إشكاليات التخطيط الحضري في عمان (١)

كتب بواسطة خليفة سليمان

1.التاريخ والتحديات

 

تجمع المصادر العلمية على أن التخطيط هو الأسلوب العلمي الذي يهدف إلى تقديم الحلول أو بدائل الحلول للمشكلات الحالية أو المتوقعة للمجتمع وذلك في إطار خطة منظمة ذات سياسة وأهداف واضحه، خلال فترة زمنيه محدده، تأخذ في الاعتبار الإمكانيات والموارد ، كذلك المحددات الحالية أو المستقبلية سواء كانت بشريه أو طبيعية. والتخطيط بشكل عام يجب أن يكون شاملا ومرنا ومستمرا حيث يمكن تعديل مساره حسبما يستجد من ظروف .

وتجمع المصادر ذات الصلة بمجال التخطيط أيضا أنه لابد من وجود خطة استراتيجية شاملة للمجتمع مما يمكن الدولة من تقديم الخدمات الرئيسية للإنسان والذي هو هدف التنمية . ويؤكد أحد الباحثين على ضرورة التخطيط الاستراتيجي الذي  يهدف بشكل عام الى التنسيق بين الموارد المتاحة والفرص المتاحة في البلد على المدى الطويل لتحقيق أهداف استراتيجية طويلة الأجل تقوم على رؤية استراتيجية يُراد تحقيقها في الأجل الطويل، لذلك فالتخطيط يخلق تصور لما يجب عمله خلال فترة زمنية معينة لتحقيق أهداف محددة بالاعتماد على الموارد والإمكانات والفرص المتاحة ويرسم الطريق إلى تحقيق الأهداف المحددة مسبقاً، ويمكن القول بأنه بدون التخطيط الاستراتيجي الصحيح فإن الدولة تسير باتجاه غير صحيح، فتتفاقم المشكلات والاختلالات وتهدر الثروات والطاقات ، بدون تحيق أي نتائج.

والتخطيط الحضري أو العمراني هو أحد أنواع التخطيط الذي يهدف إلى تقييم الحياه العمرانية والريفية، وإيجاد حلول هندسية للمشاكل العمرانية مثل التضخم السكاني، أزمات المرور، تنظيم الحركة بين السكان والخدمات. ومن ثم فأن الدول تسعى إلى إيجاد آليات صحيحة لإقامة مخطط حضري يتلاءم مع طبيعتها الجغرافية ويحقق المتطلبات الضرورية للسكان.

وفي عمان يأخذ التخطيط العمراني أو الحضري بعدا آخر من حيث عدم اكتمال الرؤية المحددة له وعدم فهم استراتيجيات التخطيط القائم عليها. ففي حين نجد أن هناك مناطق مخططة وبطرز هندسية مميزة وخصوصا في العاصمة مسقط ، نجد مناطق أخرى ترسم فيها العشوائيات الحديثة صورة باهتة عن مستقبل هذه المناطق وخصوصا فيما يتعلق بالمرور وعدم توفر الخدمات الرئيسية كشبكات الصرف الصحي .

والتخطيط الحضري في المدينة العمانية ليس ببعيد عن التخطيط الحضري في أغلب مدن الخليج ، فعلى الرغم من حداثة إنشاء المدينة الخليجية إلا أن الأغلب منها لم يأخذ باستراتيجيات التخطيط الحديث، ومن ثم ظهرت المدن في الخليج كالفقاعات التي انفجرت فجأة دون أن تحدد مسارا معينا لفتات الانفجار ، مما جعل إعادة هذه المدن إلى الوضع المخطط الصحيح مكلفا جدا .

