إن مستوى التعقيد الذي آلت إليه الأحداث مؤخرا والتي كان أبرزها جريمة قتل الشيخ العالم ، بقية السلف الصالح محمد سعيد رمضان البوطي يجعل من الضرورة بمكان استمالة العقل والمنطق والحكمة إلى الوقوف لحظة إصغاء تؤطر تحديات الخروج من هذا النفق الموحش في الظلمة وتضمن الأمن والسلامة للدهماء عامة ، والحقيقة أنه رغم وجود تحديات عديدة تقف حجر عثرة في طريق تقدم هذه الأمة باتجاه ضفة الأمان ، إلا أن التحدي المصيري من بينها هو الوقوف في وجه الشطط “الجهادي” في ظل مراهنات ميدانية غرضية وظروف متدافعة نحو فتنة دموية أصبح فيها الحليم حيرانا .
ولعل الباعث على إلقاء قطع من الضوء الكاشف على القضية ؛ هو تلبس ذلك الشطط بلبوس الوسطية والاعتدال في ثنائية لا يمكن أن تجتمع ضمن تركيبة متناغمة ومتجانسة ، إلا أن يكون لتلك الوسطية المزعومة دلالات غير التي تعورف عليها واستقر الرأي في بيانها ، إذ لا يمكن لعاقل سويّ أن يقبل التعدي على حرمة الدم المسلم بدعوى الوسطية والاعتدال ، كما لا يمكن لعاقل سويّ أن يقبل التعدي على حرمة بيوت الله تعالى التي أمن فيها ضيوف الرحمن على أنفسهم ؛ ويكون ذلك الاعتداء الجائر وسطية واعتدال ، هذا اعوجاج واضح وسقم بيّن لذلك قيل حدث العاقل بما لا يعقل فإن صدق فلا عقل له.
إن شحنة العداء التي ظهرت في بعض فتاوى “الشيوخ” وبعض المتفيقهين في جواز قتل كل من يعمل لدى النظام السوري مهما كانت رتبته الإنسانية ؛ لا يمكن أن تجتمع مع الوسطية التي صدّعوا بها رؤوسنا سنوات ماضية ، وهذه النفحة التكفيرية والنزعة الدموية لا يمكن هي الأخرى أن تكون في لحظة من اللحظات اعتدال في الفكر الاجتهادي ، فالدعوة إلى قتل كل من يعمل لدى السلطة عسكريا كان أو مدنيا عالما أو جاهلا هي دعوة لقيطة لا نعرف لها أبا ولا عشيرة ، إذ لا أصل لها في شريعة الرحمة ولا تقوى على الصمود في حضرة المنطق والدليل ، دعوة ممسوخة بشعة المظهر والمخبر ومن العجب أن يتبنى تلك الدعوة ” عالم ” ينتسب إلى السديم المحمدي وفضاءاته الرحبة التي تستوعب كل المختلف! ، كيف ندعو إلى مشروع الحرية والديموقراطية باسم الإسلام ونحن نشرّع ونبرر قطع رأس كل من يخالفنا الرأي والمنهج رغم المحاذير الشرعية العديدة في حرمة الدم المسلم كتابا وسنة ، وكيف نستبيح دماء الناس وأعراضهم بذريعة تأسيس نظام ديموقراطي حر ونحن لا نطيق مجرد أصوات تختلف مع مشروعنا الديموقراطي الزائف ، لقد وصف العفيف الأخضر مواقف الجابري في أنه ” يكتب عن العقل ولا يكتب به ” وكذلك الحال هنا في أمثال هذه الفتاوى التكتيكية التي تصب في قوالب مصممة سلفا بحسب مقاسات الظروف والأحوال والنوازل السياسية فنقول عن أي إكليروس إسلامي أنه يفتي باسم الإسلام ولا يعمل بروحه ولا بمقاصده العليا السامية إلا على مستوى الشكل واللفظ .
