نظرية المؤامرة : خلفياتها التاريخية ، و تداعياتها المعاصرة الجزء ( ٢)

التداعيات المعاصرة لنظرية المؤامرة
و لقد وجد كل من الأنظمة الظالمة المستبدة ، و القوى الاستعمارية القائمة على نظرية المؤامرة ، مصلحة مشتركة في دعم و عضد كل منهما للآخر،   فوافق شن طبقة ، و كان ما كان من أمر التحالف الإستراتيجي الضمني و الصريح ، المعلن و غير المعلن ، بين تلك الأنظمة و القوى الاستعمارية الطامعة . فعملت الأولى ( التي هي الأنظمة ) على ضمان الوجود الاستعماري ، الاقتصادي و الثقافي في المنطقة ، و أمنت له الاستمرار في نهب الثروات الوطنية ، و تجهيل الشعوب و تغييبها عن ساحات العلم و العمل و الفكر و الإبداع الرصين ، و ذلك بسيرها الواعي و اللاواعي في تطبيقات النهج الاستعماري التآمري ، عبر سياساتها اللاوطنية التي تبنتها في بلدانها ، و التي تمثلت في احتكارها للسلطة السياسية ، و إلغائها للديمقراطية و مصادرتها للحريات و الآراء و المشاركات الجماهيرية في الحكم وفي صياغة المستقبل … السياسات التي  تمركزت في  كيفية ضمان بقائها ، كأنظمة و حكام ،  إلى النفَس الأخير ، بأية وسيلة كانت ؛ و كذلك في السياسات التي تمحورت حول كيفية توفير الكسب الشخصي الفاحش و اللامشروع لها  و لحاشياتها ، و عناصرها  المتنفذة ؛ و ما نجم عنه بالتالي من توسيع للهوة الطبقية في المجتمعات التي تحكمها ، و سحق للطبقة الوسطى و تحويلها إلى طبقة فقيرة ،  وجدت نفسها مع الأيام في واقع يزداد فيه الفقراء فقرا و الأغنياء غنى و ثراءً .

     و عملت الثانية ( أي القوى الاستعمارية ) ، بالمقابل ، على حماية عروش أولئك الحكام  و ربطهم بفلكها مسيراً و مصيراً ؛ غارسة  في أذهانهم  بعد شرائها لذممهم ، بأن وجودهم من وجودها ، و زوالهم من زوالها ، فهي الحارس الأمين لعروشهم في وجه الطامعين فيها من شعوبهم.

و لقد خُلقت و جُندت ، في سبيل استمرار أوضاع هذه البلدان و شعوبها كما هي،  دونما أي تغيير جوهري يذكر ؛ كل الأجهزة و الوسائل القمعية التي تخطر و التي لا تخطر على البال. و جُندت،  في الوقت ذاته ، عبر شتى وسائل الإعلام كل المقولات التراثية المختارة الداعية للاستكانة و الخضوع  و الاستسلام و الرضى بما قسم المليك للإنسان من مصير ؛ من مثل:
” دع الأيام تفعل ما تشاء … و طب نفساً بما حكم القضاء ”
بل و أُخذ حتى من ظاهر الآيات القرآنية الكريمة ، ما يناسب تعزيز ذلك التوجه،  من مثل ” و أطيعوا الله و رسوله و ذوي الأمر منكم ” دون البحث أو النظر في شروط الطاعة لذوي الأمر

( بأن يكونوا القدوة الحسنة في السلوك و القيم التي يدعون إليها الأمة ) … فسُخِرت القوانين و التشريعات و المعتقدات و القيم المعرقلة المثبطة ،  لتركيع و لجم الشعوب ، و صار كل خروج على الحاكم ، مهما كانت سيئاته و سوءاته ، يًعَد ، شرعا و قانوناً ، شقاً لعصى الطاعة ، و خروجاً على  أوامر الإسلام و نواهيه ، و خرقاً للقوانين و القيم و المعتقدات السائدة ، يستوجب الردع و العقاب .

