عندما تتحول صيحة “الله أكبر” إلى مرادف إرهابي

( 1 )

لقد استطاع المسلمون عبر التاريخ أن يدمروا المساجد ويفجروها بمن فيها، أكثر مما فعل بها أعداؤهم وعلى رأسهم الصهاينة الذين أهانوا حرمة بيوت الله وحولوها إلى مخامر، والتاريخُ يشهد بذلك إذ أن المساجد شهدت الإغتيالات الأولى للخلفاء الراشدين ابتداء من الخليفة الثاني، واستمرت حتى يوم الخميس الماضي عندما فجر انتحاري نفسه في مسجد “الإيمان” بدمشق واستهدف بذلك الشيخ د. “محمد سعيد رمضان البوطي” رحمه الله، حيث تقدم إليه انتحاري وكبّر ثلاثا ثم فجّر نفسه وقتل من قتل ظانا بأنه بذلك يقدم خدمة للإسلام وتنتظره الحور العين الحسان!.

وحقيقة إن بعض الغلاة استطاعوا أن يُخرجوا عبارة “الله أكبر” من مضمونها وهي العبارة التي قاتل بها المسلمون الأوائل لإعلاء كلمة “لا إله إلا الله”، إذ أصبحت الآن مرادفة لكلمة “القتل أو الذبح” لكثرة ما يرددها كل من يعتدي على حيوات وحرمات الآخرين، وكأن نطق هذه العبارة يعطيهم الحق في أي يفعلوا ما يشاؤون بمن يشاؤون، وهكذا رأينا إعدامات تتم للأبرياء مع صيحة “الله أكبر”، ورأينا أيضا كيف يتم تدمير المساجد والأضرحة مع صيحة “الله أكبر”، وشاهدنا مشاهد يتم فيها التمثيل بجثث المسلمين مع الصيحة الشهيرة “الله أكبر” مما شوه سمعة المسلمين في العالم زيادة، رغم أن الإسلام لا يجيز ذلك أبدا ويحرّم التمثيل بالجثث.

( 2 )

لقد أكد التعصب والغلو علوّ كعبه يوم الخميس الماضي في دمشق ضد رجل كان طول حياته ضد الغلو وضد التعصب، إذ تقول تفاصيل حادث اغتيال الشيخ د. “محمد البوطي” إن أحد المندسين وسط المصلين الذين كانوا يحضرون درسه الأسبوعي والذي يحضره المئات من الناس مساء كل اثنين وخميس في جامع “الإيمان” بدمشق، نهض وكبر ثلاثا وهو يتوجه صوب المنبر قبل أن يضغط على الحزام الناسف الذي كان يلبسه حيث أدى الانفجار إلى استشهاد الشيخ “البوطي” وأكثر من 25 مصليا فورا، وإصابة العشرات الآخرين بجروح خطرة، أسعفوا إلى المشافي المجاورة لم يلبثوا إلا أن توفوا.

يعتبر الشيخ “البوطي” رحمه الله من أهم الإئمة الذين عرفتهم دمشق وبلاد الشام منذ إمام الشام الأكبر “محي الدين بن عربي” في القرن الثالث عشر الميلادي، الذي تأثر به “البوطي” كثيرا، رغم أنه لم يكن صوفيا على غرار “ابن عربي” بل “أشعري” مناهض بشدة للسلفية الوهابية، وهو كردي سنيّ، ولكن هذا لم يمنع القيادة السورية – التي يصفها البعض ممن ينظرون إلى المسائل من زاوية طائفية مذهبية ضيقة بأنها قيادة علوية وبعثية قومية – من أن تجعله إمام وخطيب الجامع الأموي، لأن الانتماء القومي لم يكن يعني له وللنظام أي شيء، مثله في ذلك مثل أي مسلم يؤمن بـ”الأمة الإسلامية”، وكان الشيخ “البوطي”، الذي ينتشر الآلاف من أتباعه وتلامذته في سوريا والعالم على خلاف عميق طوال حياته مع “الوهابية” و “الإخوان المسلمين”، وقد تصدى للإخوان خلال محنة الثمانينيات في حمص وحماة، مما دفع بالإخوان وجناحها العسكري (الطليعة الإسلامية المقاتلة) إلى اغتيال أحد أبنائه آنذاك.

