“من السواحل” و هبوبها

كتب بواسطة حبيبة الهنائي

لمسنا بالسلطنة مؤخراً اهتماماً رسمياً ملحوظاً لوضع العُمانيين العالقين في زنجبار خاصة وشرق أفريقيا عامة. فقبل انفجار الثورة النفطية بمنطقة الخليج العربي رحل العُمانيون الى أقاصي البلاد سعيا وراء الرزق وفراراً من ضيق الحياة في عُمان. فتشتّت بعضهم بدول الخليج العربي بينما فضّل الآخرون الإستقرار في دار العرب حينذاك “زنجبار”. ولم يعتقد أغلبيتهم ومنهم من كانوا صبيةً أو شباباً يافعين أن قرار اللحظة تلك بركوب البحر على “الخشبة” المتجهة الى السواحل سوف يقلب موازين حياتهم رأساً على عقب، وتزامن وقوع الإنقلاب في شهر يناير من عام 1964 بضياع الحكم من بين أيدي سلاطين عُمان لـ زنجبار ، وبلمحة البصر تحولت زنجبار من الملاذ المفضل للعُمانيين الى المنفى. كما لم يخطر ببال أحدهم بأنهم سوف يحرمون يوماً من حق العودة إلى تراب وطنهم الأم “متى ما شاءوا ذلك” وهم قد رحلوا دون استخراج أوراقهم الثبوتية والوثائق الرسمية التي تؤكد أصولهم العُمانية لأنها لم تكن ضرورية ومطلوبة عند السفر الى زنجبار حينذاك. ولم يتبقى لهم ما يثبت عُمانيتهم سوى احتفاظهم بعاداتهم العُمانية المتوارثة وبدشاديشهم الأصلية ولحاهم البيضاء وأقاربهم في عُمان فمنهم من اعترف بهم وتقبل عودتهم ومنهم من تبرأ منهم ونفر حتى من ذكراهم. فأصبحوا عالقين بين القارتين الآسيوية والسوداء وهم يترجون وينتظرون ويتأملون حتى تهاوت أجساد شيّابهم واحدا تلو الآخر وتوارى رفاتهم بجوف تربة الغربة، هناك، مثلما تهاوت قصور سلاطينهم وما تبقى من فتات آثارهم التاريخية رغم صمود بعضها معلناً التحدي، التحدي للنكران والإهمال والتهميش لخمسة عقود مضت. وهذا التعتيم الممنهج الذي مورس ضد تاريخ عُمان وحضارتها الممتدة من شرق أفريقيا الى أقاصي الهند خلال أكثر من أربعين سنة الماضية هو بحد ذاته جريمة في حق الوطن ولأجيالنا المقبلة فقد غاب تاريخنا عن المناهج التعليمية بشتى أنواعها وأستبعدت عن برامجنا الثقافية ووسائل الإعلام المختلفة مما أدى الى ضياع الحقوق وجهل النشأ وتبني الآخرين لتاريخنا.

ولو تطرقنا لموضوع البرنامج التلفزيوني “من السواحل” من إعداد وتقديم  الإعلامي محمد المرجبي وإنتاج تلفزيون سلطنة عُمان؛ في الحقيقة قبل الكتابة في هذا الموضوع وددت إعادة تنشيط ذاكرتي من خلال مشاهدة الحلقات السابقة من برنامج “أثر التواجد العُماني في زنجبار” للمرجبي الذي خُصص لشهر رمضان عام 2002. و لقد بحثت عن تلك الحلقات في المواقع الإلكترونية وخصوصا باليوتيوب لكي تكون المقارنة أكثر عمقاً فيما تم عرضه قبل عشر سنوات مضت والآن لكن باءت كل المساعي بالفشل ولم أحصل سوى على حلقتين فقط، الأولى عن شجرة القرنفل والثانية عن المساجد وقد تم رفعهما من قبل حساب شخصي!

