إلغاء البوطي

لم تمض سوى أيام على الصفعة التي تلقتها المعارضة المسلحة السورية على إثر فتوى سماحة الشيخ المغفور له بإذن الله البوطي في فرضية الجهاد ضدها  ، المعارضة التي عاثت – كما يراها البعض – في أرض الشام دمارا وخرابا في صراعها على السلطة مع نظام يماثلها في مستويات الفساد والرجعية والمسحور بخطاب الثورة والجهاد المضاد لا تخدم نتائجه سوى أنظمة سياسية نفعية تلهث وراء مصالحها القومية المعلنة منها ، والخفية .

إن هذه الانتكاسة النوعية والخطيرة في التطبيق الميداني للفكر الإقصائي مؤشر على جرأة هذه النزعة الأصولية وطيشها في سبيل الإجهاز على كل من تسول له نفسه مخالفة النهج الثوري والانعتاق من قيد القناعات السياسية المشرعنة فكريا ودينيا وهي ما فتئت حليفة لقوى الظلام العالمية ، وهو في ذات الوقت مؤشر مقلق للغاية على حالة يأس هستيري وانهزام داخلي وخروج عن السيطرة والضبط والعقلانية إلى حيث فخ المزايدة الثورية في سبيل إلغاء الآخر .

من خلال شرفة الجهل والسطحية السياسية خرجت موجهات التعبئة النفسية ضد السلام والأمن بدعوى الحرية والتغيير والديموقراطية ، هكذا زحفت قوى الظلام المسلحة وسماسرة السياسة النرجسية نحو الشعوب الآمنة المطمئنة لترمي بها في طاحونة الأوهام وتعجنها مع تطلعات لامعة براقة ليس بريقها سوى لقاحات سامة تسلب المرء إنسانيته تجاه الآخرين وتحبسه – في انتهاك سافر – داخل هوية فجة لا تملك من زمام أمرها سوى بعض هواء تستنشقه وترسله إلى رئة مكلومة في داخل فارغ .

هذا التدجين الثوري الذي تمارسه المعارضة المسلحة ؛ هو اليوم تشريع لعنف مضاد يدفع ثمنه ضمير شعب ُزجَّ به في شرك الصراع المسلح بين ذوي الأطماع السياسية الذين ألفوا كما يبدو مهارة التلفيق الإعلامي وامتهنوا التضليل وصناعة الأحداث الميدانية استلت من وحل الأسقام العسكرية والسياسية ، إنها ضاحية من ضواحي الانتصار المدوي للبربرية والتخلف العربي ، هو إشهار متجدد لحالة العجز المزمن الذي ما فتئت هذه الأمة تتكأ عليه قرونا ماضية في قدرتها على التناعم مع النسيج الإنساني الحضاري وهي تعلنها مجددا أنها لا تحسن سوى رفع الخناجر وسل السيوف ودق رؤوس المخالفين بالفؤوس .

الحقيقة أن موقف البوطي لم يكن سوى قطرة في بحر اليقين على أن الفكر السياسي الراديكالي المتضخم ميدانيا في أرض القتال ، ليس سوى آلة خارجية لتحطيم وتدمير كل مقومات النهضة العربية والإسلامية وعوامل التقدم والتحضر والتنافس الأممي ، لقد أثبت اغتيال البوطي عجز معارضيه عن تقديم أي نموذج سياسي يضمن الأمن والسلام لشعب يتطلع إلى العيش الكريم ولم يعد لهذا الشعب المكلوم الذي يعيش نكبة تاريخية سوى الاحتماء وراء ذكريات الأمن وحالات السكينة وهيهات أن تحقق له شيء من ذلك ففاقد الشيء لا يعطيه.

لقد أعادني مشهد اغتيال البوطي إلى الوراء قليلا لأجد تماثلا بينه وبين مشهد اغيال الشيخ أحمد ياسين على يد اليهود الغاصبين للسلطة الشرعية ، هؤلاء اليهود الذين تعددت عباءاتهم السياسية هم الذين يضبطون اليوم نار الشواء لأكوام اللحم العربي ، وهم الذين يضعون مقادير المجد العربي المعاصر لعار جديد لم أجد تصورا في ذهني لحالة الغثيان التي قد تنتاب أجيالنا القادمة وهي تطالعه بعين خجولة وتتابع الأنا السياسية وهي تنزع السلطة من أكباد رطبة دون رحمة أو إنسانية .

فإنا لله وإنا إليه راجعون .

 

العدد الخامس والثلاثون سياسة

عن الكاتب

خالد بن سعيد الكندي

كاتب عماني