إصلاحيون وأحرار في الفضاء المعرفي

كتب بواسطة سعيد الحاتمي

يستفزني كثيرا أن يستدرج طلاب من على مقاعد الدراسة في الجامعات والمدارس ليلتحقوا بركب من يطلق عليهم أو يتسمون ب “الناشطين ” أو “المناضلين” أو “الإصلاحيين” أو”الأحرار” إلى ما إلى ذلك من ألقاب تكاثر عددها واضطربت معانيها، وأشعر بالأسى عندما يستنفر طلاب لا تكاد تتعدى أعمارهم الخامسة عشرة من على مقاعد المدارس في مسيرات لا يفقهون هدفها الحقيقي ويرددون شعارات لا يعرفون ما يندرج تحتها، أشعر أنه من الظلم الفادح في حق هؤلاء أن تستثار حفيظتهم وتستغل هشاشة أفكارهم واندفاعهم برسالة صغيرة عبر (الوتس أب) أو تسجيل لخطبة عصماء لبعض الشيوخ أو بقصيدة تتغنى بالحرية لمحمود درويش أو أقوال في التحرر لغاندي وتشي  جيفارا وغيرهم من رموز الإنسانية، خطب فرغت إلا من الضرب على العواطف وقصائد وأقوال أنتزعت من سياقها وأتخمت بها عقول هؤلاء الشباب الطرية, هذا فضلا عن دعوات التطرف والتعصب والطائفية التي تحاول أن تجرهم إلى كهوفها.

 

يستفزني أن تستنفر عقولهم الغضة المتحفزة المفعمة بالحيوية عن طريق تضخيم الإخفاقات وتسليط الكشافات عليها وتقزيم الإنجازات وتهميشها، وأن يستفزوا عن طريق شعارات وأطروحات في الحرية والديمقراطية والانعتاق يرفعها البعض في المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي، وبغض النظر عن نبل الهدف من عدمه -الذي هو ليس موضع بحثنا هنا- فإن أسلوب التهييج والتسخين والطرق المتواصل يشعل لدى هؤلاء الشباب مشاعر فياضة دافئة مندفعة لا نشك مطلقا في نبلها، ولكن الخطر يكمن في الاتجاه الذي ستصب فيه مثل هذه المشاعر نتيجة لكل هذه الادلجة و”الزن المتواصل على الودان” كما يقول أخواننا المصريين، وهنا فجل ما أخشاه أن نخلق جيلا يائسا من الشباب مفعما بالسلبية لا يرى حوله الا الركام ومسطحات سوداء من التجارب الفاشلة.

 

ويستفزني أكثر فشل المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني في خلق وعي لدى هؤلاء الطلاب يحصنهم من الوقوع في براثن مثل هذه الشعارات  ومن أن يستدرجوا إلى أحضان ثقافات وسلوكيات سطحية تعتمد التهييج والضجيج منهجا بعيدا عن القراءة الواقعية الواعية، وأنا أستعيد هذا الفشل تطرق ذهني ذكرى خطيئة كبرى أسوقها هنا كنموذج على هذا الفشل, خطيئة أرتكبت في حق أجيال طلبة جامعة السلطان قابوس عندما ألغي السكن الجامعي وقذف بالطلبة في شوارع الخوض والمعبلية والحيل في خطوة سال لها لعاب سماسرة العقارات وصفقوا لها طويلا، لست أدري فيما إذا كانت تلك الخطوة حلا أمنيا -تفقت عنه أذهان البعض- تلا بعض الأحداث في الجامعة، ولكنه بالتأكيد يشير الى عدم ثقة بعض الجهات وتوجسها فيما تضمره تلك الفئة من المجتمع فرأت إحتواء الموضوع من بدايته، وفي أحسن الأحوال فإن اتخاذ مثل تلك الخطوة ينم عن قصر نظر وعدم اكتراث في التحقق فيما هو الأصلح لأجيال من صفوة هذا الوطن، في كلتا الحالتين  فإن مثل ذلك الإجراء يشي بقصور شديد في منهجية التعامل مع أخطر شريحة من مكونات أي مجتمع، والذي يصنع خطرها أنها في طور التشكل واتخاذ وضعهالتتصدر المشهد فيما بعد.