 

إتّبع برنامج “أثر التواجد العُماني في شرق أفريقيا” عند عرضه على أسلوب الأفلام الوثائقية وابراز الآثار العمرانية العُمانية بالإضافة الى بعض اللمسات الخفيفة من مقابلات شخصية ومدة الحلقة لم تتجاوزالثلاثين دقيقة. و لقد نجح هذا البرنامج نجاحاً منقطع النظير وذلك بسبب تعطش المجتمع العُماني حينذاك لمثل هكذا برامج تاريخية. وبما أنها كانت باكورة البرامج التاريخية التي أنتجها التلفزيون العُماني عن زنجبار فقد خرج بأسلوب توعوي وتلقيني للمشاهد العُماني عن كل ما يتعلق بتاريخ زنجبار والسواحل وشرق أفريقيا وكان ذلك مستحباً ومقبولاً لأننا نعيش في مرحلة إنتقالية طبيعية وذلك بعد عودة العديد من العُمانيين من شتى بقاع الأرض الى الوطن الأم  بدءا من عام 1970 وبالتالي كنا بحاجة لبعض الوقت للتمازج وتقليص الهوة فيما بيننا و جهلنا عن تاريخنا المحلي والعادات والطقوس المتبعة فيما بيننا؛ وعليه فقد انتقى المرجبي ضيوفه ممن هم من أصول عُمانية لتسليط الضوء عليهم ولتأكيد هوية العائدين منهم من حيث الأصل والإنتماء بسبب جهل أغلبية الطوائف الأخرى عن هذا الجانب، فقد واجه الزنجباريون العرب الغربة مرتين المرة الأولى في زنجبار عندما كانوا يُلقّبونهم بالعرب ويطالبونهم بالعودة الى ديارهم حتى وقع الإنقلاب في يناير من عام 1964 والثانية في الوطن الأم عُمان عندما يُلقبونهم بالأفارقة، وبالتالي فقد ساهم برنامج المرجبي بالتخفيف من وطئ الإحتقان لدى العائدين من شرق أفريقيا ونشر الوعي بين النشأ وأيضا بتسليط الضوء على العمانيين العالقين منهم وأهمية منحهم حق العودة وتلقي الرعاية الممكنة والوقوف معهم وإبراز ظروفهم المعيشية والنفسية الصعبة التي يتكبدونها مع تمسكهم بأصولهم العربية والإسلامية .

 

