القهوة في الصباح؟.  أتدري أن الحب هو أن تفعله بالكامل، ولا تنتظر شيئاً منه بعد ذلك (مثل المعروف كما تودِعُه البحر في شيء من أقوال مأثورنا الشعبي هنا في عُمان)؟.  أتدري أن الحب مثل البحر لا يريد شيئاً أكثر من زرقته؟.  وهل يرتضي النبيذ جرعة واحدة فقط؟.  كلا؛ فإما أعناب الأرض كلها أو الظمأ حتى الحتف (“إمّا الوطن وإمّا الموت” على رأي تشي غيفارا في صرخته التاريخيّة الشهيرة).  الحب لا يطيق البقاء، ولكنه يريد البكاء، وقلّة يستطيعون بكاء الحب.  والحب لا يأتيك أبداً بعقلية الربح بل من حساسية الخسارة لأنه يريد أن يفوز بك دوماً حين تكون مُفْتَقَدَاً ويفترض أنك قادر على تحمل كل آلام الفرح، أو الانبثاق سعيداً في الآلام.  أتدري أن الحب شيء مثل جذور أرواحنا التي تريد العودة إلى هناك، لكن فقط حين نكون قد حقَّقنا شيئاً هنا؟.  الحب هو القدرة على الرحيل أمام كل هذه الحقائب.  الحب هو الهشاشة الهائلة أمام أصغر قَشَّة على الأرض.  الحب هو أن تكون قلقاً أمام الصباح وصَبُوحاً في الزمن، وأن لا تفتقد القدرة الدائمة على البكاء مع ذلك.  أتدري أن أروع ما في الفقد هو انه الشهادة التي يمنحك إياها الحنين وأنت تنوح وهو لا يدري (والآخرون أيضاً لا يعلمون، ولا داعي لتوريطهم في هذه المغبّة من الأساس)؟.  لكن الفقد كريم جداً، مع ذلك، لأنه يعينك في كتابة الحياة (والموت أيضاً).  الفقد أخٌ لئيم لأنه لا يصارحك أن أصابعك ترتعش وهي تكتب “ألف، باء، تاء…”، “ياسمين على الغياب”، وانه آن أوان الغيبوبة.  يريد الفقد أن ينصرف ليس إلى السماء ولكن إلى روحك بالضبط ومباشرة، فتلك هي مسؤوليته الوحيدة.  وأخيراً فإن الحب هو أن تكونَ في وضع تكونُ فيه ” قلوبهم معك وسيوفهم عليك”، والحب هو أن لا أحاول أن أقول لك أي شيء عن الحب، وأن لا تحاول أن تقول لي شيئاً عن الحب، ولا أن يحاول الحب أن يقول لنا شيئاً عن نفسه، ولا عنّا، وأن أنسى اني كتبت لك هذه الرسالة الليلة.

 

(ج)

يا سعيد:

أتدري كم افتقدك؟.

أتدري كم أحبك؟.

 

(د)

يا سعيد.

 

أدب العدد الثالث والثلاثون

عن الكاتب

عبد الله حبيب

كاتب وأديب