كان البوطي مقربا جدا من السلطة، وهو من تولى الصلاة على رأس السلطة الراحل “حافظ الأسد” حين وفاته في العام 2000 ومن قبله ابنه “باسل” في العام 1994، لكنه كما وصفه المقربون منه، ومنهم بعض المعارضين، كان عفيف النفس، وصاحب كرامة شخصية، وزاهدا زهد الصوفيين الحقيقيين، ولم يستفد من أعطيات السلطان الأسدي المادية شيئا، كما وصفه المعارض السوري “نزار نيوف” في موقعه “الحقيقة”، وقال عنه “كان خصما عنيدا لنا نحن الملحدين والعلمانيين، لكنه لم يكن تكفيريا في أي يوم من الأيام، ولهذا فإن اغتياله لا يشكل طعنة لنا فقط، بل أيضا وفي المقام الأول لـ”الإسلام الشامي” والمدرسة الفكرية التي يمثلها هذا الإسلام”، وبهذا المعنى فإن اغتيال الشيخ “البوطي” جاء في سياق الحرب على “الإسلام الشامي” أكثر مما جاء في سياق سياسي يرتبط بالصراع بين عصابة السلطة وحلف العصابات الآخر الممول والمدعوم أمريكيا وإسرائيليا ووهابيا.

ولكي نشرح ما معنى “الإسلام الشامي” فإن الشيخ البوطي رحمه الله كان من أبرز من أدرك خطر ما يسمى بالإسلام السلفي أو الوهابي على سوريا والعالم، فكان وراء فكرة تأسيس اتحاد “علماء بلاد الشام” الذي أراد له أن يقف في وجه الوهابية وانتشارها المدمر.

إن كل تلك المواقف كانت كفيلة بأن تجعل الشيخ البوطي في مرمى النار، ولكنه أضاف لنفسه مصادر نيران أخرى عندما وقف مع النظام السوري ضد الانتفاضة السورية وندد بالجيش الحر وأيد الجيش العربي السوري، وكان يرى  أن ما يحدث في سوريا هو حرب معلنة من إسرائيل ومؤامرة كبرى ضد سوريا، كما كان كثير الانتقاد لعناصر المعارضة المسلحة والجيش الحر، وقد لقيت مواقفه ضد الثورة في سوريا انتقادات واسعة في صفوف المعارضين لنظام الرئيس بشار، حيث يقول ناشطون معارضون إن “البوطي” طُرد من أحد مساجد دمشق بعد قوله إن “غالبية الناس الذين يخرجون من صلاة الجمعة إلى التظاهر لا يعرفون شيئا عن الصلاة”، وأعلن رفضه لتلك الاحتجاجات، ودعا المحتجين إلى “عدم الانقياد وراء الدعوات مجهولة المصدر التي تحاول استغلال المساجد لإثارة الفتن والفوضى في سوريا”.

لكن الغريب في المسألة أن يخرج “أحمد معاذ الخطيب” رئيس الإئتلاف السوري المعارض بتصريح يرجّح فيه أن نظام الأسد هو الذي قتل الشيخ “البوطي”، وهو ما يتنافى تماما مع مواقف الرجل من الحكومة ومن الثورة السورية والجيش الحر، ولكن هناك ما هو أغرب من تصريح “معاذ الخطيب”، وهو تصريح الشيخ د. “يوسف القرضاوي” عبر برنامج “الشريعة والحياة” بقناة الجزيرة بتاريخ 17/3/2013 حيث وصف فيه الشيخ البوطي بأنه “فقد هويته وفقد عقله وأنه مجنون وبه بلاهة وإننا كنا نظنه من العلماء” ثم دعا علنا إلى قتال كل من يعملون مع السلطة سواء كانوا عسكريين أو مدنيين أو علماء، وأن من يقاتل هذه الأنظمة عليه أن يقاتل مثل هؤلاء، وهذه دعوة صريحة وتحريض على القتل، حيث سبق للشيخ القرضاوي أن أصدر فتاوى مثلها، منها جواز قتل “القذافي” و”بشار” وجواز الاستعانة بالقوات الأجنبية لقتال الأنظمة داخل الوطن، ولكنه يتجاهل تماما الأوضاع داخل قطر أو السعودية أو دول الخليج عموما، ولا يتجرأ أن يقول شيئا في ذلك مهما كانت الأمور أصعب وأسوأ من ليبيا أو سوريا.

