أحسَّ الفلاحُ بلادهُ مزارع، والصيادُ شَعرَ أنها بحار، والراعي حدَسَ أنها مراعي، أما التاجر فظنّ أنها أسواق.
كان ذلك في نفس اليوم الذي أدرك الابن والابنة في بلادهِما أماً وأباً، وفهم الوالدان في بلادهما بيتاً وعائلة،
أما المهاجرُ فقد وعى أن بلادهُ طاردتهُ ومطاردته.
أيضاً يومها كان المسكين يرى في البلاد ذِله، والفقير عوَزه، أما الغنيّ فرأى في البلاد ثروته.
في اليومِ نفسه قاسَ الشاب البلاد بأحلامه،
والرجل قاسها بمخاوفه،
أما الشيخ والعجوز فقاسا البلاد بذكرياتهما.
في ذلك اليوم أيضاً، حدث أن رأى الوزير الأكبر في البلاد وزارته، والمستشار رآها مشورته،
ورآها العالم الجليل علمه، ورجل الدين الكبير دينه،
وحدث أنهم كلموا بذلك الملك، الذي حدث أن رأى في البلاد مملكته..
ولأنهم فوق الآخرين، أجبروا غيرهم، في نفس اليوم، على أن يروا رأيهم،
وذلك ما حدث..
هكذا في اليوم البلدي الطويل ذاك صار للبلاد دولة، وجيش، وعلم ملوّن، ونشيد وطني يعرفه ويحفظه الجميع. وصار اسم البلاد الوطن. وذلك الوطن صارَ بسرعة مفهوماً شكليّا من سورٍ متين سُميَ الوطنية، يجازى من يقفز فوقه أو يثقبه بالإعدام!
رغم أن أحداً لا يعرف، بالضبط وتماماً، ما هو؟!
مع ذلك الحدث العظيم كله، وفي نفس ذلك اليوم البلدي الرتيب، كان الصَدّ الصغير يسبح في جماعات، عكس تيار الماء في ساقية الفلج، ظاناً لربما أنه البحر، أو غير مكترث بالمرة لظنونه، ظل يسبح ويبحث عن رزقه هناك، كما لو أنه رمزٌ حيٌ أو مثالٌ ما، لمفهومٍ آخر، غير مفهومٍ بعد، مستقبليٍّ ربما (من يعلم؟!)، عن الأرض..
إبراهيم سعيد