هذا النوع من النزعة الأصولية الرثة هي التي اجتاحت سيولها الجارفة كل مخالف لها في الرأي وحطمت كل فسيفساء فكرية أو دينية أبرزت تعددية معرفية ، فـُأزهقت الأرواح ودُمرّت الأضرحة واقتيد الناس إلى تبني عقائد التكفير وألزموها رغما عنهم ، ولا تزال اليوم أشباح هذا الفكر الإقصائي والدموي تردد تلك الدعوات التكفيرية بدعوى الوسطية والاعتدال في تحد صارخ للوعي الإنساني والإرادة العامة ، وها هم جنرالات الفقه الإقطاعي وكهنة الحروب يجددون القطيعة الحقوقية والثقافية مع باقي الأمم والشعوب بهذه الفتاوى السياسية التكفيرية المدمرة لمقدرات الأمة ومقومات سموها ، ويحرضون على مزيد من الانقسام واللهيب الطائفي وهو الهدف الذي يتآمر أعداء الأمة على تحقيقه ، إن بعض مواقف هؤلاء الشيوخ يصعب التوفيق فيما بينها حقا ، ففي الوقت الذي يحذرون فيه بشار الأسد من مؤامرة ضده لرفضه غزو العراق ومناصرته لغزة إذا بهم اليوم يحرضون ضده وضد نظامه بل وضد كل من يعمل في هذا النظام أيا كانت رتبته الإنسانية ، وفي الوقت الذي يمتدحون فيه بشار الأسد بالرحابة والعقل المتفتح والايجابية إذا بهم يصفونه اليوم ويصفون نظامه بالظالم والغاشم ، وفي الوقت الذي يدينون فيه قتل المدنيين في نيويورك إذا بهم يأمرون بقتلهم في دمشق رغم احتمائهم بلا إله إلا الله محمد رسول الله إذ لم تعصمهم شهادة التوحيد عن القتل بينما عصمت غيرهم من الملل الأخرى وأنقذتهم من الموت ، وفي الوقت الذي طالبوا فيه الشعوب العربية وخاصة في سوريا ومصر بالاحتكام إلى الانتخابات والتعقل في معالجة القضايا السياسية إذا بهم اليوم يأمرون تلك الشعوب بمقاتلة بعضها بعضا لا فرق في القتال بين عسكري ومدني أو بين عالم وجاهل ، هذه بعض مواقفهم من النظام السوري فضلا عن مواقف عديدة متناقضة متضادة لأنظمة عربية وقادة عرب كابن علي والقذافي وغيرها من المواقف الغريبة ويمكن لمن شاء العودة لها في مظانها كفتوى ذات الوجهين بانضمام المسلم الأمريكي للجيش الأمريكي في الوقت الذي أفتى بضرورة محاربة الجيش الأمريكي فالمسلم الأمريكي عليه أن يقتل المسلم غير الأمريكي والعكس ، فلا أدري فيمَ يختلف فكر جنكيز خان الدموي الذي كان يسحق كل المارقين (كما يظن) عن الفكر الذي يتجلى في الخطاب التعبوي المتناقض وقد ظهرت آثاره الفادحة ، جنكيز خان الذي كان يعتقد أنه عقاب الرب للمارقين الذين يقفون في طريق تقدمه وهو الذي كان على استعداد للتضحية بنصف شعب المغول في سبيل الوصول إلى أهدافه وكذا من بعده هولاكو ، وأي خطر يمكن أن يكون أكبر من أن يترأس هذا الفكر الخارجي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ومجالس أخرى مماثلة ؟ وأي مصيبة أكبر من أن يكون رأس منظمة عالمية للمسلمين لا يعترف بفسطاط الإسلام فيستبيح دماء المسلمين وهي عليهم حرام ؟ وكيف يحرصون أن يكون لأهل الذمة عهد ويتجاهلون حرمة دماء أهل الإسلام وحرمة مقدساتهم ؟ وأي بلاء أشد من بلاء أمتنا الجريحة وقد بات أبناؤها ضحايا هذه الفتاوى والقراءات يقتلون بعضهم بعضا ويخربون بيوتهم بأيديهم ويغتصبون نساءهم وبناتهم ويتعمدون إشاعة الإهانة والإساءة والتشفي البغيض فيما بينهم ، ثم يخرج لنا بعض السذج والجهلة الذين ألفوا منافقة الوعي العام لجفاف عقولهم وتصحر قلوبهم ليصف تلك الجرائم الوحشية على أنها عقاب الله تعالى لأولئك الضحايا وأنها سوء خاتمة مبررة لتشريع مزيد من أعمال العنف والعنف المضاد .
إن الأزمة الداهمة التي تتهدد أمة الإسلام اليوم والهزيمة الإنسانية التي نعيشها هي هذه البطالة الطائفية المتسلقة وهذا النشاز الذي ينتسب إلى الإسلام من علماء الفرقة والشقاق وجنرالات الحروب والصدام المسلح مع المختلف والتي تجتهد في التكييف القهري للفتاوى بحسب المواقف التي تقتضيها السياسة وبحسب ظروف المناخ ولعلها بحسب منافع أخرى لا يعلمها إلا الله ، ولعمري لو أن مخالفي هذا الفكر التكفيري تبنوه هم كذلك لكان الواجب قطع رؤوس هؤلاء الخوارج أو تفجيرهم كما حصل مع جريمة قتل البوطي باعتباره مخالف في الفكر والمنهج والتطبيق ، وحاشا لأهل الحكمة أن ينزلقوا لمثل ذلك فهم علماء الحق الثابت رغم تبدل المواقف ودعاة الفكر التنويري الراسخ الذي يعترف بإنسانية الآخر مهما بلغ الخلاف ذروته ، وهم الذين انعقدت عليهم الآمال في توعية جمهور المسلمين بالاحتكام إلى العقل والمنطق ولمّ شملهم وإنهاء حالة التشظي المزمنة ، وهم المعول عليهم في هذه المحنة الخطيرة للخروج بأقل الخسائر واستعادة نعمة الأمن والأمان لشعوب مكلومة مغلوب على أمرها .