يوميات محكوم بالإعدام أمام حبل المشنقة تُختبر رباطة النفوس

كتب بواسطة أحمد الهنائي

في إحدى الضواحي العربية، وعلى أحد الأسرّة البيضاء الملطخة بروائح الرحيل، همس الوالدان في أذنيه أنِ “اعتني بشققتك جيدًا”، وكن درعها الواقعي من أخطار الحياة وشرورها؛ لم يمضِ كثير وقتٍ حتى غدر بهما الموت وغادرا الحياة سريعًا وهما في أوج الشباب ونضارة الحياة، فالتصقت الأختُ بأخيها وعاشتْ في كنفه وظله على خير حال، ولصغر سنها تمكنت من قلبه واستوطنته، وغدت مثار اهتمامه ومبلغ سعادته ومَكْمَن فرحه، وتحولت مشاعره أو كادته نحوها، فتَزيّتْ بثوب البنوّة لا الأخوّة، ووجد معها أطيافًا من اللهفة والخوف والحب، فاصطنعها على عينه وبذل في محبتها ما لا يبذله الوالد الحقيقي.

لم يطب خاطره على رحيل والديه، ولم يبرأ القلب المعتلج حتى فجعه الزمان بموقفٍ ما كان له على استعداد، فوَهَنَ أمامه وتضعضع وهو القويُ الجبارُ الذي لا يلين لحدثٍ أو معضلة، لكن ما شاهدته عيناه من منظر شقيقته وهي في موضعٍ مخلٍّ على فراشها في عناق حبيبها، حَطمتْ كل جبروته، وفي الوهلة التي أوشك فيها على استرداد شيئًا من جاهليةٍ وحميةٍ مستعرةٍ بأعماقه وهو ينوي السوء بها، بَرقتْ وصيةُ الوالديْن في ذهنه، وتحول زائرًا ثائرًا موتورًا قِبلة العاشق المستبيح للحرمة، فلاكمهُ طويلًا، وتبادل معه الضربات والركل، وفي اللحظة التي أوشك فيها على القضاء على البقية الباقية من أنفاسه لاذ “الصديق” بالفرار وولّى هاربًا ولم يعقِّب؛ بيد أن القدر عاجله وقال قولتهُ الفصل، وتدحرج المسكين من سُلّم الدار وارتطم رأسه بالجدار فارتجّت كل أضلاعه، ففارق الحياة من فوره.

انتابته حالةٌ أشبهَ بالجنون، وما الجنون في هذا الموضعِ بغريب، لم يجد فسحةً من وقتٍ يكاشف شقيقته، ويستوضح الدواعي التي أوصلتها إلى اختلال الموازين لديها واعتلال مفهوم الحب المقدس في عقلها وبواطن قلبها. وحينما اقتيد إلى الحبس قَلّبَ مصير شقيقته في ذهنه كثيرًا، ولم يفلح في التوفيق بين القلق عليها والخشية من المستقبل المظلم الذي ينتظره، وما يحسب أنه أذنب بقدر تسببه في إزهاق روحٍ تطاولت على كل الروابط المقدسة بالشرف والحب والإنسانية، وما أضحى وقتئذ يملك زمام استقراء المستقبل بكياسةٍ ودهاء عطفًا على المؤشرات، فمؤشراته اللحظية يشوبها الإرتباك والقلق والحسرة والندامة والضبابية المعتمة والفضاء المخنوق المستفز.

وليكتمل المشهد ويزداد بؤسه، أعلنت الشقيقة براءتها من كل مواثيق الوفاء وعُرى القرابة ووشائج المحبة، فآصرتها الآنية لا ترى في شقيقها الذي وهبها كل ما يملك من مشاعر وتضحياتٍ، وما أغدق عليها من حبٍ ورعايةٍ وعناية، لا تراه سوى قاتلٍ متوحش، ضرب بالإنسانية والرأفة والرحمة عرض الحائط، فغدت ناقمةً عليه ساخطة، لا تزوره في “سجنه” إلا لتوسعه ألمًا وتعنيفًا وتقريعًا، وتقتله في كل مرةٍ بتمردها عليه وإنكار روابط الدم بينهما، وهي تدعو الله ليل نهار أن يلّف حبل المشنقة عنقه، وكان لها ما أرادت، إذ شغل حكم “القاضي” الرأي العام بإعدامه، فقد تهيأت له جميع الأسباب والملابسات والظروف لإدانته بتعمد قصد القتل والإلحاح على تنفيذه.

لم يفلح سعي المحبين لتخفيف الحكم عنه، الذي رأوا فيه ظلمًا مبينًا وتكييفًا كييدًا له، وقد أوصدت جميع الأبواب لعرقلة التفاف حبل المشنقة حول عنقه، ذلكم الحبل الموثق العُرى ينتظر رقبته غير متمللٍ، وهو بمرور الأيام يتقدم إليه غير متراجع، ما أصاب “الحقوقيين” المتطلعين بنهمٍ إلى إلغاء حكم الإعدام من العالم بالخيبة، لكونهم يرونه عقابًا لا يتسم بروح الإنسانية، وأن المخطئ مهما بلغ خطؤه فإن له حقًا في أن يعيش ليكفر عن خطئه ويأوب إلى رشده فيصلح بعد فساد ويحسن بعد إساءة ويرتقي بعد تخريب ويحب بعد كره.

حكم الإعدام صدر، ولا راد لحكم المحكمة، وما هي إلا أيامٌ قلائل حتى يمثل فيها الشقيق المحب ساحة الإعدام، وفي النفس لواعجٌ ومرارة. حُبِسَ وحيدًا في غرفةٍ دافئة، يتسلل إليها النور في ساعاتٍ قليلةٍ من اليوم، أيامٌ كئيبة تمر عليه ثقيلةً مرعبة، وكأن جبال العالم كلها جاثمةٌ على صدره، لا أنيس يؤنس وحدته، ولا معين يخفف من سورة الألم بداخله، تأمل جدران الحبس فما وجدها ناطقةً ولا مستمعة، لم يتقبل الحكم، ونأت فكرة عدل الحياة من مخيلته، فأيُّ عدلٍ في أن يفقد والديه وهما في سنٍ كان يتوقان فيه للإستئناس بالحياة وتذوق ملذاتها والإنشراح بمواطن الفرح ومواكب النعيم فيها؟!، وأيُّ عدلٍ في أن يقاسم شقيقته كل شيء ويفيض عليها بِهَتُون رحمته وموانئ محبته وبِدَوح عطفه وحنانه، ثم تُدميه بخنجر الرذيلة، وتنتهك عرضه وميثاق الشرف الذي تقدست فيه كل العهود؟!، وهل من العدل في شيء أن يحاول إيذاء من اقتحم أسوار الوفاء فدكّ عروش الأمانة وفتح كل أبواب الممنوع والمحذور، فاختلس ثمين ما تحافظ عليه الفتاة دهرها كله، وحينما وازن في الأذيّة بعقلٍ وتروٍ، ولّى سارق العفاف ينكص على عقبيه، ولم يفلته ذو القوة المتين فعجّل حسابه وعقابه، وهل من العدل والإنصاف أن تنضوي شقيقته تحت لواء غَرِيمه فتدين بالمحبة والولاء له، وتتنكب عليه وتتنكر لكل الأيام الجميلة، فتتمنى موته نكالًا وتشفيًّا؟ أليس من الحيف ألا يمنح فرصةً للحياة، ولم يكُ سوى شريفٍ يناضل وينافح عن حقه؟!.

تمر الأيام وئيدة رغم دنو الأجل، فكل شيءٍ قاتم، ولا يزوره إلا رجل دينٍ لم يستطلع أن يبلغ من نفسه مكمنها، ولا يعالج الصدر المعتمل بالأنين، كل ما يفعله زيادة التجريم وإثبات الخطيئة عليه، وهو في تلكم الأثناء لا يحتاج لأكثر من طبيبٍ يسبر أغواره الدفينة، ويغوص في أعماقه الغائرة، هو بحاجةٍ إلى من يعيد له صفاء النفسه وتوازنها، ومن يجيب على تساؤلاته المتكررة التي لا تفتر ولا تهدأ ولا تنام، هو بحاجة إلى متمرسٍ يذكي فيه حب الحياة في الأيام القليلة الباقية، وطمئنته وهو راحلٌ أن كل شيءٍ هينٌ، وأن الحياة بخير.

رؤيته الثاقبة للأمور لا تعمل في صالحه؛ فهو يبصر مستقبلًا مظلم الروح ومتبلد الحس لشقيقته، طريقٌ لا تلمح فيه شعلةً توقد لها الطريق وتديم شعاع النور لها، طريقٌ متهالكٌ في بيداء مترامية مفتوحة على كل الإحتمالات السيئة، وهو يَشْرَق ويَغِصّ ويموت كَمدًا على العقبى المريبة البَائِرة لطفلةٍ مهما كَبُرت لا تستطيع أن تنزع رداء الطفولة وغنج البنات عنها. تورمت عيناه من هذا الإستشراف البائس القاتم، وما فتئت الروح تئن وتصرخ بثقل اللحظات، وكأنها تُمني الرحيل سريعًا عن واقعٍ مليئٍ بحمى الظلم ومغبّة المستقبل وغياهب القهر والإذلال.

كلما خفتت العين وأصابها الكرى، استفاق على وقع الأقدام، وهو ينتظر الجلاد ليصطحبه إلى موقعه الأخير من الحياة، كل زوايا الغرفة شاهدةً على قلقه وحزنه وبؤسه، وكل جانبٍ منها سيسجل لحظاتٍ طال المكوث فيها، والرجل يحاسب نفسه ويقرّعها ويَصِمُها بالخزي والعار، لا يلوي على شيءٍ سوى إضعاف جانب الإيمان بالأمل في نفسه، وما يزيد من مرارة واقعه أنه سيموت وهو لا يعلم إن كان ثمة قضيةٍ دافع عنها، فالشرف الذي توهمه يراه الآن يستباح، إن لم يكن على مرأىً منه فهو واقع المآل لا محالة، فإن كان سيموت دفاعًا عن شرفه، فإن الشرف ذاته سيزداد تلطخًا وانتهاكًا، والشقيقة عازمتٌ على الإنتقام منه بشتى أنواع الإذلال والإنتقام، فـــ “الحبيب” الراحل أغلى وأنفسَ في قلبها منه، ولن تتورع عن إكمال المسيرة حتى وإن افتضح أمرها وعلم بدناءتها القاصي والداني.

بعد أن تمكن الخوف منه، أَجْبَرَ المرشد الديني الذي يزوره كل يومٍ لأجل هدايته أن يغير لغة الحوار، وأن يستغل تلكم اللحظات القليلة في محادثةٍ بشرٍ يشعره بوجوده على الحياة، وسرعان ما استجاب لمطلبه وفهم لما يبطن له، واستمرا في تبادل القصص والأخبار، والمدهش أن الحكايات السعيدة بدأت تزداد في استرجاع الذكرى بين الرجلين، وكأن المحكوم عليه بالإعدام شنقًا نسى أمر المشنقة إلى حين، لكن فكرةً لَمَعَتْ في ذهنه، وأسرَّ به لمحدثه أن يبثه بعض الإقتراحات للتعامل مع المحكومين عليهم بالإعدام، في حين أن الآخر تعهد بأن يوصلها للمعنين بعد رحيله.

تنفس الصعداء أخيرًا، فشعر بدوره تجاه الوطن والإنسانية، فإن رحل عن الحياة، سيرحل بنفسٍ مطمئنةٍ واثقةٍ بِخَيْرِ مَا قَدَّم، وكان جملة ما اقترحه هو الإقامة الجبرية للمحكوم عليهم وسط أهلهم أو أحبتهم، ولا يغادرون المحيط المحدد لهم أبداً، لييعيشوا فرصتهم الأخيرة من الأيام المتبقية لهم في حبٍ وتعظيمٍ للخير وتعميقٍ لمشاعر الإنسانية. إضافة إلى منحهم فرصةً لفترةٍ زمنية تحصر بين الأسبوع والشهرين في تقديم مشروعٍ خيري يُطهّر به ذنوبهم، ويؤدون ما عليهم تجاه الحياة والأحياء، وهي إلى ذلك فإنها تعود بخيرها ونفعها العام على المجتمع.

استفاد من تجربته واقترح أن يخصص لكل محكومٍ عليه بالإعدام مختصين في علوم النفس والإجتماع والبرمجة اللغوية والفكرية، حتى يستفيد الطرفان من بعضهما، فهم يخففون عنه وينتشلون روحه من براثن الغواية ويميطون اللثام عن قلبه الممتلئ بالسواد والكراهية، فيستخرجون كل ذلك منه، ليقضي ليالٍ بيضاء نقية خالية من وشائب الخطيئة وأدرانها، ثم أنهم يستفيدون منه في معرفة الأسباب التي أوصلته إلى هذا الجرم، ودراستها جيدًا ووضع الحلول الوقائية لتفاديها مع الآخرين؛ فانقاذ فردٌ واحد أنفع للوطن من إزهاق روح العشرات، وكأنه يقول حتّاما ننتظر الناس يتساقطون من حبل المشانق كالفراش ويسلب الوطن أمنه وإمارات هناؤه وأمانه، ولا نقدم لهم مصلًا شافيًا يُنقّي نفوسهم من الدنس ومسببات الخيبة.

نقل المرشد الديني كل ذلك، وأَشرقتْ عيناه بضياء الحقيقة وهو يعرض اقتراحه حول ضرورة إلغاء أحكام الإعدام لكل من تسبب في وفاة كل معتدٍ زنيم مفترسٍ للأعراض، فمن قاتل عن عرضه فهو الأكثر حرصًا وحبًا لوطنه وأهله، وهو المكتنز بالجمال والحب والعذوبة، وفسح المجال له للتكفير عن خطئه بطرق وأساليب مشرعةً على الأعمال التطوعية والخيرية، وبذلك يكون أثره على محيطه وبلده أكبر وأجدى من قتله. دعمَ الناقلُ للمقترحات كل ما امتلكه من أدلةٍ دينية وإثباتاتٍ منطقية، فقد فتحتْ له الأيام التي قضاها مع المحكوم عليه بالإعدام المُسْتَقْبِلَ للموت بنفسٍ حائرة أفاقًا أخرى لم يكن لها على موعدٍ من قبل.

ها قد دنت لحظة الختام، وحضر جمعٌ غفير لمشاهدة تنفيذ الحكم المفروض عليه، ويطلب الرجل برهةً من وقتٍ يختلي فيها بربه، ويصله الصلة الأخيرة، وقد هيأ نفسه لرحلةٍ روحانيةٍ قصيرة، يُلقي فيها بكل ثقله وأغلاله، ويتخلص من كل ما طوّق عنقه منذُ مرأى الرذيلة في بيته، انتصب واقفًا وقوف مودع، استشعر الموقف الرهيب، لكنه لم يستطع أن يَخْلُصَ من أوشاب الحياة ولوَائِهَا ومنغصاتها، لم تهدأ نفسه أبدًا، ولم يقوَ على طرد الهواجس من قلبه الواجف الراجف، حاول بكل ما أُوتِيَ من قوةٍ أن يستشعر الوصل الإلهي ويسبح في بحار الحضرة الربانية، غَلَبَتْهُ شِقْوَتُه، وتاه عقله، واختلطت عليه الأمور كلها، فلم يستطع أن يكمل الفاتحة من دون خيالاتٍ متوجسةٍ تقترب من كل جوارحه، الرجلان تنتفضان، واليدان تتجمدان، أنهكه الوقوف، فخرَّ على الأرض جاثمًا يسأل الله القرار والسكينة، يستعطفه أن ينعم عليه بالدعة والراحة والهدوء، براكينٌ تثور، ومشاعر متأججة، وحقٌ مزج بالباطل، وباطلٌ يستنصر الحق، وجنونٌ يعتريه.

لم يظن أن الموت مخيفٌ هكذا، سجد لله سجدته الأخيرة، وهو يرطم جبهته بالأرض خيّل له أن كل السلبية ستُطرد من أعماقه، وستلتهم الأرض كل الظنون والرعب الساري بأوصاله، لكنه عبثًا يحاول، إنه الموت الذي سيلاقيه بعد قليل، العَالَم المخيف الذي ينتظره، يتحسس لحظات العذاب ومشاعر خروج الروح، صفع وجهه بالأرض مرةً أخرى وهو يتخيل ألم الإختناق، وكيف تموت النفس ببشاعةٍ جراء كَتْمِ الأنفاس، يا لهذه الفضاعة والذهول وذهاب النفس حسرات قبيل الشنق.

صفارة تنفيذ الحكم تنطلق، الكل يرقب ويشاهد، يعلو تكبيرهُ وترديدهُ للشهادتين بارتجاف، يالله كم تحول ذلكم الرجل الجلد ذو الصلادة المعهودة إلى ريشةٍ تُحرّكها النسمات وتتلاعب بها الريح في كل جانب، توقفت ترديداته الدينية، وهو يصرخ أرجوكم أفلتوني، اتركوني، لا أريد الموت، لم أفعل ما يستوجب الموت، ومع نداءاته المتكررة، وصلت إقتراحاته إلى جهاتٍ عليا، ووجد أُذنًا مرهفة وقلبًا نقيًا محبًا، فتم الأخذ بها، وأُعلن وقف الحكم في اللحظة الأخيرة، لتكتب لذلكم الرجل حياةً جديدة، ليشهد تحولًا جذريًا شعوريًا وعمليًا في حياته، فمضى ينقل اقتراحاته التطويرية الوطنية المذهلة في كل جانب، وهي ما سنترافق معها لسردها بتجدد.

أدب السادس والثلاثون

عن الكاتب

أحمد الهنائي