و لو شئنا أن نستعرض مؤشرات التطبيقات العملية ، المعاشة و الواقعة لنظرية المؤامرة في بلداننا العربية ، لوضع النقاط على الحروف في هذا الموضوع،   لطالت بنا القائمة ، و لكننا سنوجزها لماما في النقاط التالية :-

1) انتشار ، إن لم نقل سواد ، ظاهرة الفقر و الجهل و التخلف لدى قطاع كبير من سكان أرضنا العربية ؛ رغم ما تتمتع به هذه الأرض من ثروات طبيعية هائلة ، لا تتوفر لكثير من الدول التي صارت اليوم في قمة التطور والتقدم و الازدهار الاقتصادي و التكنولوجي و العلمي؛   إلا أننا نجد أن بلداننا ما زالت في ذيل قائمة الدول المتخلفة المعروفة بدول العالم الثالث ، علميا و تكنولوجيا و صناعيا و اقتصاديا ، و أن غالبية أبنائها فقراء يعيشون الكفاف ، بل و أن كثيراً منهم مازال يحيا تحت خط الفقر المتعارف عليه عالميا ؛ كما  أكد ذلك ، تقرير صادر ، في 2009، عن الجامعة العربية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي  ، أن (140 ) مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر، أي 40% من سكان الدول العربية.

2 ) غياب أو هشاشة و ضعف البنية التحتية الأساسية في أغلب الدول العربية ، من مياه صالحة للشرب ، و شبكات الصرف الصحي ، و كهرباء و مواصلات و مؤسسات تعليمية و صحية و خدمية أخرى،  رغم توافر شتى مقومات النهوض الطبيعية و البشرية و المادية ، و رغم مرور أكثر من خمسين عاما على حصول غالبيتها  ، على ما يسمى بالاستقلال الوطني . في الوقت الذي كفت 22 سنة محمد مهاتير ليحول ماليزيا ، بإمكاناتها الطبيعية المتواضعة ، إلى واحدة من أرقى الدول ، و أعظم نمر من النمور الآسيوية.

3) هزالة و عقم نظم التعليم و التدريب في بلادنا العربية ، المتمثل في  فشل المؤسسات التعليمية و التدريبية في احتواء و تطوير مخرجات المراحل الدراسية المختلفة ، و الإخفاق في تخريج أو إيجاد الكوادر العلمية و المهنية المحلية الكفوءة ، التي يعتمد عليها في بناء مستقبل الأوطان و صون و حماية استقلالها الوطني ، و خروجها من دائرة الوصاية و التبعية للقوى الأجنبية في توفير الخبرات العلمية و العملية الوطنية اللازمة لأية نهضة حضارية بأي بلد من البلدان . و النتيجة هي استمرار تفشي الأمية (أمية القراءة و الكتابة !!) بين شعوب البلدان العربية بنسب متفاوتة كبيرة ؛ ( بلغت نسبة الأمية 30% من 300 مليون نسمة في الوطن العربي، بناءاً على تقرير في كانون الثاني من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم للعام 2009 ) و اكتضاض شوارعها بجيوش من أنصاف المتعلمين و الباحثين عن العمل ،  و ما يعنيه ذلك ،  في نهاية التحليل ، من هدر و تضييع لأعظم ثروة وطنية ، ثروة الطاقات البشرية الهائلة الخلاقة ، التي تعتمد عليها الأوطان في بناء نهضتها و إثبات وجودها وصنع مكانتها المميزة بين الأمم .

4) غياب أو ضعف مؤسسات البحث العلمي الجاد في كل الأقطار العربية ، المتجسد في غياب الاحتضان و الدعم الحكومي ، المادي و المعنوي الفعال لأنشطته و مبادراته ؛  “حيث تشير إحصاءات منظمة اليونسكو العالمية في العام 2008 إلى أن الدول العربية مجتمعة قد خصصت للبحث العلمي ما يعادل 1.7 مليار دولار فقط ، أي ما نسبته 0,3٪  _ و قيل في إحصاءات أكثر تفاؤلاً 1,1% _ من الناتج القومي الإجمالي ..بينما يقابله صرف ( 1100مليار دولار ) على الإنفاق العسكري،  و( 300 مليار دولار )  على الإعلانات ، و ( 500 مليار دولار) على التبغ و السجائر!! … في حين وصل حجم الإنفاق على البحث العلمي في إسرائيل ، مثلاً ، حوالي 9 مليار دولار ، أي ما يعادل 4,7 ٪ من إجمالي دخلها العام !! “

” و بالنسبة لبراءات الاختراع ، وهي المؤشر الأكثر تباينا بين العرب وإسرائيل ، فقد سجلت الدولة العبرية ، حسب نفس تقارير المنظمة العالمية ، ( 16805 ) براءة اختراع ،  بينما لم يسجل العرب مجتمعين سوى ( 836 ) براءة اختراع في كل تاريخهم المعاصر “

(المصدر : نهال قاسم في شبكة الأخبار العربية 22/8/2012)

فتلك هي إسرائيل الدويلة ، ابنة النصف قرن من الزمان ، و ما آلت إليه من  امتلاكها القنبلة الذرية ، و إنتاجها لكل ما تحتاجه ، من الإبرة إلى الصواريخ و الطائرات الحربية المتطورة .  و تلك هي ، بالمقابل ،  أمتنا العربية ، ابنة العشرات من القرون ، و التاريخ المؤثل ، و الثروات الطائلة ، لم يفلح قطر فيها من تصنيع مركبة في شوارعه ، و لا بناء مصنع فيه الآلة من إنتاجه .