 

سنحت لي الفرصة أن أتابع كتابات بعض هؤلاء الشباب فرأيت شبابا يفيض حماسا وطموحا وولعا بالتغيير وتصحيح المسار وإصلاح ما يراه من خلل وأزورار في أداء كثير من الجهات الحكومية وفي نقد بعض جوانب الفشل التي آلت إليها بعض تجاربنا كمجتمع فتي يحاول أن يتلمس طريقه بين المجتمعات، وكطبيعة طموح وحماس متوقد كهذا فلابد من أن تشوبه ظلال من البعد عن التعمق في تحليل القضايا ويعتريه شيء من الاستعجال والاندفاع في تبني بعض الاستنتاجات والأفكار التي لم تعط حقها من التمحيص والتمعن وغربلة الحقائق والأرقام المقترنة بها، كما رأيت كيف يسعى البعض في إحماء وإثارة عواطف هؤلاء الشباب بعبارات صارت معلما لهؤلاء البعض مثل “دمت حرا”، و”إنهم أغبياء” و   “هكذا هم الأحرار” و”لك الله يا وطن”… إلخ، وهي عبارات لا شك أنها تغري الكثير من الشباب وتضخ مزيدا من الزيت على العواطف المشتعلة أصلا لاسيما إذا صدرت ممن يصنف على أنه من الأحرار والناشطين.

ومما يدعو الى الحزن أن يتظافر هذان العاملان أي الفشل في التعامل مع هذه الشريحة وفي منهج الشحن والتهييج وإثارة العواطف الذي مورس عليها -كما فصلنا أعلاه- في حيود بعض أفراد هذه الشريحة وتجاوزهم لبعض الخطوط الحمراء -في نظر القانون- وهو ما إنتهى ببعضهم خلف القضبان في الوقت الذي كان يجب أن يكونوا فيه خلف كتبهم وشاشات حواسيبهم, ومما يدعو إلى حزن أكبر أن تستمر موجات الشحن بعد هذه المرحلة المأساوية بحجة أن السجن للرجال وأن الحرية والإنعتاق والتقدم تصنع من خلف القضبان وأن الإبداع مكانه زنازين السجن.

لا أنكر حق أي فرد في هذا العالم في اعتناق ما يراه صائبا من أفكار طالما أنه بقي بعيدا عن المساس بحرية الاخرين وأعراضهم، ولكن كان من حق هؤلاء الطلبة الشباب أن يعلموا أن طرق التغيير وأدواته كثيرة ومتشعبة وليس شرطا أن تكون انفعالية ومؤججة ومشخصنة، كان من حقهم أن يعرفوا أن في هذا العالم اصلاحيون وأحرارا من نوع آخر وأن هنالك ناشطون غير من ألفوا، كان من الواجب أن تبسط بين أيديهم وهم على مقاعد الدراسة في مدارسهم وجمامعاتهم  من خلال مناهجهم ومحاضراتهم تجارب النوع الاخر من الناشطين والاحرار ليتسنى لهؤلاء الشباب حرية الاختيار بين أكثر من فضاء للتغير ومن هو الجدير حقا بأن يقفوا أمامه قائلين “هل نتبعك على أن تعلمنا مما علمت رشدا”، النوع الآخر من الاحرار الذين نشير اليه هنا هو نوع فاعل من البشر الذين غيروا حياتنا وساهموا الى حد كبير في محو الجهل والفقر وفتح الطرق أمام الكلمة الحرة في كثير من بقاع العالم وبدون وجل يمكنني أن أصفهم بالمصلحين والأحرار والناشطين، ببساطة هؤلاء الفئة من الاصلاحيين والاحرار حولوا عالمنا الى مكان أفضل للعيش فيه، وأجمل ما في الأمر إنهم إنطلقوا في إصلاحهم من هناك من على مقاعد الدراسة الجامعية من حيث يجلس طلبتنا الآن (أو كان يجلس في حالة بعضهم)، وكانت وسيلتهم هي الفضاء المعرفي الرقمي الذي أتاحته الثورة التكنولوجية، مصلحون لم يكتفوا بقراءة  كتاب أو كتابين وقصيدة لمحمود درويش وأقوال لغاندي وتشي جيفارا بل فهموا مفردات الحاضر واستشرفوا متطلبات المستقبل وشرعوا في مشاريعهم الحضارية التي غيرت وجه المعرفة ومكنت أممهم من إحكام قبضتها على العالم.

