جلالة السلطان المعظم .. والقمم العربية

أشارت وسائل الإعلام العربية إلى عدم حضور جلالة السلطان المعظم حفظه الله ورعاه للقمة العربية الأخيرة في الدوحة الأسبوع الماضي وذيلت خبر الغياب بعبارة تقول “الذي لا يشارك في القمم العربية عادة”، وهو موضوع سبق وأن تناوله الكثيرون أكثر من مرة.

وهذا الموضوع يحتاج إلى شرح، فعندما تولى جلالة السلطان المعظم مقاليد الحكم في عمان كان مفعما بالأمل، فحضر القمة العربية التي عقدت في الجزائر عام 1973، واستمع إلى الكثير من الأقوال التي قيلت، لكنه – كما نقل عنه سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة الحوادث اللبنانية – فوجيء أن كل المداولات تدور في حلقة مفرغة، لذا طرح على الحضور سؤالا محددا هو: هل أنتم قادرون على محاربة إسرائيل؟ كانت الإجابة لا، ثم سألهم: هل لديكم خطة بديلة؟ كانت الإجابة أيضا لا، هنا أدرك جلالته حفظه الله مبكرا أن القادة العرب يضيّعون أوقاتهم سدى وأن لا فائدة تُرجى من هذه القمم، وأستطيع أن أقول إن وجهة نظر جلالته كانت صائبة جدا، لأننا كمواطنين عاديين نعلم تماما أن ال24 قمة عربية التي عقدت حتى الآن لم تحقق شيئا أبدا، بل هناك من القمم ما أصبحت شؤما على الوطن العربي لأنها أعطت الشرعية لاحتلال العراق وليبيا وسوريا، وكان دور جامعة الدول العربية هو دور تنفيذ المخططات الأجنبية ضد الوطن العربي، فيما قضية العرب الأساسية وهي قضية فلسطين لم يجدّ فيها جديد، وعلى عكس ذلك فإن إسرائيل أصبحت أقوى وأطول ذراعا، وأصبح المسجد الأقصى الذي تغنى به البعض واستمد شرعيته من المتاجرة به كقضية أصبح أقرب إلى الهدم.

ماذا نستطيع أن نقول عن قمم يحضرها قادة أمة يُفترض أن تكون أمة واحدة، يحضرون إلى القاعات ويغادرونها وهم لا يعرفون بعضهم بعضا؟ وقد نقلت الأخبار أن “محمد عبد العزيز” رئيس موريتانيا أشتكى من تجاهله في أول قمة حضرها ولم يصافحه أحد، وماذا نستطيع أن نقول عن قمم تُنقل على الهواء مباشرة وكأنها ندوات لتطوير صيد الأسماك أو تطوير الصناعات التقليديه؟ وماذا نستطيع أن نقول عن قمم قرأ بعض الزعماء العرب بيانها الختامي قبل انعقادها؟ إن أي قمة تستمد شرعيتها دائما عندما يعلق الناس الآمال عليها ويشعر المواطن العادي أن هناك من يمثله ويبحث له عن مستقبله، عكس ما يحصل الآن إذ أن الشعوب العربية تتجاهل القمم ولا تتفاعل مع بياناتها الختامية باعتبارها كلاما مكررا لا جديد فيه، ووصل الشعور العام لدى المواطنين العرب إلى الخوف من انعقاد أي قمة لأن التجارب أثبتت أن هناك ضحية ما في الطريق بعد كل قمة.

لقد تميزت السياسة العمانية بالاستقلالية التامة منذ تولى مقاليد الحكم جلالة السلطان المعظم حفظه الله، وظهر ذلك جليا عندما قرر العرب في قمتهم في بغداد عام 1979 مقاطعة مصر لعقدها اتفاقية صلح منفرد مع إسرائيل إذ كان الموقف العماني هو ضد قطع العلاقات مع مصر، لكن بعض القادة أصروا على ذلك وأعلنوا مقاطعة مصر رسميا كنوع من الاستعراض الإعلامي فقط، فيما كانت السفارات كلها موجودة بموظفيها تعمل تحت الطاولة، ولقد دارت الأيام فإذا العراق نفسه الذي تزعم قمة المقاطعة يحتاج إلى مصر عندما تعرض لضغط شديد في معركة “الفاو”، فلجأ العراق إلى السلطنة للتوسط مع مصر التي أمدت العراق بالأسلحة والخبرات العسكرية حتى تحررت “الفاو”، مما يدل على أن قرار المقاطعة في الأصل كان قرارا خاطئا لأن العلاقات العربية المصرية عادت إلى سابق عهدها بوجود معاهدة “كامب ديفيد” نفسها ولم يتغير من الموقف شيء، بل إن الدول العربية التي قاطعت مصر بسبب علاقاتها مع إسرائيل لها اتصالات قوية مع إسرائيل دون أن تعلن ذلك، وليس أدل على هذا مما صرح به “يهود أولمرت” رئيس الوزراء الإسرائيلي أيام الحرب ضد حزب الله من “أن كثيرا من القادة العرب اتصلوا به حتى يقضي على حزب الله”،! بمعنى أن الحكومات العربية تعلن شيئا وتفعل شيئا آخر في الخفاء، وهذا ما  جعل القيادة الإسرائيلية تعلن على لسان “أفيغدور ليبرمان” وزير خارجيتها “أن العرب في تعاملهم مع إسرائيل يشبهون من يتعامل مع عاهرة، فهم يتعاملون معها سرا ولكنهم لا يجهرون بذلك” وأضاف أن “إسرائيل ترفض ذلك الآن وتريد علاقة علنية”.