إن أصحاب فتاوى القتل هذه قد تلطخت أياديهم بدماء الأبرياء في كل مكان، وللأسف أن يجنح الشيخ “يوسف القرضاوي” إلى هذا المنحى – وهو قامة كبيرة وعالم جليل -, فهو يتحمل أمام الله وأمام القانون كل ما سببته فتاواه من دمار، لأن الشيخ “القرضاوي” كما يبدو من الصنف الذي يرى الظاهر فقط ولا يستطيع أن يغوص في الأعماق ويقرأ ما بين الأحرف، عكس الشيخ “البوطي” الذي كان يتحدث كرجل عاقل يحب بلاده ويدعو إلى تغليب العقل والحكمة وحفظ سوريا من الدمار وإلى حقن دماء السوريين وهو أدرى بمصلحة بلاده أكثر من الشيخ القرضاوي الذي ينتقل من نعيم إلى نعيم ويعيش على موائد الملوك والأمراء، ولكن – كما يبدو – فإن مصيرا صعبا ينتظر الشيخ القرضاوي نظير فتاواه، ولا نستطيع أن نحدد هذا المصير ولكننا نتوقعه..!

لقد ترك الشيخ “البوطي” عشرات الكتب الدينية، وقد تعرفتُ على اسمه لأول مرة في الثمانينات من القرن الماضي عندما قرأت رواية «ميمو زين»، وهي أسطورة الحب الكردية التي ترجمها منذ خمسينيات القرن الماضي بهدف الحفاظ على الموروث الكردي، ولا تزال الرواية متداولة حتى الآن، وقد ظلت الأكثر شهرة وصيتاً بين مؤلفاته، رغم تردد أخبار عن ندمه لترجمتها لاحقاً.

( 3 )

رحم الله الشيخ “محمد سعيد البوطي” الذي كان مثالا لعلماء المسلمين المعتدلين الذي لم يكفر أحدا، وقد شاهدتُه في إحدى المرات وقد اتصل به مواطن سوري مقيم في عمان يسأله: هل يجوز أن يصلي وراء الإباضية، فرد عليه فورا دون تردد: “صل وراءهم، وصل وراء كل مذهب”، وهو ما يرفضه الكثير من العلماء في الجوار، وقد ظل الشيخ “البوطي” يعطي العذر لكل من خالفه في الرأي، وظل يردد “أسامح كل من يخالفني الرأي عن جهل أو اجتهاد، بل أدعو الله أن يكتب له الأجر على نيته إن كان جاهلا”

كتب “أحمد بسام ساعي” الأستاذ الجامعي في إنجلترا وأحد المقربين من جماعة الإخوان المسلمين السورية، وذلك في تقديمه للطبعة الثانية لكتاب البوطي «هذا ما قلته» يقول: “لقد تركت سوريا والمساجدُ تبحث عن مصلين، وعدت إليها بعد أكثر من عشرين عامًا والمساجد تبحث عن أماكن لاستيعاب جماهير المصلين الجدد، تركتها والشبابُ في المساجد هم القلة، وعدتُ لأراهم فيها الكثرة الكاثرة، تركتها وهي شبه خالية من الحجاب، وعدت لأراها شبه خالية من السفور. كيف كان لكل هذا أن يتحقق لولا فضل الله، ونماذج إسلامية خيرة كالشيخ محمد  البوطي”.

 

العدد الخامس والثلاثون سياسة

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com