الموقف المأمول من هموم الوطن و المواطن
و تأسيساً على تلك المبادئ و انطلاقا من تلك القيم ، نقول بدايةً ، بأن الكمال لله و حده ، و هذا يعني ببساطة شديدة بأنه لا عصمة لمخلوق من الخطأ أو السهو أو التقصير ، فحتى الأنبياء ، و هم رسل الله ، لم يكونوا معصومين من الخطأ ، وسورة ” عبس و تولّى أن جاءه الأعمى ، و ما يدريك لعله يزّكى ” الموجّهة لنبينا العظيم ، ماثلة في الأذهان .
و طالما أن الأمر كذلك ، و أخذاً بقول الرسول الكريم ” من رأى منكم منكراً ، فليغيره بيده ، و من لم يستطع فبلسانه ، و من لم يستطع فبقلبه ، و ذلك أضعف الإيمان ” ؛ فلا بد لنا حينئذ ، و لابد لكل مخلص غيور، من اتخاذ “موقف ما” ، إزاء أي منكر أو خطأ أو تقصير ، يراه يُقترَف في حق هذا الوطن أو مواطنيه ، فالصمت هنا أو اللامبالاة ، يعد ممالأة و تواطؤاً ،
و الشاهد على فعل الشر أو المنكر ، يعد شريكاً في الجرم ، إن لم يكن كفاعله تماماً ، إن وقف منه موقف الصامت المتفرج .
و الموقف المطلوب في هذه الحالة هو في الأصل ، المنع باليد، أي بفعل رادع يدرأ الشر أو الخطر من الحدوث ؛ و لكن لأن الشر أو المنكر الذي يقع أو يحيق بالأوطان ، هو في العادة ليس من النوع الذي بوسع يد الفرد العادي درأه أو تغييره ؛ فلم يبق له ، من الواجب الوطني و الأخلاقي فعله لحظتها ، سوى اللسان ؛ أن يرفع عقيرته للتنبيه ، و لفت الانتباه لفعل و مصدر الشر أو المنكر الحادث. علّ استغاثته تجد آذاناً صاغية لدى المعنيين، فيقومون بالواجب ، أو يكونون عوناً له على فعل الخير الذي يستطيعه و يمليه عليه خلقه وضميره . أما الاستنكار همساً بالقلوب ( الذي هو أضعف الإيمان ) في أية مسألة من المسائل المتصلة بانتهاك حرمات و كرامة الأوطان ، فذاك هو فقط ، دأب الخائر الجبان ؛ لأنه ليس من شيء أسوأ و أقسى من الموت على الإنسان ، كعقاب يناله جراء كلمة حق حرة يقولها ، و لكنه تبقى في عمق الذاكرة ” خير الشهادة _ كما جاء في الحديث النبوي الشريف _ كلمة حق تقال في وجه سلطان جائر .” .
و الجائر هنا، تعني كل من يصم أذنيه عن سماع الحق ، و يعتقد في نفسه التنزيه ، و العصمة من ارتكاب الخطأ ، و أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه . كما كان يرى في نفسه فرعون .
و هذا أمر يحتم على كل مواطن في أي بلد كان ، و ليس في عمان فحسب، أن يكون مدركا تمام الإدراك ، بما عليه من واجبات نحو وطنه ، فيسعى جاهدا لأدائها و تلبيتها ، حتى لو تطلب الأمر منه أي شكل من أشكال التضحية أو الفداء . كما أن عليه ، بالتوازي ، أن يعرف حقوقه في هذا الوطن ، فيسعى لنيلها و التمتع بها في كرامة و شرف. و بهذا الوعي النوعي الرصين سيكون كل مواطن ، تلقائيا ، هو السائل و المسؤول. هو المحاسَب و المحاسِب ، هو المنتقَد و الناقد ، هو العين المبصرة و الساهرة على مواطنته حقوقاً و واجبات .
فمن تهاون يوما ، أي كان ، في أداء واجباته ، أو قصر فيها أو خان الأمانة الملقاة على عاتقه ، حق عليه الردع و القصاص ، وفقا لقانون العدالة الحافظ للأمن و النظام ؛ و من بذل و أدى عمله بكل أمانة و إخلاص ، حق له الثناء و الشكر و التقدير ، من الدولة و أفراد المجتمع . فينبغي وجوبا ، أن يكون العقاب أو الثواب من جنس الفعل و العمل .
و إذا وضعنا خصوصية الزمن الذي نعيش فيه ، المتمثل في وجود كاميرات الصوت و الصورة ، في أيدي كل أبناء هذا الجيل المعاصر ، الصغير منهم قبل الكبير . فهذا يعني أول ما يعنيه ، أننا نعيش عصر التوثيق بالصوت و الصورة لكل حدث ، و لكل فعل أو قول ، يقع من أي إنسان كان بأي مكان ، مهما تخيل أنه سري بعيد عن الأعين و الآذان ؛ مما يجعل كل أفراد المجتمع ، و على كل فئاتهم و مستوياتهم الطبقية أو الاجتماعية أو الوظيفية ، رغم الفوتوشوب ، يعيش ضمن واقع يحصي عليه ، من حيث يدري و لا يدري ، أنفاسه ، حركاته و سكناته ، فيجرده في نهاية الأمر من حصانة الرفض أو الجحود ، لحقيقة قيامه بأي فعل فيه مظلمة أو مثلبة أو تقصير . إنه عصر العيش تحت المجهر ، عصر المكاشفة و الشفافية الموضوعية التي تحتم على المرء أن يحسب ألف حساب و حساب قبل أن يقدم على أي تصرف أو فعل منحرف ، فليس للجدران ، بل و لكل ما حوله في الجهات الست ، عيون و آذان !!
و إننا لنعلم حق العلم ، ” أن الحق مغضبة ” كما قالت عنه العرب ، من قديم الزمن . فصعب على جُلّ البشر ، إن لم يكن كلهم ، الكشف عن سوءاتهم أو مساوئهم ؛ فلا يتقبلون طواعيةً في الغالب ، نقداً و لا إشارةً أو توجيهاً من أحد ، لاسيما إن كان ذلك الفرد من ذوي الجاه أو المال و المنصب ؛ و لكن الخطأ أو الجرم الصراح ، يبقى خطأً و جرما ، و الحق يبقى حقاً ، شاء من شاء و أبى من أبى ، كالشمس التي لا يطفئ شعاعها غمض العيون عنها .
و هذه حقيقة تقودنا إلى مداخلة هامة في سياق موضوعنا ؛ إنها مسألة النقد، من أين يبدأ ، و أين ينتهي ، و كيف يُطرح ، و ما الذي يجب أن يُتخَذ إزاءه . ؟
أما من أين يبدأ النقد ؛ فإنه من حيث يبدأ الخطأ أو التقصير ، أو أي نوع من الفساد ، من أي فرد كان ، و في أي موقع من مواقع الحياة أو العمل .
و أما أين ينتهي ، ففي بساطة شديدة ، ينتهي عند الإصلاح و التقويم الفعلي للأمر أو الفعل ، الذي هو موضع النقد ؛ و لا ينبغي أن يتوقف النقد أو الإشارة إلى موضع الخطأ أو الفساد ، طالما كان ذلك الفساد قائما بلا تغيير، و لا ينبغي لأية جهة التأفف ، أو إبداء التبرم و الاستياء، من استمرار النقد في مثل هذه الأحوال ، و إلاّ كان النقد مجرد هرطقة و ثرثرة في الهواء ، بلا غاية أو معنى . إذ أن هدف النقد ، في الأساس ، هو التغيير لمنكر حادث ، أو علاج فساد واقع ، أو الإصلاح لخطأ قائم ، فما لم يتم فعلياً ذلك التغيير و الإصلاح , لتلك الأخطاء أو المثالب، و معالجة الفساد المشار إليه معالجة حقيقية صادقة ، بقيت مشروعية النقد قائمة إلى أن تتحقق أهدافه و تزول دواعيه و مسبباته .
و أما كيف يكون النقد و ما هو أسلوبه الأمثل ؛ فإن القاعدة التي يجب أن يبنى عليها أي حوار هادف بناء ، هي روح و جوهر الآيتين القرآنيتين الكريمتين “( ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ ) “
[ النحل : 125 ]
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. ….(سورة فصلت الآيتان (34 – 35)..
تلك هي أصول و منهجية النقد و الحوار الرصين، الذي علمنا إياه ديننا الحنيف ، دين الإسلام العظيم . فلا قدح ، و لا مهاترات أو ذم و قذف ، و لا تجريح أو تشويه للشخوص المرتكِبة للأخطاء أو حتى المفاسد … النقد للأفعال و الأعمال ، أو الأقوال المشينة ؛ لا لشخص الفاعل ، مهما كان جاهلا أو فاضلاً . ومتى ما دخل النقد في الشخصنة ، و انصرف إلى التوافه و المماحكة ، فقد رسالته النبيلة ، و انحرف عن جادة الصواب، و تحول إلى معول هدم ، لا أداة إصلاح و بناء و تصحيح .