لقد شاركت السلطنة في كل القمم العربية ولم تنقطع عنها، كما أنها التزمت في دفع مخصصات الجامعة العربية في وقت تأخرت دول غنية عن الدفع مما أدى إلى أزمة الجامعة المالية قبل سنوات، وكذلك التزمت بدفع نصيبها المقرر لمنظمة التحرير الفلسطينية ولم تتأخر، مما يشير إلى أن عمان تلتزم بدورها وبكل ما يؤدي إلى التضامن العربي، الذي أصبح الآن مجرد شعار يرفع، وهذا لا يمنع أن يكون للسلطنة رأيها وسياستها المستقلة، ثم إن جلالة السلطان المعظم رعاه الله سيحضر أي قمة إذا كانت ستتخذ قرارا مصيريا، أما أن يتم في الاجتماع السب والقذف ورمي الصحون في وجه البعض كما حصل في قمة شرم الشيخ، ويتم السب وتبادل الاتهامات علنا كما حصل في أكثر من قمة، فلا داعي للحضور بل لا داعي للقمة من الأصل، ومن هنا يمكن أيضا أن نتفهم اعتذار السلطنة عن استضافة القمة الماضية التي عقدت في الدوحة إذ حسب الحروف الأبجدية كان على السلطنة أن تستضيفها، مما أثار حفيظة صحيفة “تشرين” السورية التي رأت أن الامتناع العماني عن استضافة القمة العربية صبّ بكليته في مصلحة قطر ومخططاتها التآمرية ضد سوريا والأمة العربية – والقول للصحيفة -، وقالت :” قد تكون سلطنة عمان محقة في ابتعادها عن العرب وقممهم فلا خير فيها ولا فرج، خصوصا مع تحول الجامعة العربية إلى مذبح تُقدَم فيه الدول العربية، الواحدة تلو الأخرى، قرابين في سبيل إرضاء الأميركي والإسرائيلي، والسلطان قابوس بلا شك هو أدرى بشعاب جيرانه الخليجيين وبما يخططون، لذلك هو ينأى بنفسه عن قمم عربية باتت مطية لما يريده هؤلاء”.

إن الذي يحدث الآن في القمم العربية هو أن بعض الدول تحاول أن تسيطر على القرار العربي بما تملك من مال بغياب الدول العربية الأساسية الفاعلة، لذا فإن كل القمم تأتي هزيلة ولا يتم الإعداد لها الإعداد الجيد، ويحضر القادة ويتم نقل الجلسات على الهواء، في صورة أقرب إلى لقاء الغرباء، ويخطيء فيها حتى المضيفون في نطق أسماء نظرائهم من الضيوف، وهنا أعود لأقول إن جلالة السلطان المعظم أبقاه الله كان قد انتبه إلى هذا الوضع أيضا من فترة مبكرة، ففي نوفمبر عام 1985 عقد مؤتمرا صحفيا لوسائل الإعلام المحلية تناول فيه العديد من القضايا، ومما اقترح في ذلك اليوم لإنجاح القمم العربية هو أن يلتقي القادة في جلسات ودية بعيدة عن الأضواء كأن يلتقوا في حديقة ويناقشوا المواضيع المطروحة بروح أخوية وبأريحية وتلقائية وتدور عليهم فناجين الشاي والقهوة، بعد أن يكون قد سبق هذا اللقاء جلسات تحضيرية لوزراء الخارجية ثم رؤساء الوزراء وهكذا، وهذا كفيل بإنجاح أي لقاء لأن الحكام العرب في هذه الحالة يكونون بعيدين عن الضغط الإعلامي، ويكونون أقرب في العلاقات الإنسانية مع بعضهم البعض، وهو اقتراح إذا لم يتم الأخذ به فإن القمم العربية ستستمر على ما هي عليه وسيستمر التجاهل الشعبي لها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، فما شاهده جلالة السلطان المعظم في قمة الجزائر كان أرحم بكثير مما شاهده عامة الناس في القمم اللاحقة عبر الفضائيات.

Zahir679@gmail.com

السادس والثلاثون سياسة

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com