16 تغرودة على شجر الشك واليقين

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

..(الشكُّ الشَق ومنهُ قولُ عنترة:

فشككتُ بالرُّمح الأصمِّ ثيابهُ

ليسَ الكريمُ على القنا بمُحرّمِ)

كتاب الأمثال للميداني

 

1.

الشك يصيبُ حتى الأنبياء:

فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [يونس : 94]

وروي في الأثر عن النبي أنهُ قال: دع ما يُريبُك إلى ما لا يريبُك. وما الريبة إلا أختُ الشك، ..الشررية! أما الكافرون فهم من يملؤهم الشك بالريب: وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [إبراهيم : 9]

بل يبدو تمييز الشك من اليقين غاية: وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ : 21]

(قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض؟) ابراهيم:10

(لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) [الدخان : 8،9]

2.

الشكُّ يدركُ اليقين، لأن ابن المعتز يقول في وصف الخمرة: فقد خفيَت من صفوها فكأنها بقايا يقينٍ كادَ يدركهُ الشكُّ.

وابن المعتز لديهِ حكمة في الدروب المظلمة تقول:

وأتبعُ مصباحَ اليقينِ فإن بدا ليَ الشكُّ في شيءٍ يُريبُ تناهيتُ..

3.

لحظة الشك تخرج من أثرها الفردي لتصيب الجماعي كله بالشك، في لحظة مضطربة تنتاب الناس ضد بعضهم البعض، تبحث لها عن اكبر عدد من الضحايا، من المشكوك فيهم، من المريبين، لتبحث لها عن اندلاع، لتؤسس باتقادها لنفسها نظاماً يمكن تسميته بنظام الشك، وهو النظام الأشد قرباً إلى نظام الحركة والمعركة، منه إلى نظام السكون المطبق.

الشك محرض فكري، لعبة يقوم بها الذهن، خطرة، لكن لذيذة.

4.

الشك نفسه سؤال، التشكيك حالة تثبّت وتيقُن من أمر ما، ولا يتوقف الشك حتى يأتي اليقين، لكن الخطر يبدأ حين لا يقتنع الشك/ السؤال بأن اليقين الذي أمامهُ هو الإجابة، فيبحثُ خلف اليقين عن يقينٍ آخر، قد لا يجدهُ قبل أن يحترق.

عند علماء الفيزياء الحديثة فإن اللايقين أمرٌ مسلّمٌ به حسابياً، وأحد أسس النسبية الكلاسيكية هي أن النتائج تختلف باختلاف المراقبين، وفي اللحظة العلمية للايقين يمتد الشك حتى يصير بطبقاتٍ يذكرها الجاحظ في كتاب الحيوان:

(واعلم أن الشك في طبقات عند جميعهم، ولم يجمعوا على أن اليقين طبقات في القوة والضعف.)

يذكر الجاحظ وجود الطبقات لكنهُ لا يحصيها، لأن الشك متاهة خطرة أيضاً، لكن الجاحظ يصر على تمييز الجحود، ليغدو الجحود هو أقصى طبقات الشك، ويغدو الشك وسيلة وأداة معرفية، وليست استعباداً. وسيلة وليست غاية كما عند الجاحد.

الجاحظ الجاحد للجهل يقسم الشك لطبقات ومستويات.

5.

في البيت الثاني من مطلع قصيدة فتح عمورية لحبيب بن أوس يقولُ أبو تمّام: بيضُ الصفائحِ لا سودُ الصحائفِ، في متونهنَّ جلاءُ الشكِّ والرّيَبِ

اليقين يأتي على متن السيوف، لا على متن الرسائل، فمن إذن يأتي على متن الرسائل؟ الشك؟!

والسيوف تحملُ الموتَ أيضاً فهل الموتُ هو اليقين؟! وبالتالي هل الحياةُ هي الشكّ؟!

المعرفة تتقدُ في الحياةِ، وليس في الموت. (أنا أشك، إذن أنا موجود) ديكارت.

حتى معرفة الوجود نفسها تقف في محطة الشك، بانتظار قطار آينشتاين النسبي!!

6.

الشك وسيلة نقل معرفية، تقود ديكارت من المدفأة للكوجيتو الديكارتي، الجدلية التي تحيي المعرفة وتكشف عن ثمارها. وكل وسائل النقل تحتاج قادة مهرة..

الوسيلة أداة، والشك وسيلة وأداة معرفية تنمو: (الشك ينمو مع المعرفة ..غوته)

لكن الأداة خلابة، قد تجعلنا أسرى لها، وهي أداة، الأداة جماد، خائنة، بلا مشاعر (شكوكنا خائنة، وتجعلنا نخسر الخير الذي كدنا نكسبه، بالخوف من التجربة.) ..شكسبير

اذن هناك طبقات وان اختلف قياسها للتعامل مع هذه الأداة المعرفية الخطرة التي تسمى الشك

 (الشك المتواضع يسمى، منارة الحكمة ..شكسبير)

7.

الشكُّ كذلك ظلامٌ لا تستطيع أن ترى فيه الصباح نفسه، حسبما علمنا أحمد شوقي: والصبحُ يُظلمُ في عينكَ ناصِعهُ إذا سدلت عليكَ الشكَّ والريبا

الشك والريب كالستائر يمكن إسدالها.

