رسالة إلى أخوات تراب الوعي

أخوات الشمس، ودورة الأرض والفصول، أخوات الحياة، أخوات الحرية..

 

تحية ملؤها التشريف العماني المعاصر إليكن وأنتن في (التشريف) العماني المعاصر. في هذه الدوامة الطبيعية من تدافع الطبائع المختلفة عبر هذه العملية المستمرة التي نجد أنفسنا فيها، وأجسادنا، كقطرة ملونة في نهر الحياة الذي لا يعرف إلا التدفق والتدافع بدون توقف منذ زمن بعيد، بعيد..

يتدفق نهر الحياة ويحجز أحياناً كثيرة، لفترة تطول وتقصر، بعضاً من قطراته الملونة في حاجز طبيعي ما، يمكن أن نسميه أي اسم: رحم، بيت، مدرسة، سجن، عمل، أسرة، قرية، مدينة، خلاء، إمتلاء؛ ونتفاعل معه كما تتفاعل القطرات، أو نخترع طريقاً تخصنا، حتى يأتي اليوم الذي ستتبخر فيه تلك القطرة الملونة ويعود الجسد لدورته الترابية الطويلة، في دورات حياة الذرات..

 

في الأثناء: ما بين ولادة القطرات الملونة ولحظات تبخرها المستقبلية تعيش يقظة، تسمع صوت النهر حتى في نومها، وتشارك فيه، هكذا مثلما يصلكن صوت النهر: نهر الحياة الطبيعي وتشاركن فيه بكل صوتٍ ينبعث منكن، من مواقفكن الصافية. أينما كنتن.

 

العمر مجرد طريق للقطرة، لا تعلم أين سيرمي بها التيار؟ أين ومتى ستتبخر؟ وأين سيكون الهواء مناسباً ليولد الندى، على سطح أي وردة أو زهرة أو جسم.

لا تعلم القطرة أين ومتى؟ لكنها تستطيع الحدس، تقرب القطرة نفسها من موانئها، وشواطئها، وحواجزها، لتبدو فيما بعد جزءاً من الاختيار الذاتي، لا مجرد مصادفة لا معنى لها، بل تغدو جزءاً من لاوعينا، من طبيعتنا التي تقودنا.

 

حين تقف أية قطرة منا في أي حاجز كان وتتأمل رحلتها، تحاول استيعاب ما حدث لها حتى تلك اللحظة وفهمه، واستخلاص فهم ما عام للحياة، وللذات؛ فهمٌ يساعد بحدوثه الصافي مثلما يساعدُ الغواصَ عثوره على صدفة اللؤلؤة، ويفرحه، يفرح وعيه ولا وعيه، يسعد طبيعته، فينيره من الداخل. ويعطي جهده الطويل معناً متلألأً وواضحاً.

 

هنا والآن، في هذه اللحظة، في هذا الحاجز النافذة على الماضي والحاضر، على معرفتكن وخبرتكن وذكائكن وشعوركن، على طبيعتكن بأكملها، تمارسن ما كان يمارسه العلماء العظماء من تأمل في كهوف سماء الله، فيعودون من كهوفهم تلك بكنوز الروح، تلك التي كان يعثر عليها الأنبياء من قرية موسى إلى حراء، من جبال زرداشت إلى جبال نيتشه، تلك العزلة الأثيرة المعلمة التي كان يسميها علماء عمان الأوائل: الرياضة. رياضة الأرواح.

رياضة الوحدة لتقطير ألوان الذات في كؤوس الروح، وصولاً إلى لآلئ الأرواح تلك التي تشع أسرارها في وجودنا بالعرفان الذي فوق المعرفة.

 

بذلك العرفان يتمكن العالم والنبي من فهم واستيعاب تدافع الطبائع ببعضها، من استيعاب الطبيعة: تلك التي ندعوها مشاعرنا الخافية اللاواعية، تلك التي هي زعانفنا في نهر الحياة: حواسنا نفسها، أعيننا وأفواهنا، طبيعتنا الأصلية، محركنا الأول.

بذلك العرفان يمكن للنبي والعالم أن يبنيا عالماً زمنياً يدوم لآلاف السنين، يبني العالم والنبي بيتاً زمنياً للمعرفة ولعبادة الله، وتدخل فيه كل قطرات النهر الملونة القادمة، بكافة الأشكال، وتتفاعل معه، وتعيش فيه.

في تلك المعابد الزمنية التي بناها النبي والعالم بعرفانهما تضاء المواقف المنيرة في العالم كالقناديل، بمجموع مشاعر السلام الإنساني الداخلي، ذلك الذي يمر في صدر أي إنسان مهما بلغت ظلاميته، كالقناديل في ذلك المعبد تضيء الأنوار، ليس في المكان وحده، بل عبر الزمن، منها إلى المستقبل، مثلما يضيء موقفكن الوطني الكريم العماني الأصيل بنبالة من هذه اللحظة المعاصرة الواضحة، نحو المستقبل: ينير الظلام المجهول القادم في الزمن.

 

بوركتن وبوركتم من أياد وضمائر مضيئة قناديل وقفاتها وأفعالها في الزمن، في وجه التيار المندفع نحو هاويته، لتنبهن الزمن الأخلاقي العماني من سقوطه في ظلمه الذاتي لروح لحظته ولمستقبله، لتحذرن من الخطر الذي يتهدد الزمن في الأنانية الغارقة في وحل ذاتها، بين شوك الأحقاد وطين أسيجة التحاسد العام؛ لحظة من نذير منيرة، تقدمن لها من حريتكن، كما من حريتهم، ومن حريتنا المعاصرة المتقدة بكل الذين يشاركون في هذه اللحظة المضيئة، لإنارة الضاحية الصغيرة التي تنعكس فيها كل لحظة مماثلة من جمال وشرف الماضي وكرامته ولآلئ كراماته.

 

بوركت الروح الحبيسة اليوم تتأمل هذا العالم من محبسها لأنها قالت كلمة الحق في اللحظة الحق، وضوء الحق يشعُّ أعلى ويضيء أنقى.

فسلامٌ عليكن وأمان، ونور من الله وبركات..

 

أدب العدد الثالث والثلاثون

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد