الرأي العام العماني الجديد

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

ملامح جديدة:
بدأت ملامح الرأي العام العماني بالبروز عبر مواقع التواصل الالكترونية والتي صارت إحدى موجهات كتاب الأعمدة والصحف وبعض المواقع الالكترونية التي تتابع عن كثب أصداء الرأي العام حول الأحداث المختلفة.
بينما كان الرأي العام في العشرية السابقة حبيس المنتديات المليئة بالغث أكثر من السمين، وبالإشاعة أكثر من الحقيقة، مما جعل الرأي العام مشككاً بنفسه وبقيمة آرائه وبانتشارها واتفاقها. فإنهُ اليوم أكثر قدرة على تحديد انتشاره وشكله وقوته ومدى تأثيره وقيمة آرءه بشكل أوضح.
صار الرأي العام أكثر وضوحاً، وأكثر توقعاً، وأكثر إفصاحاً وصخباً، كما يتضح مثلاً من مراجعة مواقف الرأي العام من قضايا تشغله، ومن أحداث وقضايا تنشرها وسائل الإعلام المختلفة. أو تصل عبر مواقع التواصل نفسها..

رأي عام أم صراخ وأجندات:
الرأي العام يتكون ويأخذ وجهة وصبغة تعبر عنه، لكن في أحيان كثيرة تتغلب مجموعة نفعية صارخة الصوت تزعق باستمرار وتقوم بالتغطية على بقية الأصوات التي لا تجد بداً على الدوام من أن تلوذ بالصمت، قد تنفجر ذات مرة لكنها تجابه بانفجار صوتي يبدو جماعياً ضدها، وتلك إحدى السمات التي تبدو على أي رأي عام وتقوض في أحيان كثيرة فعالية ذلك الرأي العام وأثره على صناعة القرار، وأحياناً كثيرة ما يتم إغراق الرأي العام وتوجيهه لاتجاهات معينة تتبناها وسائل إعلام لها سياسات محددة لتحريك الشارع العام، وإثارته.
المثال الشائع هو الدول الغربية ففي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بالذات نستطيع أن نرى بوضوح كيف أن اهتمامات الرأي العام الفعلية والتي تمس حياته المباشرة لا تجد لها صدى على وسائل الإعلام المختلفة، بينما تجد القضايا المسيسة والملفات الملغومة طريقها على الدوام للوصول إلى أكبر شريحة من المجتمع وتهييجها. مثلاً قانون السلاح في الولايات المتحدة يضر بشكل مباشر بالناس ويسلب أرواحهم لكن لا يتم تغييره بسبب أصوات زاعقة تقوم بالتغطية المناسبة ويتم تسليط الضوء الإعلامي عليها.

مثال غربي شرقي:
إذا كان لنا أن نتفكر قليلاً فيما يجره انجراف الرأي العام العاطفي والغير عقلاني من استلابه ورهن قيادته لدى وسائل إعلام تجيد تحريكه لقضاياها، وتستغل الدوغمائية وميزة التهييج التي يتميز بها أي تحرك جماعي والتأثر العاطفي العام فلنا أن نضرب مثلين حيين من غرب العالم وشرقه.
ليكن المثال الغربي مثال الحادثة النرويجية في يوليو 2011م حيث تم تفجير مقر الحكومة بأوسلو ومقر صحيفة مشهورة، وهي الحادثة التي يتهم ويحاكم عليها أندرز بريفيك الذي قام في نفس اليوم أيضاً باقتحام مخيم صيفي للشباب متنكراً بزي شرطي وأطلق النار بشكل عشوائي ليسقط ما يزيد عن 76 ضحية؛ جاءت ردة فعل الرأي العام النرويجي مهتاجة ضد المسلمين في البداية ثم تحول المشهد بعد اكتشاف المتهم واعتراف الفاعل إلى اتحاد وتلاحم بين فئات المجتمع. كاد النرويجيون أن ينجرفوا وراء ردة فعل غربية اهتياجية ترد كل فعل ارهابي إلى الإسلام، لولا انكشاف بريفيك بوصفه المتهم والفاعل الحقيقي. والذي تبين ألا صلة له بالإسلام بل بالعكس يكره الإسلام ويخاف منه، ويشكل لهُ رعباً حقيقياً يجعله يخطط لهجمات مستمرة على الناس المدنيين العزل. وقبل ذلك لن يكون بريفيك نفسه إلا ضحية اهتياج رأي عام يبحث عن مشجب يكون ضحيته الطبقة الأضعف وهي المهاجرين.
ليكن المثال الثاني حادثة الاغتصاب الجماعية التي حدثت في الهند بديسمبر الماضي، والتي توفيت على إثرها الضحية في إحدى مستشفيات سنغافورة، فقد حدث اهتياج بالشارع العام وتشتت الرأي العام وبدل أن يصب في مصلحة الضحية المستضعفة المستغلة تم اتهام الفتيات بتسببهن في تلك الحالات وجاء ذلك الاتهام من مصادر دينية رفيعة مسلمة وهندوسية ومن الحكومة نفسها عبر تعليمات صدرت للفتيات الهندية من الشرطة لاتباع تعليمات صارمة في الذهاب والعودة للمنزل والتواجد في الأماكن العامة، ما تسبب في موجة استياء عارمة لدى الجمعيات النسوية وانشقاق وغضب في الشارع والرأي العام تجاه الحادثة.
ومهما كان الرأي العام الهندي مختلفاً أو منشقاً فإن الضغط يقع على الحكومة بتحميلها مسئولية الأمن في البلد، مع أن الرأي العام الهندي نفسه متهم في القضية التي تجعل من حالات الاغتصاب تحدث في الأماكن العامة والشوارع باستمرار، وبدل أن ينتقد الرأي العام ثقافته نفسها، ويبحث عن أسباب الخطأ فيها، يقوم على الدوام بتبرير افعاله والبحث عن متهمٍ آخر. يتم صب الغضب عليه. حتى لو كان الضحية نفسها!

أثر الرأي العام:
يتضح أن الرأي العام رأي يمكن أن يكون شديد التفجر بدل أن يكون شديد التفكر يكون شديد السطحية ويبحث أحياناً كثيرة عن قشة يفجر بها غضبه المكتوم، مهما كانت تلك القشة لا تحتمل تلك الثورة كلها من الغضب، وهنا مكمن الخطورة عادة في الرأي العام. ومع أن الرأي العام عادة يعطي مؤشراً عن الغالبية لكنه في أحيان كثيرة لا يعبر إلا عن الأقلية الصاخبة التي تملك الصوت، لا كما يدعي الرأي العام أنه يعبر عن الأغلبية الكاسحة، لأن تلك الأغلبية الكاسحة يتم استثارتها عبر مهيجات الرأي العام الصوتية في الشارع أو عبر التحكم في قبضة الإعلام، الذي تسعى كل السلطات لإحكام قبضتها عليه وبالتالي إحكام قبضتها على زمام الرأي العام نفسه وتحريكه كيف تشاء مصالح النخب. وهذا مكمن آخر للخطورة، وهو أن الرأي العام يظن نفسه حراً في اختياراته وقراراته وردات فعله وتعبيره الحر عن الرأي بينما يتم تضليله على الدوام. ويساهم هو نفسه في تضليل ذاته.
كيف إذن يمكن خلق رأي عام تنموي، حصيف، ذكي وحساس، يجيد خلق الرأي الفعال، ويجيد توجيه قوته لصالحه لا ضد مصلحته؟
لا يمكن ذلك كما يبدو إلا بمزيد من توعية الرأي العام بنفسه وبالمخاطر التي تتهدده وبالأهمية والفعالية التي يشكلها، وبالتالي تبصيره بكامل رقعة الشطرنج التي يتحرك فيها، ويحسب بالتالي خطوات رأيه بموازنة حكيمة بدل العنتريات الخرقاء التي تقوده إلى حفر فاشلة تصادمية يفقد فيها تأثيره. وفاعليته. ويكون سبباً للانقسام بدل أن يكون دافعاً للالتحام.
إن قوة الرأي العام الحقيقية ليست في تغيير الواقع بقوة المظاهرة، بل تكمن في قدرته على تغيير الثقافة العامة، وبتغيير الثقافة العامة يمكن بكل سهولة تغيير الواقع إلى واقع أفضل، وأكثر جدوى، ومشجعاً للتجديد، ومستوعباً للتحضر وقادراً على استيعاب شذوذه، والاستفادة من أخطائه.
حملات الرأي العام تنزع عادة إلى بناء ردة فعل غاضبة تطالب بتغيير سريع لمؤثر ما على أرض الواقع، وشدة التلهف والضغط على التغيير السريع تجعل الوضع أكثر سوءاً بسبب العنف الذي يدفع بالسلطات البطيئة عادة إلى اتخاذ إجراءات حازمة سريعة وارتجالية لا يحسب أحد عواقبها تنكس الحالة من حالة صحية إلى حالة مرضية خامدة، تعرقل وتعيق بدل أن تبني وتساعد. وبدلاً من أن يكون الرأي العام فعالاً للتقدم والتحضر العام يكون هو ذاته عقبتها على الدوام.

محاولات لكسر الإطار:
الرأي العام يجب أن يبنى على وعي عام قويم وقوي وقادر على التغيير في نسيجه الذاتي والحركة باتجاه الحيوية المستمرة، ولا يجب أن يكون فوضوياً تحركه الرياح الصوتية من حيث هبت وينساق ورائها بسهولة ريشة، ولا مريضاً خامداً يرفض كل جديد بحجة الانغلاق والانكفاء، ولا يمكن أن تتحقق قوة الرأي العام دون ثقته بوعيه وفكره، فهو في النهاية نتيجة وصورة انعكاسية لفكر وثقافة اجتماعية ووعي اجتماعي عام.
دوماً ما كان الفلاسفة والمفكرون والأدباء والفنانون يحذروننا من مغبة الانجراف وراء الفعل الجماهيري لأنه فعل يؤجل تفكيره لما بعد الفعل، والقول، وينجرف في الحالة الجماعية المهتاجة دون الاستعانة بتحليل أو تفكر صافٍ يساعده في العمل للصالح العام.
هكذا لا يمكن للرأي العام نفسه الثقة في ذاته، أي في رأي عام متذبذب لا يضع فعل السؤال والتحري والتفكير المعرفي والحوار البناء أسساً في مجتمعه، بل يربي الإقصاء والنبذ والفصل والنحن والآخر، ولا يمكن الاعتماد على رأي عام اهتياجي يجيد التعبير عن غضبه أكثر مما يجيد التعبير عن حكمته؛ إن على الرأي العام أن يسعى دوماً كي يعبر عن مستوى ثقافة تقدمية رفيعة ليست مظهراً مستورداً بل متجذرةً في كيانه العام كإنسان يعي ذاته ومجتمعه، ويضبط بوصلته على الدوام إلى نور ذاته وحريتها، وبالتالي إنارة الحرية الاجتماعية للمجتمع، المجتمع الذي يدعي الرأي العام دوماً الوصاية عليه. ويتحدث ممثلاً له.

العدد الرابع والثلاثون سياسة

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد