زوينة *

كتب بواسطة ناصر صالح

غلاف ما لاذ بالحلم

في الطريق من بيته إلى السوق تذكَّر أنه نسي إغلاق خزانته الحديدية الصغيرة التي تحتوي على أغلى ذكريات حياته، خرائط بحرية، وكتاب في علوم البحار، و”روزنامة” كان يسجل فيها يومياته البحرية، وسيرة عنترة بن شداد، وديوان المتنبي، وصرة خضراء بها خصلة شعر، وقطعة عود، وقارورة عطر تعود لأيام سالفة..

تذكَّر أيضاً أن باب غرفته مفتوح..وقف متكئاً بباكورته في وسط الطريق، رفع مصره بيده اليسرى ونظر إلى السماء وقال:”لا حول ولا قوة إلا بالله”، تسارع خفقان قلبه، وعاد أدراجه ساحباً قدميه ببطء، وبمعونة الباكورة، إلى البيت، وصورة الخزانة المفتوحة ماثلة أمامه. شعر بإجهاد وضيق في التنفس، فوقف متكئاً على جدران أحد المنازل..

كان يعتبر الخزانة ذاكرة لتاريخه وحياته كلها، في أواخر الليل يصحو عادة ليشعل “صراي” صغير من العهد القديم كان يحتفظ به في غرفته رغم وصول الكهرباء، ويفتح باب الخزانة، ومعها يدور شريط حياته حاملاً صوراً ومشاهد لا حصر لها. كانت رائحة الخرائط البحرية والكتب مختلطة بالعود والصندل والعنبر والزعفران تنعش في داخله عالماً فاتناً وحميما.. يتلمس الأشياء بيديه المرتجفتين، ويمسحها بحنان بالغ.. يفتح صرة خضراء مقتطعة من ثوب نسائي، ويخرج منها خصلة شعر مبخرة ومعطرة، يشمها، ويقبلها، فتهب في دواخله رائحة زنجبار، والأماكن الدافئة، وذكرياته الحميمة مع زوينة!

تلفحه أشعة الشمس، يلمح ظلاً واسعاً لجدار أحد المنازل، يتقدم إليه ببطء وتعب مرتكزاً بأقصى ثقل ممكن على الباكورة..يصل وأنفاسه تعلو وتهبط بسرعة كبيرة، يلقي بعصاه على الأرض، ويحاول الجلوس في الظل البارد مستعيناً بيديه المتشبثتين بالجدار..يقعد على الأرض، ويستند بظهره على الجدار، ويمدد رجليه.. شعر بنسيم بارد يهب عليه..

استرجع ذكرياته يوم وداعها..كان عليهم في صباح اليوم التالي أن يواصلوا رحلتهم بالسفينة من زنجبار إلى بومبي لبيع البضائع ومنها العودة مباشرة إلى مدينة صور.. تسلل إلى منزلها قبيل الفجر، فتحت له الباب الصغير من الجهة الخلفية للمنزل، وفي درج دهليز البيت احتضنها بعمق، وقبل شفتيها.. كانت تنظر إليه وتمسح دموعها طوال الوقت.. وعدها بالعودة وخطبتها من أبيها..أخرجت له صرة خضراء اقتطعتها من ثوبها، كانت تفتحها وعيونها تتلألأ بالدموع والحب والحزن والفرح، كان بها خصلة من شعرها، وقارورة عطر صغيرة، وقطعة من العود حتى يعود، كما قالت له.. لكنه لم يعد أبداً بعدها إلى زنجبار، كانت تلك سفرته الأخيرة. أصر عليه والده في صور أن يتزوج ابنة عمه، وانقطعت أخبار زوينة ولكنها لم تفارق قلبه وخياله، وظل شوقه وحنينه يشدانه إليها دائماً.

شعر بضيق التنفس يزداد، ندم لأنه لم يحضر معه البخاخ الذي يستخدمه لتسهيل التنفس.. وعادت صورة الخزانة التي نسيها مفتوحة، شعر بضرورة أن يقوم، ويواصل سيره إلى خزانته.. كان ينشر الخرائط البحرية في منتصف الليل على ضوء “الصراي” العتيق، ثم يضيء مصباحاً يدوياً صغيراً ويمرر ضوءه على الموانئ البحرية، متتبعاً خطوط الملاحة البحرية، فتعود وجوه وأحداث، ومواقف تبعث السرور في قلبه أحياناً، وتخض الروح بمواجع الحزن والفقد في أحيان كثيرة.. يقلب صفحات من سيرة عنترة بن شداد، وديوان المتنبي، ولأنه لم يعد قادراً على القراءة بوضوح يستذكر بصوت أقرب للهمس بعض الأبيات للمتنبي وعنترة بن شداد، وحين يمسك بالصرة الخضراء التي أهدته إياها زوينة يمسح الدموع المترقرقة من مآقيه..

مر وقتٌ طويل قبل أن يفاجأ به أحد المارة متمدداً على الأرض، حاول أن يهزه، أن يحركه وهو يناديه دون فائدة. أمسك به من إبطيه، ورفع نصفه الأعلى من على الأرض وأسنده على الجدار. سقطت عمامته البيضاء على الأرض، وبان خده الأيسر معفراً بالتراب..طرق على البيوت المجاورة، خرج له الرجال، والنساء تطلعن من النوافذ..وتجمع عدد كبير من المارة حملوه إلى منزله جثة هامدة، وحين بدأت مراسم الغسل والتشييع لاحظ أحد جيرانه وهو يغمض أجفانه للأبد أن هنالك بقايا دموع بللت أصابعه!

حين عاد الرجال من تشييع الجنازة، وتم تجهيز غرفته الخالية كمكان للنساء المعزيات، قام ابنه الأكبر بتفتيش الخزانة بحثاً عن أموال خلفها والده، فلم يجد سوى مائتي ريال عماني. أحضر كيساً أسود كبيراً وضع فيه الخرائط البحرية المهترئة، ودفتر “الروزنامة”، وكتاب علوم البحار، وسيرة عنترة بن شداد، وديوان المتنبي.. وحين فتح الصرة الخضراء ولاحظ خصلة الشعر النسائية، وقطعة العود، وقارورة العطر الصغيرة، لم تثر اهتمامه، بل وضعها كلها في الكيس الأسود الكبير، وبمعاونة عدد من أبنائه قام بنقل الخزانة الحديدية الصغيرة إلى بخار قديم في أطراف المنزل، أما الكيس الأسود الكبير فقد تبرعت إحدى الجارات بحمله لرميه في صندوق القمامة القريب من المنزل!

 

 

  • قصة من مجموعته القصصية الجديدة “ما لاذ بالحلم” الصادرة عن دار الانتشار العربي ببيروت

أدب العدد الخامس والثلاثون

عن الكاتب

ناصر صالح

كاتب عماني