و في الجانب الآخر ؛ كل من يوجه إليه نقداً أو ملاحظة أو توجيهاً ، عليه تقبل ذلك بصدر رحب، و بلا تجبر أو تكبر و مكابرة ، و أن يكون له في سيرة السلف الصالح ، قدوة حسنة . فهذا هو الخليفة الأول أبو بكر الصديق ، يقول عند مبايعة الصحابة له بالخلافة : ” إنى وليت عليكم ، ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينونى ، وإن أسأت فقوموني “… و ذهب الفاروق أبعد من ذلك ، حين خطب قائلا : ” أيها الناس ؛ إني وليت عليكم، ولست بأفضل منكم ، فان رأيتم فيَّ اعوجاجاً ، فقوموني بسيوفكم ” ؛ بل و شجع الناس و الرعية على نقده و قول الحق ، حين خاطبه واحد من رعيته بقول خشن ، استفز بعض من حوله من الصحابة ، فلما هموا بردع ذلك الرجل المتذمر ؛ قال لهم عمر رضي الله عنه ، قولته الشهيرة : “دعوه ! لا خير فيكم ، إن لم تقولوها، و لا خير فينا ، إن لم نسمعها ” ؛ بل و عليه الإقتداء أيضا ، بروح الشعور بالمسؤولية التي يتحلى بها رجال الغرب ، الذين لا يأنف الوزير منهم ، تقديم استقالته الطوعية من منصبه ، بمجرد وقوع الخطأ منه ، أو من عناصر في وزارته أو إدارته . لا أن يستميت في تشبثه بالكرسي ، حتى يحمل على الأربع ، مهما كانت أخطاؤه أو فشله .
أما ما الذي ينبغي أن يؤل إليه النقد ، أو ما الذي يجب أن يُفعل إزاءه من قبل صناع القرار، و أهل الحل و العقد ؛ فهو أن يعرضوا كل نقد أو ملاحظة أو رأي ، على غربال الضمير والعقل و المنطق المحايد ، فما وجدوه فارغا ، لا محتوى فيه و لا دسم ، طرحوه جانبا، و غضوا الطرف عنه ؛ و أما ما وجدوا فيه الصلاح و الصدق و المنطق ، و خالص النية ، و المنفعة الوطنية ، و جب عليهم التصرف نحوه ، وفق المنهج القائل ” شكراً لمن أهداني عيوبي ” ، فيعمدون إلى تبنيه ، و الأخذ به ، تطبيقاً و تنفيذا عملياً ، دون أي مماطلة ، أو تلكؤ أو تسويف. لأن المماطلة في فعل الخير ، و التأخر في علاج الفساد ، هو الفساد عينه ؛ و طول الوقت يُنسي ، و يؤدي إلى الإهمال ، و بقاء الأحوال كما هي ، دون تغيير أو تحسين ، فيذهب كل جهد نقدي ، أو رأي بناء ، أدراج الرياح ، و يخسر الوطن أروع ما أنتجته عقول أبنائه ، من الأفكار المبدعة الخلاقة ، التي كان بالإمكان _ لو أُخِذ بها _ أن ترتقي به إلى مصاف الدول الطليعية، في تقدمها و الازدهار . و هذا يأتي في مقدمة ما يعرف بهدر الطاقات البشرية للشعوب ؛ فكم من رأي أو فكرة ، صدرت من إنسان بسيط ، حلت مشكلة ، استعصت على الأفذاذ، أو رسمت دربا ، لانطلاق الأجيال و بناء الأوطان . و الأمثلة في ذلك كثيرة ، لا تعد و لا تحصى ، غني بها التاريخ البشري . و غبية هي تلك الحكومات أو الأنظمة التي لا ترصد نبض شارعها ، ولا تستمع لما يدور من همس في أذهان وعقول أبنائها المخلصين ، من الآراء و الأماني الوطنية ، و تعمل على تحقيقها ، قبل أن تتحول نتيجة الرفض و الإحباط ، إلى صوت هادر موحد يقول: ” الشعب يريد تغيير أو إسقاط النظام ” . ففي تبنيها للأفكار النقدية أو الإصلاحية ، صمام أمانها ، و ضمان استمراريتها في الحكم ، إلى أطول أمد ممكن ؛ و العكس بالعكس صحيح ؛ عملها بنظرية ” أنا و من بعدي الطوفان ” المتمثل في تغييب كل عقل ، و إهمال كل رأي و فكر، يزيد من عوامل الاحتقان لدى المجتمع ، و يعجل من نهايتها ، بتجاهلها لعوامل الضغط و الانفجار ، عندما تنقطع الشعرة التي تربطها بشعبها ، الذي سيغدو بعد حين ، حقاً كالطوفان ، الذي لا تقوى سفينتها على الوقوف أمامه. فالشعوب دائما، تصبر و تمهل ظالميها ، و مغتصبي حقوقها ، و لكنها ، في نهاية المطاف، لحظة إحساسها الغامر بالانسحاق والاختناق ، تنفجر كالبركان ، و لا تهمل الرد على طغاتها المتجبرين ، مهما عظمت التضحيات . لأنه ، لحظتها ، لا يكون لديها شيء أعظم من التخلص من ظَلَمَتِها ، و الخلاص من هوانها و استرداد حريتها و الكرامة . دون أن تحسب ، حتى لمن ، أو لما ، تأول عليه الأوضاع ، من بعد ثورتها ، و إطاحتها بالكابوس الجاثم على صدرها ؛ كما حدث ذلك عند شعوب بلدان الربيع العربي !!!
على أنه في المقابل ، رب قائل يقول: هذه يوتوبيا أو مثاليات و فنتازيا ، إذ لا يمكن الأخذ بكل الأفكار و الآراء، حتى لو كانت سليمة ، صالحة و نافعة ؛ لأن التنفيذ و التطبيق يحتاج إلى وقت ليس بالقصير ، و إلى موازنات مالية غير متوافرة في غالب الأحيان . و هنا تبرز أهمية الشفافية السياسية والاقتصادية الحكومية ، في تبرير المعوقات التي تعترض تبني المطالب الشعبية المنطقية ، أو تنفيذ الآراء القيمة و المقترحات الشبابية النيرة . و يصبح عندها ، ليس من حق النخب المثقفة فحسب ، بل و من حق كل أفراد الشعب ، أن يعرفوا أين ، و كيف يصرف الدخل الوطني للبلاد ، و كيف تدار الموارد العامة للدولة .
و الحق أنه مهما حاجج أو ناكف أصحاب ذلك الرأي المحاذر المثبِط ، فلن يستطيعوا نكران الشواهد العديدة في البلدان _ كاليابان و تايوان و سنغافورة _ التي نهضت و ازدهرت في شتى مجالات الحياة ، و صارت ، في فترات قياسية قصيرة ، يشار إليها بالبنان ، رغم فقرها المدقع من الموارد الأولية و الثروات المعدنية ، عدا ثروة الإنسان ، و عقله الثري الفذ ، الذي آثرت تلك الدول الحفر و التنقيب في كنوزه ، أكثر من حفرها و تنقيبها في كنوز باطن الأرض أو جبالها و الوديان . فاستثمار العقل , و أفكاره الخلاقة العظيمة ، هو الذي يأتي بالأموال و الموارد الأولية ، و يخلق التطور و الحضارة ؛ و ليست الموارد المادية ، هي ما يصنع التقدم و الرقي و الازدهار؛ و إلاّ كانت أمة العرب اليوم ، من أعظم الأمم رقياً و تقدماً و حضارة ، لأنها أغنى أمم الأرض في مواردها و ثرواتها الطبيعية .
إذن فالخير موجود ، و الثروة موجودة ، و الإشكالية ، ليست في وجودهما من عدمه ، و إنما الإشكالية الحقيقية ، تكمن في تصريف تلك الثروة، و كيفية استغلال و استثمار المال العام . فإن كان صرفه للبلاد و عموم العباد، و في تخطيط سديد و وعي و رشاد ، بلغت الأوطان شأو ومصاف الدول المتقدمة الراقية ، و عم شعبها الرخاء و الرضا و الأمان ، و إن استأثرت به و استحوذت عليه الطغم الفاسدة في الحكومات ، و آثرت به جيوبها و بطونها ، و تنمية أرصدتها الشخصية في خزائنها و البنوك ، ساد الفقر و التخلف و الهلاك ، و كثر بين أفراد الشعب السخط و التذمر و الاستياء و عدم الاستقرار في البلاد ، كما هو حادث في غالبية ، إن لم نقل كل بلداننا العربية.