لكننا اليوم قد تجاوزنا تلك المرحلة، فمع طفرة التقنيات الحديثة التي تسهل علينا التواصل والوصول للمعلومة والتقصي والبحث لمعرفة الحقيقة لم نعد بحاجة الى تكرار ماتم عرضه قبل عشر سنوات والدخول في صراع نفسي غير معلن لمحاولة إثبات الهوية والأصل والإنتماء من خلال حلقات برنامج “من السواحل” الذي ركز على الإنسان بأسلوب حوار بسيط وسطحي مع ضيوف كل حلقة وانتقاء “الشيّاب” من الجيل الأول أو الثاني ممن هاجروا من عُمان إلى شرق أفريقيا وتجاهل الأجيال التي تليها والذين “تأفرقوا” بسبب إهمالنا لهم وبالإمكان تلقيبهم بـ (الأفرو-عرب) أو(الأفرو-عُمانيين). كما نلاحظ إقصاء المرأة وغيابها عن المشهد كلياً وبشكل ملحوظ وكأنها لم يكن لها أي دور يذكر في بناء الحضارة العُمانية في شرق أفريقيا! المرأة في زنجبار كانت تشارك في الحياة السياسية والإجتماعية وكان لها دور ريادي وفاعل في العديد من المجالات خصوصاً في المجال التعليمي فقد أسس السلطان علي بن حمود البوسعيدي أول مدرسة حكومية في زنجبار في عام 1905م وذلك بعد عودته من دراسته في أوروبا وتسلمه مقاليد الحكم بعد وفاة والده في عام 1902م، ولقد منحت المرأة حق الإنتخاب والمشاركة في البرلمانات والأحزاب السياسية منذ الخمسينيات. المرأة في زنجبار نالت أعلى الشهادات وحققت مكاسب علمية وثقافية محلية وعربية ودولية والأمثلة على ذلك كثيرة منها الأستاذة الشريفة اللمكية التي حصلت على شهادتها الجامعية من جامعة القاهرة في عام 1955 وأيضا هناك الأستاذة الراحلة سميرة بنت سالم المعمري وهي والدة معالي د. راوية البوسعيدي وفور عودتها الى السلطنة تم تعيينها بمنصب مفتشة عامة للتعليم في السلطنة وذلك في عام 1971 ولقد نشرت جريدة الوطن خبر تعيينها بعد أن عملت في حقل التعليم في كل من زنجبار وليبيا وأنهت دراستها العليا بالقاهرة. كما اعتلت المرأة في زنجبار أعلى  المناصب العلمية والثقافية لذا فأجد أمر إقصاءها من المشهد الزنجباري غير مبرر وغير مقبول. فهل هؤلاء المزارعون البسطاء ورعاة المواشي وأصحاب المهن الصغيرة كالدكاكين والمخابز هم فقط من بنوا حضارة زنجبار وإمبراطوريتها؟ أين دور الجمعيات العربية والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، لماذا لم يعرض البرنامج الجانب الديمقراطي الذي كان يطبقه سلاطين زنجبار والساسة والدروس المستفادة، أين المثقفين والعلماء والبروفيسورات من السلالة العُمانية في شرق أفريقيا الذين برزوا و اعتلوا أرقى المناصب الدولية أمثال البروفيسور علي المزروعي الذي كان له برنامج وثائقي تلفزيوني رائع في فترة التسعينات بثت في قناة ال بي بي سي [١] بعنوان:  (The Africans: A triple Heritage) والذي يظهر معاناة الشعوب في دول شرق أفريقيا. والبروفيسور علي المزروعي كان أستاذاً جامعياً مقيماً في الولايات المتحدة الأمريكية ولم يتلقى دعوة رسمية لزيارة عُمان إلا في عام 2012 وقد هرم وأصبح شيخاً كبير السن ولقد حضر وهو مقعد على كرسي متحرك وعاجز عن الكلام والعطاء. أين الطرب العربي الأصيل الذي ساهم العمانيون بنقله الى زنجبار امتدادا لعلاقته الوطيدة مع مصر حينذاك فالمستمع العُماني لم يتعرف على المغنية العالمية فاطمة بنت بركة المعروفة بإسم (بي كيدودي) التي توفت مؤخراً إلا عن طريق قناة الجزيرة الوثائقية فهي من عرّفها للجمهور العُماني. لذا نأمل بأن نرى تعاوناً فنياً مشتركاً للطرب السواحيلي كالعزف مع فرقة الأوركسترا السلطانية بدار الأوبرا السلطانية مثلاً أو مع جمعية العود خصوصاً وأن فرقة أخوان صفا لاتزال قائمة في زنجبار حتى يومنا هذا. ونأمل بأن يتم دعوة مثل هذه الفرق لإقامة حفلات مشتركة في مهرجاناتنا الثقافية المتبادلة. كما آمل  بأن يكون تطوير أغنية المقدمة لبرنامج “من السواحل” للأستاذ  فتحي محسن هي البداية و الإنطلاقة لتوفير الدعم اللازم لإبقاء الطرب العربي الأصيل ذو الشعبية الواسعة في زنجبار.