الليل الساتر المنسدل خلف الستائر الليلية، ليل الشك كما في بيتٍ قديمٍ للأخرس: وكتْبُكَ أمثالَ الشُّموسِ طوالعٌ فلا اللَّيل يغشاها إذِ الشّكُّ كاللَّيلِ.

في الليل الذي تكثرُ فيه الشكوك وتتوالد حتى يأتي يقين الصدق: الصبح، والأخرسُ هو القائل:

يمحو ظلامَ الشكِّ صبحُ يقينه والشكُّ ينفيه ثبوت يقين.

8.

الشك طبقات إذن، اليقين منها أقلها شكاً، أي أضعفها شكاً وأكثرها يقيناً، والبعيد عن اليقين أجحدها أي أكثرها وأقواها شكاً.

لكن التناظر يدعو أيضاً ليكون اليقين بطبقات أيضاً الشكُّ منها أقلها يقيناً.

هكذا ستبدو الطبقة المليئة ياليقين هي الطبقة اليقينية إذا نظرنا إليها من الطبقة الجاحدة الأبعد المليئة بالشك، وبمسطرة القرب والبعد تتميز طبقات الشك واليقين حسب قوتها وضعفها، فأضعفها شكاً ما امتلأ من اليقين حيث يُحيي قرب اليقين صاحبه؛ وأقوى طبقات الشك ما خلا من اليقين في الجحود: حيث يقتلُ الشكُّ صاحبه.

9.

اليقين نفسه يبدو كما لو أنهُ وجوه الحقيقة، الحقيقة التي لها أكثر من وجه وزاوية، وحين تتقابل الزوايا المتشابهة تتنافر وفي المنطقة ما بينهما توجد طبقات الشك واليقين، حيث الأغلبية.

يشبه الأمرُ مغناطيسين بشحنتين متشابهتين. والقوة في مكان ما في المنتصف بينهما، حيث الشك واليقين نوعٌ من الطاقة الكهربائية..

10.

عند المتنبي نرى الشك أيضاً يبدأ من سوء الفعل، من الظلام نفسه والليل: إذا ساءَ فعلُ المرءِ ساءت ظنونهُ وصدّقَ ما يعتادُهُ من توهمِ/ وعادى مُحبيهِ بقولِ عُداتهِ وأصبحَ في ليلٍ من الشكِّ مُظلمِ.

الشك يخرب المحبة العظيمة، يجعل المرء يفرُّ من بينِ أصدقائهِ وأحبتهِ إلى يدِ أعدائه، يجعل المرء يرمي نفسه في الهاوية يظنها حضن الأمان، وفي قصص المحبة العظيمة والأساطير لا شيء غير الشك يجعل المحبة الصافية تتمرغ في الوحل.

الشك حبلُ الظلام الذي اذا حل بالمستدلِّ قتلهُ، فكيف بالتائه؟!

11.

تأمل في أحشاء الشك، قس درجة حرارته، متى تصيبه الحمى ومتى يهدأ؟ بمعرفة الشك فقط يمكن تحويله لأداة نافعة لليقين، اجعل مغناطيس اليقين والشك جاذباً لموجات الخير من وجوه الحقيقة، لا لوجوه الحقائق الصادمة المُرة. القاتلة، السامة، المميتة،

الحقائق تقتلُ أيضاً مثلما تُحيي.

12.

إن الأمور على ذي الشك تلتبسُ..

النابغة الشيباني

13.

يبدو الشك لوناً من الشرر القادح لدرب الاقتراب من الحقيقية، لكن من يكثر شرره أكثر يشتعل وربما قتل نفسهُ ومات في اشتعاله. دون أن يصل..

يصف كعبُ بن زهير اليقين بالعلم: صموتٌ وقوّالٌ فللحِلمِ صمتهُ وبالعِلمِ يجلو الشكَّ منطِقهُ الفصلُ.

إذا كان الشكُّ أنشوطة حبلَ الظلام الملتفة على رقبة العقل، فاليقين سيفُ النور.

14.

الظن يشابه الشك والمعري يشرح اليقين كمقابل للظن: أما اليقين فلا يقينَ وإنما أقصى اجتهادي أن أظنّ وأحدسا.

لكن بذلك الظن والحدس وصل المعري ليقينياته ولزومياته. هل يمكن اذن أن نقول أن الظن هو تلك الحالة والطبقة الأقرب لليقين، فالظن يمكن إحسانهُ وإساءته، كما قال المتنبي سابقاً تبعاً لسوء الخلق.

الظن أخو الشك وشبيهه وتوأمه.

15.

الشك أول الشكل، أول الشكلة والمشكلة، الشك الشق، وحسن الظن هو طريقة تجويد الشكوك والأشواك للوصول إلى وردة اليقين.

16.

يقولُ كاتبُ العصور عمرو بن بحر بن عثمان الجاحظ:

فسبحانَ من جعلَ الاختلاف سبباً للإتلاف.

وجعلَ الشكَّ داعيةَ اليقين، وسبحانَ من عرّفنا ما في الحِيرة من الذلة، وما في الشكِّ من الوحشة، وما في اليقينِ من العِز، وما في الإخلاصِ من الأنس.

رسالة الجاحظ في الأوطان والبلدان

أدب العدد الرابع والثلاثون

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد