فرحُنا المبدئي بانتفاضة الشعب السوري وبحثه عن ظروف سياسية واقتصادية أفضل، جعلنا متفائلين رغما عن كل ما آلت إليه الثورات العربية في البلدان الأخرى من عدم استقرار؛ ذلك لأن سوريا لها زخم كبير في قلب الأمة العربية، زخم تاريخي وجغرافي، ناهيك عن أنها أحد الحدود التي تصدنا جميعا عن عدو العرب الأول: الكيان الصهيوني. لكن الأحداث هناك ذهبت بعيدا جدا بحيث أن كل البدهيات التي تربينا عليها، نحن الشباب العربي، ها هي تبدو لنا مجرد توهمات ليس لها رصيد حقيقي من الواقع.
فبداية لا يبدو أن النعرات المذهبية والطائفية في طريقها إلى الاختفاء، فالصراع السني الشيعي والصراع بين الطوائف هذه والطوائف الأخرى ها هو يتلبس لبوسا سياسيا هذه المرة ويدخلنا في صراعات كنا قد توهمنا ساذجين أنها مضت أو في طريقها إلى الاضمحلال. كنا نتوهم ذلك رغم معرفتنا بالوضع المتأزم في العراق لكننا كنا نأمل بداية أن ما يحصل في العراق هو شأن عراقي خاص، وثانيا أنه أيضا إلى اضمحلال، مع تأسيس الدولة العراقية. لكنه الأن يبدو أنه شأن عربي بامتياز؛ فالحروب المذهبية التي يتلظى بها الناس في البحرين والعراق وسوريا ومصر ولبنان والسعودية واليمن وعدد من المناطق في دول أخرى، هذه الحروب تؤذن بأن الخطأ الأصل هو في نفوس الناس الذين اتخذوا الدين مطية لنزعاتهم العدوانية، وأسسوا للخراب والعدوان بدلا عن المحبة والسلام. إن هذا النزوع غير المبرر في رأيي إلى اعلاء المذهب فوق الدولة وفوق المؤسسات وفوق القانون بل وفوق الدين، ينذر بخطر محدق. لقد صدقنا وعشنا كذبة طويلة عنوانها التفاهم بين المذاهب والتآخي والتحاور والتفاهم وتابعنا الكثير من المنتديات والمؤتمرات التي حاول فيها علماء الدين والدولة أن يأطروا لعالم عربي وإسلامي خال من الجاهلية المذهبية إلا أنه يبدو لنا الآن، أن هؤلاء العلماء، أو بعضهم على الأقل، كانوا يخادعوننا أو يخادعون انفسهم، فها هو الأمر على حقيقته يظهر علانية. وها هي المذاهب وداعموها يدخلوننا، أو يحاولون أن يفعلوا، في أتون حروب لن تنتهي إلا بعد القضاء على الأخضر واليابس.
وثانيا، فإننا كنا نحن الشباب العربي نظن أن دولنا باتت مستقلة وتحررت كثيرا من الامبريالية الغربية التي عانت منها أوطاننا لسنوات طويلة، كل بقعة بحسب من احتلها وطريقة احتلاله، لكن الواقع الآن يؤكد أن الاستعمار لم ينته أبدا بل تحول شكله فحسب. بل إن شكله الحالي أكثر مخادعة واحتيالا فهو يظهر بطريقة لا تدفع إلى النفور منه مثلما كان الاستعمار العسكري الذي يحتل الأرض. الاستعمار الحالي هو استعمار يحدث عن طريق شركات النفط الكبرى وعن طريق المخابرات الأمريكية التي أصبحنا مجرد نقاط وخطوط ومقاطع مظللة في خرائطها الموضوعة على طاولات السراديب السرية للوكالة. ورغم أن الأزمة الاقتصادية التي هزت العالم الغربي بأكمله وأمريكا بالذات كانت يجب أن تخلق توازنات جديدة في العالم تدفعنا نحن العرب إلى التعاقد مع دول أخرى بحثا عن مصالح دولنا إلا أن الأمر لم يعدُ أن يكون مجرد طريقة أخرى من طرق التحكم بنا والدخول عنوة في اقتصادياتنا، كل هذا فقط ليعيش الأمريكي حلمه الرأسمالي الجميل على حساب آلام العالم كله، ويعيش بطمأنينة وهو ينهب جيوب العالم كله، وخصوصا عوالمنا المنكوبة بالتبعية. إن تدخلات العالم كله في القضية السورية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك في أن دولنا، ودولا أخرى كثيرة في هذا العالم المترامي الأطراف، واقعة تحت انعدام المساواة الدولية وتحت رحمة متطرفين رأسماليين وإرهابيين يعملون تحت غطاء الدول الكبرى، بمؤسساتها وشركاتها العابرة للقارات والمحطمة للشعوب الأخرى.