 

أعلم أن الكثير منكم يتساءلون: من تعني بقولك هذا؟ فأقول دعوني أتلو عليكم من نبأ بعضهم خبرا:

 

  (Bill Gates) بيل جيتس

 مؤسس ومالك مجموعة ميكروسوفت وأسطورتها الذي غزا بنوافذه العالم وبفضله أصبح الكمبيوتر متاحا لعامة البشر، وحينما أكمل مهمته تنحى جانبا وتفرغ للأعمال الخيرية التي ليس أقلها تنازله عن نصف ثروته لصالح بعض الجمعيات الخيرية وحثه مليارديرات العالم على أن يحذوا حذوه…

 

(Larry Page and Sergey Brin)  لاري بيج و سيرجي براين

الشابان اللذان أسسا العملاق جوجل وهما على مقاعد الدراسة الجامعية، هذا العملاق الذي فتح الإنترنت على مصراعيه لكل البشر للبحث والتطوير وجعل من المعرفة مشاعا يصل إليها أفقر خلق الله في أدغال أفريقيا.

 

(Mark Zuckerberg مارك زوكربيرج )

خريج جامعة هارفارد العريقة والذي أسس الفيس بوك موقع التواصل الاجتماعي الأول في العالم وهو لا يزال على مقاعد الدراسة الجامعية، يعتبر هذا الشاب حاليا أصغر ملياردير في العالم، بفضله نشأت أكبر شبكة صداقات في العالم وفتح المجال واسعا لحرية التعبير وشرع الأبواب والنوافذ للكلمة الحرة كما لم يفعل أي نظام ديمقراطي في العالم.

 

(Jaako Lisalo جاكو ليسالو )

الشاب الذي صمم لعبة الطيور الغاضبة الذائعة الصيت، تعمدت أن آتي بهذا المثال الذي قد يبدو وضيعا ولكن تلك اللعبة غيرت مفهوم ألعاب الكمبيوتر وحققت الملايين التي أنقذت شركة الالعاب الفنلندية روڤيو من شبح الافلاس، “مجرد اللعبة” تلك أكلت عقول شبابنا وأطفالنا كثر مما فعلت أفكارنا المعتقة التي رغم أننا ألبسناها ثوب الفيس بوك وتويتر وهي ما تزال تنضح بروحنا الجاهلية و ب”العنتريات التي ما قتلت ذبابة” كما صرخ نزار قبل ما يزيد على نصف قرن.

 

قد يحتج علي البعض في كون هؤلاء مصلحين وأحرار، فأقول دعونا نمعن النظر ونستحضر السياق الزمني الذي هو بالتأكيد يختلف عن فورة الستينات والسبعينات من القرن المنصرم وإن كانت الغاية واحدة، أليس الإصلاح يكمن في كسر الحواجز وإشراع الأبواب والنوافذ أمام المعرفة والحقيقة والكلمة الحرة؟ وأليس التحرر يكمن في كسر قيود القهر والجهل والفقر وجعل حرية الرأي والرغيف على بعد كبسة زر ولو كان عن طريق لعبة؟, ثم لننظر كيف عملت الثورة المعلوماتية التي أتاحها هؤلاء وأمثالهم على انتشال الملايين من فقراء القارة الهندية وأمريكا الجنوبية والمكسيك ليصبحوا من ضمن أثرياء العالم والهدف الأول لكبريات شركات التكنولوجيا، وكيف عملت ثورة المعلومات على أن تصعد أمم بأكملها من مستنقعات الجهل والفقر والفوضى لتقارع أعتى الأمم على ريادة العالم وليست تجربة الهند عنا ببعيدة في الوقت الذي تغرق فيه جارتها باكستان في مستنقع التخلف والتشرذم شيئا فشيئا نتيجة لعقود من الشعارات الفارغة,  و نحن -والملايين من أمثالنا الذين- نثرثر في هذا الفضاء المعرفي ونمارس ما ندعوه أحيانا حرية رأي وإصلاح لم يكن بمقدورنا أن نمارسه لولا جهود هذه الفئة من البشر التي آمنت وعملت كثيرا وتكلمت قليلا.

 

عندما أتأمل مليا في تجارب هؤلاء المصلحين أدرك كيف يكون الإصلاح الحقيقي الذي يكون مكانه بطون الكتب ومن خلف الشاشات عبر الفضاء المعرفي الرقمي وأروقة المدارس والجامعات وليس في أقبية السجون –كما يحاول أن يروج البعض- , أدرك معنى الإصلاح الذي يصنع نتائج وكيف يكون التحرر والانعتاق الذي يخرج الإنسان من دائرة الجهل والفقر والأفكار ذات المقاسات الضيقة، وهذا ما أتمنى أن يدركه ويراه أيضا شباب هذا الوطن وخصوصا من هم على مقاعد الدراسة.

العدد الرابع والثلاثون ثقافة وفكر

عن الكاتب

سعيد الحاتمي