و المحصلة النهائية لهذا الضعف في ميدان البحوث العلمية و التطبيقية،  كانت هي استمرار اعتمادنا في تسيير أمور بلداننا على الخبرات و الصناعات الأجنبية. و تحولها إلى مجرد أسواق استهلاكية للمنتجات الغربية و الشرقية … و الاستقلال الحقيقي لأي بلد يكمن في قدرته على توطين العلوم والمعارف ، و امتلاكه للآلة المنتجة للآلة ؛ أما وجود شتى الأنواع المتطورة من الأجهزة و الآلات و المعدات المستوردة في أي بلد ، فلا يعد مؤشراً لنموه أو تطوره ، بقدر ما يعني مزيدا من  التبعية و الخضوع لهيمنة و تحكم الدول المنتجة لتلك الآلات و الأجهزة ، و ارتهان المصير الوطني بإرادتها في تشغيل و صيانة الأدوات التي تقوم عليها العمليات الإنتاجية التي تتحكم في عصب الحياة  ؛  و… ” ويل لأمة تأكل مما لا تزرع ، و تلبس مما لا تصنع ، و تشرب مما لا تعصر ” كما قال ذلك _ منذ زمن _ جبران خليل جبران.

5) تغييب و تهجير العقول العربية ؛ و هذا أكبر مؤشر على تطبيقات نظرية المؤامرة في عالمنا العربي ، فقرار وضع حدود له في اكتساب و امتلاك العلم و المعرفة،  أدى إلى خلق بيئة طاردة لا حاضنة للعقل و الإبداع  ، نجم عنها تفريغ بلداننا العربية من عقول أبنائها المبدعين بواحد من ثلاثة أساليب قاضية هي :

 

  • بالإجبار على الهجرة و الإغراء بالعمل في إحدى  البلدان الغربية ، حيث توافر الإمكانات و الدعم اللامحدود للبحث و الإبداع ، في ظل غياب كل الحوافز عندنا  ، و هزالة الإمكانات و الإمكانيات اللازمة لإخراج الإبداعات و الأفكار من حيز النظرية إلى حيز التطبيق و الإنتاج العملي .  و الأمثلة هنا لا حصر لها على وجود العقول العربية الفذة في شتى المجالات في هذا القطر الغربي أو ذاك .

  • أو بالاغتيال و التصفية الجسدية ، كما فعلت إسرائيل مع مهندس المفاعل النووي العراقي الدكتور المصري يحيى المشد ، و العميد محمد سليمان مدير مشروع المفاعل النووي السوري . و القتل و التشريد الذي مارسته و ما زالت تمارسه الموساد و وكالة المخابرات الأمريكية في حق المئات إن لم يكن الآلاف من العلماء العراقيين بعد الدخول الأمريكي للعراق . و ما قصف إرهاصات المفاعلين  النوويين ، العراقي و السوري ، إلا دليل حي لاستهداف هذه الأمة ، و المحاولات الدؤوبة لمنعها من امتلاك التقنية و مقومات التقدم العلمي .

  • أو بالتهميش و وأد العقول المبدعة ، بعدم احتضان إبداعاتها و اختراعاتها من قبل الحكومات المحلية ، و الاقتصار في أحسن الأحوال على تشجيع المبدع او المخترع  بهدية رمزية و شهادة شكر مبروزة  ؛ ثم من بعد ذلك دفن إبداعه أو اختراعه في سلة المهملات أو أدراج النسيان .

 

6) الصراعات الأهلية الطافية على سطح الكثير من بلداننا العربية ، الناجمة عن  الخلافات الطائفية و المذهبية و العرقية و العقائدية ، الناتجة عن النفخ المستمر و المنظم من قبل القوى الاستعمارية  و عملائها ، في جمر تلك الخلافات الساكن تحت الرماد ، و انتهاز كل فرصة سانحة لتفجير قنابلها الموقوتة ، و إشعال نار الفتنة و الحرب و التطاحن بين أبناء الوطن الواحد . و الأمثلة على ذلك كثيرة ، في أحداث التاريخ العربي الحديث ؛ كتلك الحروب الأهلية التي وقعت _ و مازا بعضها مستمرا _ في كل من لبنان و سوريا  و العراق ، و في السودان و اليمن .  و هناك المحاولات اللاهثة المسعورة لجر باقي البلدان العربية لهذا المستنقع ، كليبيا و مصر و البحرين و السعودية ، و تجزئة البلد الواحد إلى أكثر من كيان سياسي ، كما حدث قريباً في انفصال السودان و تجزئته إلى دولة في الشمال و أخرى في الجنوب . و قد تمتد هذه التجزئة السياسية لتشمل بلداناً أخرى ، كالعراق و سوريا ، وتتحول إلى كانتونات متشرذمة  ، كما توحي به بعض مؤشرات الأحداث الأخيرة ، إن لم ينتبه لهذا التآمر ، و يفشلوه ، شرفاء و أحرار البلدين.

7) الصراعات الناشئة عن المناطق الحدودية المتنازع عليها بين البلدان العربية . فلا نجد ، أو يكاد , بلدا عربياً إلا و له مشاكل حدودية مع البلدان المجاورة له . و ذلك أمر مقصود مبيت و مرتب سلفا ، فمن رسم خرائط و حدود كل الدول العربية هو الاستعمار  الذي كان يحتل الأرض العربية من مشرقها للمغرب … و قد تعمد وضع مناطق تكون محل خلاف و نزاع بين حدود كل دولة و دولة ، لتنشغل الحكومات و الشعوب ببعضها و تنصرف عن عدوها الأساسي ، و عن بناء أوطانها و قيادتها نحو آفاق التقدم و التطور … و الأمثلة على ذلك كثيرة ؛ ففي منطقة الخليج،  خلاف الإمارات مع إيران حول جزر أبو موسى و طنب الكبرى  والصغرى . و مشكلة البريمي ( التي كانت بين عمان و الإمارات و السعودية ) ؛ و مشكلة جزر حوار بين قطر و البحرين . و الصراع على حقول الرميلة و الشعيبة النفطية بين العراق و الكويت .

و الصراع على عربستان بين العراق و إيران ، و على لواء الإسكندرونة  بين سوريا و تركيا ، و على مثلث حلايب بين مصر والسودان ، و على الصحراء الكبرى بين المغرب و الجزائر … صراعات لا ينتهي دخانها ، و لا تخمد نيرانها ، حتى تتجدد و يُنفخ في جمرها بعد حين . فتذهب ريح الأمة و تهن عزائمها في مواجهة الذئاب المفترسة المتربصة بها من كل حدب و صوب .

 

8) تحطيم فئة الشباب و تفريغها من محتواها ، بوصفها عماد أية أمة وقوامها ؛ و ذلك عبر طرق جهنمية شتى منها :

 

  • تكبيلهم بالديون ، بعد غرس ثقافة الاستهلاك و التفاخر بالمظاهر بين صفوفهم ، و فتح أبواب البنوك على مصراعيها أمامهم للغوص في وحل المديونيات البنكية … فنجد ما تتجاوز نسبته  90% من عامة الشعب ، لاسيما فئة الشباب ، غارقة إلى أذنيها في الديون ؛ إما لبنك من البنوك ، أو لشركة للتمويل ، أو لتاجر أو لصديق ميسور.  و الدَّين من أعظم الأغلال لحرية الإنسان و قتل طموحاته،  فهو_ كما قيل فيه _ ذلٌ في النهار ، و هَمٌّ في الليل… فلا يبقى للإنسان المدان من حُلُمٍ أو من طموح في حياته ، سوى تخليص نفسه من نير الديون التي ينوء بها كاهله و تكبل عقله و فكره .

 

  • بتشجيعهم و إغرائهم على إدمان الخمر و تعاطي المخدرات .  فما تشهده بلداننا العربية من هجمة ضارية لتهريب الخمور و المخدرات ، و من ترويج لها بين صفوف الشباب ، من قبل عصابات و عناصر إجرامية  محترفة ،  إن هو إلا فعل منظم مدروس ، ليس القصد منه مجرد البحث عن الثراء فحسب ، و إنما المستهدف الأساسي لذلك هو تحطيم فئة الشباب و إلغاء دورهم الفاعل في بناء الأوطان . حيث يغدو المدمن لا هم له و لا تفكير سوى في كيفية الحصول على المال ، بأية وسيلة كانت ، لشراء تلك المادة التي تغلغلت في جسده و استعبدت حياته ، فيتحول من إنسان فاعل منتج ، إلى كائن طفيلي مدمر ، عالة على نفسه و على عائلته و مجتمعه . و قد يغدو في أحيان كثيرة ، قدوة سيئة لأبنائه فيدمرهم معه باكتسابهم لعاداته. فتتوسع المأساة وآثارها الخطيرة.

 

  • إفراغ الشباب و تجريدهم من المبادئ والقيم الأخلاقية الرفيعة ، و  دفعهم نحو الانحطاط السلوكي و القيمي ، و السعي لتحويلهم إلى فئة هامشية بهيمية ، لا هم لها سوى أتباع نزواتها و إشباع غرائزها الجنسية ، بشتى الأساليب و الطرق غير المشروعة  ، عبر نشر شبكات الدعارة و إثارة الغرائز الشهوانية  بالأفلام و الفيديوهات الإباحية التي أصبحت في المتناول ، كأشرطة مهربة تهريبا منظماً ، أو في مواقع الشبكة العنكبوتية ؛ و متى ما تحول الجنس إلى هدف وغاية عند أي إنسان ، يصبح تفكيره تلقائياً منحصرا في نصفه السفلي من جسده ، و لن يكون لنصفه العلوي أي نصيب من الحصافة أو الفكر و التأمل في أي جانب آخر من جوانب الحياة . و لحظتها تصفو الساحة لقوى التآمر لتنفيذ خططها في البلاد دون خوف من حسيب أو رقيب .

 

  •  لعبة كرة القدم ، التي أصبحت بحق أكبر ملهاة للشعوب ، و نوع جديد من العصبية القبلية الذميمة ، تحول معها الشباب إلى حال هو أشبه ما يكون بالإدمان ، كلاعب لها، أو متفرج لفعالياتها ، أو مشجع لهذا الفريق أوذاك من الفرق المحلية (كالانقسام المزري الشهير في الشعب المصري بين زملكاوي و أهلاوي ) أو للفرق الأجنبية (كريال مدريد وبرشلونة ) , التي دخل حتى  الإعلام الوطني في تشجيعها و ترسيخها لدى فئة الشباب بإنتاج و بث أغان و أهازيج لهذه اللعبة أو لهذا الفريق أو ذاك _ كأغنية ” هذي الدائرة الساحرة ، الساحرة ” المعزوفة على لحن النشيد الأممي (!!) ، و أهزوجة ” برشلوني برشلوني ” في الإعلام العماني …. لعبة نخرت كالسوسة في بناء الشعوب ، و مزقت لحمة أبنائها و حكوماتها أيضاً ، و ليس ببعيد عنا ما وقع بين الجزائر و مصر من شحناء و عداوة بين الشعبين و الحكومتين ، بسبب المباراة التي كانت بينهما في الخرطوم في  26 يناير 2010.

 

  • و من لا تفيد معه من الشباب كل تلك الملهيات و الإغراءات أو الأحابيل ، و انصرف للحياة الجادة و ممارسة الأعمال الرصينة  ، و كان موظفاً في قطاع حكومي أو خاص ، أُغرق بتكليفه بمهام و مسؤوليات تنوء لثقلها الجبال ، و بلا صلاحيات تذكر ؛ فتُكبَّل طاقاته و تقتل طموحاته وتطلعاته ، فلا يغدو له من الوقت ما يفكر فيه في أي شيء سوى اللهاث لإنجاز المهام المناطة به في عمله الرسمي الذي يعيش عليه و يقيم به أود أسرته .

 

  • و من لم تُجْدِ معه كل تلك المصائد و الشِّباك و العراقيل ، و اتجه لشيء من الفكر و التأمل في أحوال الشعب و الوطن ، و أراد أن يقول كلمة في واقعه البائس و حقه المهضوم ، أُشرِعَت الحِراب في وجهه , و شُرِّعت له أبواب المحاكم الصورية و زُجَّ  به _تحت أية ذريعة _في غياهب السجون . أو مورست معه حتى التصفية الجسدية في بعض الأحيان ، بحادث من حوادث القضاء و القدر !!

9) ظهور طبقة طفيلية ، نزل عليها الغنى و الثراء الفاحش بين عشية و ضحاها ، و بروزها كالفطر ، على سطح مجتمعات هذه البلدان، تسمى البطانة أو الحاشية أو التابعين و الحرس  ، يغدق عليها الحاكم من عطاياه الفاحشة نقوداً بعشرات الآلاف ، و أراض بعشرات الهكتارات و الكيلومترات ، و عقاراً من أضخم و أفخم البنايات ، و سيارات من أرقى و آخر الموديلات ،

و لا دور لهذه الفئة  سوى التصفيق و التنميق للحاكم ، و التزويق و التسويق لنظام حكمه الفاسد،   تحيط به كالسوار ، و تقيم حوله السدود و الأسوار ، التي تمنعه حتى عن التواصل مع شعبه ، فيثير وجودها على هذا النحو المبتذل و المتنفج ، عند باقي شرائح المجتمع السخط و الاستياء و التذمر لشعورها بالحيف و الاجحاف في حقها و العدالة ، و يعمق الهوة بالتالي ، بين الحاكم و شعبه ، و يخلق الفرقة و التباغض بين أفراد  المجتمع الواحد ، عندما يصبح الأمر فيه ، هذا من شيعتي فأدنيه ، و هذا من عدوي  فأقصيه ؛ ولدى  حدوث أي حراك شعبي ، تكون مهمة هذه الفئة سحل وسحق كل من يقول ” لا ” أو ” كفى ” و “لماذا ؟” ،  فيضرب _كما يقال  _ اللوز باللوز و الجوز بالجوز ؛ و تصفو الساحة عندها لفعل الذئاب و الثعالب الماكرة ، في ظل انشغال أبناء البلد الواحد ببعضهم عمن سواهم . و هو المطلوب في نظرية المؤامرة .

كل تلك الحيثيات تؤكد بشكل قاطع لا يقبل الشك او الجدال بأن المؤامرة ، كنظرية و تطبيق ، موجودة فعلا ، و لكن ليست على الحكام أو الأنظمة الحاكمة فحسب ، بل هي أولاً و قبل كل شيء على البلدان العربية ، ثرواتٍ و شعوباً …على نضالاتها الجماهيرية وانتفاضاتها الشعبية ، التي أدركت القوى الاستعمارية حتمية وقوعها بقراءتها التاريخية و فهمها للعوامل الموضوعية و الذاتية لحدوث الثورات في المجتمعات الإنسانية ، فخططت مسبقا لاغتيالها أو احتوائها أو تشويهها قبل قيامها بعقود من الزمن ، لتبقي على وجودها في المنطقة و استغلالها لخيراتها أطول فترة ممكنة .
و هذا ما حدث فعلاً و تحدث ترجمته في بلدان الربيع العربي ، حين تدخلت الدول الاستعمارية و الإمبريالية و حشرت أنفها في انتفاضات الجماهير ، و أظهرت وقوفها بجانب الثورات ، ليس حبا في تلك الشعوب الثائرة أو تعاطفا إنسانيا معها ، بل اصطياداً  في الماء العكر لأربعة أهداف رئيسية خبيثة هي :-
–  الأول ؛ هو محاولة تشويه صورة تلك الثورات في نظر الوطنيين البسطاء و القصيري النظر، و الإثبات بأنها من صنع مؤامرة خارجية،  بدليل وقوف القوى الاستعمارية  إلى صفها و تأييدها لها في الإطاحة بالنظام  .
–  الثاني ؛ هو إحراج هذه الثورات ، و إجبارها على التعاون معها ، حين ترسل لها قارب الإنقاذ لحظة  الغرق ، فيتشبث به الثوار تشبث الغريق بالقشة.  و هي تفعل ذلك لا من باب تقديم المعروف أو النجدة الإنسانية ، و إنما  أملا في استمرار تواجدها و بقاء مصالحها في تلك البلدان،  كما كانت قبل الانتصار،  من باب كما تدين تدان .
–  الثالث ؛ هو تشغيل مصانعها الحربية الراكدة  بتجارة السلاح الذي تبيعه في السوق السوداء لهذا و لذاك من أطراف الصراع . و لها من بعد ذلك ليس أحد الحسنيين ، بل كليهما :  الأرباح الطائلة من بيع السلاح  ، و بلاد غنية مشلولة القوائم ، ترتع فيها و تسرح بمؤامراتها و دسائسها  كيف شاءت .
–  الرابع ؛ هو إطالة أمد الصراع إلى أقصى فترة ممكنة ، لإنهاك قوى تلك البلدان ، و تدمير بنيتها التحتية على أوسع مدى ، لتستثمر ، فيما بعد ظروف الانهيار و الدمار ،  في تشغيل مصانعها و شركات البناء و التعمير التابعة لها ، فتكبل حكومات الشعوب الثائرة  بالديون و الاتفاقيات الاقتصادية المرهقة ، تحت شعار إعادة الإعمار الذي لابد منه

 

تلك هي المؤامرة الحقيقية التي حيكت و مازالت تحاك ضد هذه الأمة .  و كان من نتائج الجهل بها و عدم إدراكها حتى من بعض النخب المثقفة ،  أن وقعت شعوب المنطقة في حيص بيص أو بين المطرقة و السندان ، مطرقة الظلم و الاستكانة ، و سندان الاتهام بالعمالة و الخيانة؛   فهي ، قبل أن تثور في وجه حكوماتها الظالمة المستبدة ، كانت في نظر الكثير من المثقفين المزايدين على الوطنية و الثورية ، رمزاً للجبن و الاستسلام و الخور ،  و عندما انتفضت و ثارت و أطلقت صرختها المدوية المطالبة بالعدل و الحرية ، صارت لديهم نصير الإمبريالية و الصهيونية ، و أداتها  في إحداث ما يسمى بالفوضى الخلاقة و رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد، التي طرحتها فعلا تلك القوى الاستعمارية  كضربة استباقية ضد الثورات العربية التي عرفت بأنها قادمة لا محالة ، فعملت على محاولة و أدها أو حرقها و تشويه صورتها لدى الفئات التي لا تنظر أبعد من أنفها .

      أما حقيقة الموقف الاستعماري من هذه الثورات الجماهيرية ، فهو كما شهد به شاهد من أهله ، نعوم تشومسكي الذي قال في  23/10/ 2012 بالجامعة الأمريكية بالقاهرة  :” إن واشنطن تخشى قيام ديمقراطيات حقيقية بمنطقة الربيع العربي ، لأنها في نهاية الأمر لن تخدم مصالحها و توجهاتها في تلك المنطقة !! “

و قبل الختام ، رب قائل يقول ؛ بأن الأمة العربية هي ليست الأمة الوحيدة في العالم ، التي تعاني من تآمر أعدائها عليها ، فليس من أمة في الأرض ، و عبر التاريخ ، إلا ولها أعداء  و خصوم ، يسعون جاهدين للنيل منها و التفوق عليها . و هذا صحيح مئة بالمئة … و لكن الصحيح أيضاً هو أن نوعية التآمر و حجمه مختلف من أمة لأمة ، و من زمان لآخر …. و المؤامرة التي تتعرض لها الأمة العربية و شعوبها ، مؤامرة تختلف في حجمها و نوعها ، و في خبثها و شمولها عن أية مؤامرة  حيكت ضد أية  أمة من أمم الأرض السابقة و الحاضرة و ربما اللاحقة أيضاً …فجُلُّ إن لم نقل كل المؤامرات التي تحاك على هذه الأمة أو تلك ، من أية جهة ؛ …كانت ، و ما تزال ، إلى حد ما ،  مؤامرات ذات طابع حربي أو عسكري ، تهدف في آخر الأمر إلى إنزال الهزيمة بها ، أو في أسوأ الأحوال إلى احتلالها و بسط الهيمنة العسكرية عليها . .. أما المؤامرة التي تعرضت ، و ما زالت تتعرض  لها الأمة العربية فقد وُضِعت _من قبل كل القوى الاستعمارية و الصهيونية العالمية العاتية ،  و بُنيت على رؤية شاملة تناولت ، ليس احتلال بلدان هذه الأمة و نهب ثرواتها فحسب ، بل نخر و تفتيت جسدها الجغرافي و البشري بشتى الأساليب الخبيثة و اللئيمة ، الممنهجة و المخططة ، القائمة على فهم عميق و مدروس لسيكولوجية الإنسان العربي،   و أنثروبولوجيا مجتمعاته القبلية ،  و التي أشرنا إلى بعض منها في صلب المقال . و ما تؤكده ، أيضاً، الأحداث المفتعلة التي  تقع من آن لآخر داخل بلداننا العربية أحيانا ، و أحيانا أخرى خارج هذه البلدان  ، تلك الأحداث التي لا يقصد منها ، في نهاية التحليل ،  سوى خلق و إشعال نار الفتنة  الداخلية ، و ضرب الشعوب ببعضها و بحكوماتها المحلية  ، و ذلك بحرق كنيسة هنا ، مثلاً،  أو التعدي على حرمات مسجد هناك ؛ أو بالكتابات و الأفلام المسيئة للإسلام و رموزه الطاهرة  في هذا القطر أو ذاك من الأقطار الغربية  ، و ما يعقبها بالتالي من ردات فعل غاضبة عفوية (معروفة مسبقاً لدى مسببيها ) ، تقسم الشارع العربي،  و تضع حكوماته الجديدة في ورطة لا تحسد عليها ، بين حماية مصالح المسيء وصد الغاضبين عنها ، المطالبين بالثأر و الانتقام ، فتبدو في نظر شعوبها كمن خان الأمانة الوطنية و نكث العهد و الوعد ؛ أو بالوقوف مع شعوبها الثائرة ضد المسيئين ومصالحهم  ، فتعطي الذريعة و الحجة القانونية لاجتياح بلدانها و احتلالها  من قبل الدول الاستعمارية المتربصة ، تحت شعار حماية مصالحها و أمنها القومي ، و رد الاعتبار لهيبتها المنتهكة حرماتها و حصانتها الدبلوماسية ، التي تقرها القوانين و الأعراف الدولية  !!