وثالثا فإن عدونا الأول الذي ابتدأت به حياتنا، وهو الكيان الصهيوني المحتل، لم يعد ما يجمعنا من أجل نهضة عربية حقيقية. إذ بسبب من الصراع الطائفي الأخير باتت بعض المذاهب عدوا أكبر لنا من هذا العدو التاريخي والجغرافي. فإيران باتت أخطر علينا وبتنا نخاف من تطلعاتها النووية أكثر من حقيقة وجود أسلحة نووية في إسرائيل. وبات الإخوان المسلمين في مصر وامتداداتهم السياسية والفكرية في البلدان العربية أخطر علينا من الفكر الصهيوني المحتل. وباتت السلفية المتشددة عدوا لنا جميعا بتصديرها للفتاوى المكفرة والداعية للقتل والإرهاب. لقد أصبح الاسرائيليون في ذهن البعض أهل كتاب لهم حقوقهم وواجباتهم بينما الايرانيون رجعوا مجوسا. ولكم كان حصيفا ذلك الكاتب الاسرائيلي الذي دعا دولة إسرائيل أن تظل صامتة في هذا الجو العربي المحتقن وألا تتفوه بأدنى تصريح، حتى تفسح مجالا أكبر ليدمر العرب ديارهم بأيديهم.
ورابعا باتت أماني الناس في الاستقرار والتقدم السياسي والاجتماعي رهينة للشك ومدعاة للتساؤل؛ فحتى الدول التي تبدو وكأنها قادرة على التقدم الظاهري والحقيقي في عالم المال والأعمال والسياحة، مثل تركيا، حتى هذه الدول مهددة من قبل النظام العالمي بفتح ملفاتها الشائكة وتضخيم أخطائها وقلب النظام على رأسها. لا أحد يبدو في مأمن؛ فكل بلد عربي أو اسلامي ، وبالطبع كل دولة أخرى فيما يبدو، يُعدُّ لها ملفات قابلة أن تطيح بها لو أنها خالفت النظام الموضوع لها والذي يخدم المصالح الإمبريالية الحديثة.
إنه لمن المحزن والداعي للكآبة أن نعود نحن العرب إلى المربع الأول، بل إلى النقطة الصفرية إن صح التعبير، ومن المحزن أن تصبح الدعوات للحرية والديموقراطية والعدالة والمساواة أدوات في يد الإمبريالية الأمريكية والغربية والصهيونية لتهديد كل دولة تحاول أن تتقدم باتجاه الأمام. إنه لمن المحزن فساد الإنسانية العام هذا الذي يهدد بتقويض كل مبدأ خير في حياة الشعوب من أجل أن تنعم قلة متبطرة بخيرات العالم وتنهب ثرواته وتعبث بمقدراته.
لا من حل يطرحه هذا المقال بعد هذا النوح؛ إلا أن نعي أن عدوينا الأولين هما ما يزالان عدوينا الأولين: أمريكا الإمبريالية وحليفاتها من دول الاستعمار السابق وبحثها الدائب عن طرق جديدة للتأكد من السيطرة التامة على مصادر الطاقة، والكيان الصهيوني المغروز في خاصرة العالم العربي، والذي ما فتئت أمريكا وحلفائها بكل ما أوتوا من قوة في صيانته وتقويته. أما مشكلتنا الأولى التي أصبحت اللعبة المفضلة لدى عدونا فهي ميلنا للعودة إلى التناحر المذهبي، وميلنا إلى الطائفية والمذهبية العمياء، وميلنا بسببها إلى العيش في التاريخ بعيدا جدا عن مشاكل العالم الحقيقية. يجب علينا فيما أرى أن يكون مفهومنا للتعددية المذهبية على أنها تعددية مثيرة للإبداع ومنهضة للتفكير والبحث وإيجاد طرق كثيرة للحياة لا أن يكون مفهومنا لها أن كل مذهب أو طائفة هي الحق الذي لا حق بعده والطريقة التي لا طريقة خلافها. أما فيما يتعلق بالقوى العظمى فلا يبدو أننا حاليا قادرون من الخارج، بسبب من ضعفنا الشديد، أن نفعل إزاءه شيئا كبيرا، بيد أنه يجب علينا على الأقل أن نحاول أن نوصل أصواتنا المستضعفة إلى الشعوب التي تحكمها هذه الحكومات، فأملنا كبير أن تنتفض الشعوب الغربية والمثقفون الغربيون والعلماء والمفكرون، أن ينتفضوا وأن ينكروا ما يفعل من استغلال وانتهاك باسمهم.