كنا نترقب من برنامج “من السواحل” وهو النسخة الثانية لبرنامج مختص بشؤون زنجبار بأن نلمس نقلة نوعية للمرحلة القادمة من خلال عرض التجارب والخبرات والمعلومات القيمة وعرض الدروس المستفادة وأن نتجاوز بل ونتجنب مسألة اثبات عُمانيتنا وأصولنا فالتاريخ شاهد على ذلك ومن يجهله فهذه مشكلته وان نتفكر بكيفية مساعدة أهالينا العالقين في زنجبار بشيء من الشفافية وعرض لحلول عملية، فمن المؤكد بأن العديد منهم لن يرغبوا بالعودة في حال تحسنت ظروفهم المعيشية هناك وهذا لا يعني حرمانهم من حق العودة الى تراب وطنهم الأصيل متى ماشاؤا ذلك لزيارة ذويهم أو لإستعادة جواز السفر، فمن المؤلم أن يدخلوا وطنهم بتأشيرات سياحية، لذا ربما يتطلب منحهم إقامة دائمة لهم كحل من الحلول لكي يتمكنوا من الدخول والخروج من وطنهم دون منغصات فهذا حق من حقوقهم. و ربما علينا التفكر بالآلية لجلب المشاريع الإستثمارية وخلق الوظائف لهم لكي تجد هذه الأسر الإستقرار المادي وتعتمد على نفسها. ولكي نكون منصفين فهناك عوائل عربية كثيرة مستقرة في زنجبار وتعيش في نعيم وبحبوحة ولا ترغب بالعودة بل ستكتفي بالزيارة من آن لآخر لكنها متمسكة بهويتها العُمانية. كما أن هناك العديد من الأفارقة الذين وقفوا في صف العرب بعضهم دفعوا حياتهم وبعضهم حافظوا على الأموال للفارين منهم الى أن إستعادوها بعد سنوات لاحقة فمن واجبنا شكرهم ومن واجبنا إبرازهم.

كنا نأمل أن نرى حلولاً عملية لأهالينا في زنجبار خصوصاً بعدما تحسنت العلاقات الدبلوماسية بين حكومتي عُمان وتنزانيا وزيارة الرئيس التنزاني إلى عُمان -ودعوته أعضاء مجلس الشورى لزيارة تنزانيا والذي أحسن إكرامهم- وأيضا مع تكرار زيارات معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية لـ تنزانيا كما نأمل الكف عن ترديد لغة الإستنجاد والتمني والتفضل والتباهي بحجم المساعدات التي ترسل لهم وكأنهم لاجئون. وأن لا يقتصر إرسال المعونات والدعم تحت المظلة الدينية وبالتحديد المذهب الإباضي من خلال جمعية الإستقامة وإذاعتها وحسب؛ ولا أحاول هنا التقليل من دورهم الكبير في الحفاظ على الدين الإسلامي والهوية العربية في زنجبار وشرق أفريقيا لكن يتطلب تغيير النظرة الى أهالينا العالقين في زنجبار وجوادر وأن نؤمن إيماناً قاطعاً بأن ما نقدمه لهم هي “حقوق” وليست مساعدات ومعونات وصدقات. وأن نسعى لتوسيع مجالات التعاون فيما بيننا والكف عن عرض الدلائل والبراهين لإثبات عُمانيتهم فالحكومة تدرك ذلك والتاريخ لا يمكن محوه وتشويهه للأبد، والا فاتركوهم وشأنهم لكي يموتوا في صمت مثلما رحل الذين سبقوهم  فما جدوى زيارتهم وتصويرهم وزرع الأمل في نفوسهم إلا كسر قلوبنا عند مشاهدتهم وهم يستنجدون بنا بينما كل ما فعلناه ونفعله أننا أنتجنا لأنفسنا برنامجاً ترويحياً جميلاً وممتعاً نستمتع بمشاهدته في ساعة الذروة أثناء تناولنا لوجبة الإفطار ونحن نلتهم اللقيمات و نبلع مرارة الحسرة.

 

الهوامش:

١- http://dickinsg.intrasun.tcnj.edu/films/mazrui/

العدد الاربعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

حبيبة الهنائي

كاتبة عمانية