      و عليه ؛ نقول : لمثقفينا و لفئاتنا الوطنية ، و لكل من يحمل بين جنبيه ضمير وطني حر ، نقول  : كفى !… كفى جهلا أو تجاهلا بحقيقة المؤامرة … و كفانا انقيادا طوعيا لاستراتيجياتها أو السير في ركابها بمحض إرادتنا الواعية … كفانا تشكيكاً و تشويهاً لكل جميل و نبيل و شريف في ساحاتنا العربية ، و لنرص الصفوف و نفتح الأذهان و الآذان و الأعين ، لنبصر و نتقي ما يحاك في الأوكار من مؤامرات و دسائس ، فنفوت على الطامعين الفرص ، لأننا بدون ذلك ، نًفرح الأعداء فينا ، و نزيدهم سخرية بنا و شماتة .

” و لا نُريَ الأعادي قط ذلٍ …. فإن شماتة الأعداء داءُ “

و بعد … هل هذا كله يعني أن الحكومات العربية كلها محكوم عليها و مكتوب على جبينها أن تبقى أبد الدهر أسيرة ممارساتها الراهنة ، من الحيف و الإجحاف و الظلم و القهر في حق شعوبها  ، و أن تبقى _ كأنه القدر المحتوم عليها _ تدور في فلك القوى الخارجية ، و تستقوى بها على مواطنيها إلى ما لا نهاية ؟ ألا يمكن لها أن تسترجع البصر كرتين ، و أن تراجع نفسها ، و تسعى إلى أن تخلق مع الشعوب التي تحكمها جسور المودة و الاحترام و التقدير و حفظ الكرامة و الحقوق  ؟

أجل ! إن ذلك بالقطع ممكن ، إن هي تصالحت مع مواطنيها ، و احترمت إرادتهم  في الحرية و الديمقراطية و العدل و التغيير … و إن هي تنازلت عن بعض من أنانيتها  و عجرفتها و استبدادها ، و اعتبرت أن مصيرها مرتبط بمواطنيها ، و أن الشعوب هي أكبر و أعظم حصن منيع لها من تقلبات الزمان ، لا أية قوة خارجية أخرى . .. و أن جانب العفو و الصفح و التسامح عند هذه الشعوب بحكم عقيدتها السمحاء و موروثها الحضاري و الأخلاقي الرفيع ، أكبر و أوسع من جانب الحقد أو الثأر و التشفي ، إن هي وجدت في حاكمها أبسط معاني العدل و التقدير و الحرية … و كم نتمنى من حكامنا أن يتعلموا من ممالك كثيرة في الأرض ، و على رأسها بريطانيا و اليابان و ماليزيا ، دروس و فلسفة التعايش السلمي الحميم ، بين الحاكم و المحكوم . ذلك ليضمنوا بقاءهم و استمرارهم في الحكم ، من جهة ، و ليجنبوا بلدانهم و شعوبهم ، و هذا هو الأهم ، شر الحروب و الفتن و الدمار المستطير ، من جهة أخرى.

العدد الثالث والثلاثون سياسة

عن الكاتب

زهران بن زاهر الصارمي

abu-shamsan@windowslive.com
99206716