مسقط نموذجا

عند النظر إلى الملامح الحضرية لمدينة مسقط نجد أنها متباينة جدا . فأحياء القرم ومدينة السلطان قابوس مثلا أنشأت بمخططات عصرية تراعي جميع المتطلبات الرئيسية للمحلة العمرانية ، بينما نجد أن حي الخوير بولاية بوشر مثلا وبعض الأحياء في ولاية مطرح كالحمرية على سبيل المثال تمددت بطريقة لا تراعي البعد المستقبلي للمدينة الحديثة . ونتيجة لهذا التباين نجد مناطق في مسقط تغرق في البرك المائية بعد الأمطار بسبب غياب شبكات التصريف المائي في حين ان أحياء أخرى لا تعاني من نفس المشكلة . وبينما تعاني مناطق من اختناقات مرورية شديدة وشبه يومية ، نجد في المقابل مناطق لا تعاني أي مشكلة مع المرور. أيضا نجد بنايات شيدت في بدايات النهضة العمانية في روي، قد أنشأت بطابق سفلي يوفر مواقف للسيارات ومركبات السكان ، في حين نجد مباني حديثة في ولاية السيب لا تراعي أدني متطلب لخصوصية السكان الذي يعتمد اغلبهم على السيارات في التنقل ، فنجد منطقة الخوض مثلا التي تضخمت في العشر سنوات الأخيرة الماضية تعاني من مشكلة الازدحام المروي الشديد خصوصا في أوقات الذروة، بل أن أغلب السكان يضعون مركباتهم في المواقف الخاصة بالمحلات التجارية في غياب كامل للبعد الحضاري للمدينة الحديثة. وبشكل عام لم يراعي تخطيط محافظة مسقط البعد المستقبلي للمدينة كعاصمة ، فلا يوجد مركز رئيسي للمدينة واضح المعالم (CBD) ولا توجد خريطة استراتيجية واقعية لاستخدام الأرض. كما أن الطرق صممت بمسارات لا تراعي البعد المستقبلي، مما نتج عنه إصلاحات وإضافات مستمرة . تمدد مسقط أيضا لم يرعي النظرة المستقبلية للمدينة ، مما نتج عنه تمدد أفقي بحت للعمران خلق ندرة في الأراضي وأدى إلى استحداث أحياء (استخدامات الأرض) لا يتماشى مع الواقع، وعليه أصبحت منطقة غلا الصناعية مثلا لصيقة جدا بالمراكز الحضرية وقريبة من أهم المعالم الحضارية في العاصمة كالمستشفى السلطاني وجامع السلطان قابوس الأكبر. كما غاب عن المدينة التخطيط المستقبلي لوسائط النقل العام. هذه الاشكاليات في التخطيط خلقت الحاجة إلى الاصلاح ومازالت ، ولكن كانت عملية الاصلاح في المجمل مكلفة جدا وتشكل عبأ كبيرا على ميزانية الدولة .

إن إنشاء مدينة كمسقط والتي تعتبر من المدن الشريطية حسب تنصيف التخطيط الحضري للمدن يجب أن يراعي طبيعة المدينة المحصورة بين البحر والجبل ، ويجب أن يكون ذا بعدا استراتيجيا يضع في الحسبان التطور المستقبلي للمدينة بالشكل الذي يستوعب السكان ويوفر لهم الخدمات الرئيسية .

التاريخ الحضري للمدينة العمانية

قبل عام 1970م كانت العقارات والأراضي يتم التعامل عليها بمقتضي صكوك شرعية تصدر عن المحاكم الشرعية أو بموجب بيوع عرفية تعتمد من أصحاب السعادة الولاة، ومع بداية النهضة المباركة في عام 1970م أنشئ الجهاز الإداري للدولة وظهرت دائرة الأراضي التي كانت تتبع وزارة العدل (آنذاك) ومهمتها النظر في الطلبات التي يقدمها المواطنون لمنحهم أراض بمختلف الاستعمالات وتبت فيها لجنة برئاسة مدير بلدية مسقط.

وفي عام 1972م أتبعت دائرة التخطيط بوزارة التنمية لتقوم بتوزيع الأراضي وإصدار إباحات البناء ثم يتم إرسال خطاب إلى دائرة الأراضي لمنح المستحق قطعة أرض سكنية أو صناعية أو تجارية ، وفي نفس العام أنشأت وزارة شؤون الأراضي لتضم قسم الأراضي وقسم السجل العقاري وقسم المساحة.

وفي عام 1975م صدر المرسوم السلطاني رقم (26/1975) بإصدار قانون تنظيم الجهاز الإداري للدولة وحدد اختصاصات وزارة شؤون الأراضي والذي كان من أهم أهدافها تخطيط الأراضي بجميع مناطق السلطنة لأغراض السكن بدرجاته المختلفة وللأغراض التجارية والصناعية، وتقسيم المناطق المخططة إلى قطع محددة المساحة والرقم والمرجع والدرجة. كذلك إعداد خرائط التطوير وخرائط الموقع لكل منطقة يتم تخطيطها تحدد فيها الشوارع وأماكن المرافق العامة كالأسواق والمساجد والمدارس والمستشفيات وغيرها.

وبحلول عام 1976م صدر المرسوم السلطاني رقم 17/1976 بإجراء بعض التعديلات على الهيكل التنظيمي للوزارة ليصبح مسماها وزارة شؤون الأراضي والبلديات وآلت إليها مسؤولية الإشراف على شؤون بلدية مسقط والبلديات الإقليمية. بعد ذلك وفي عام 1982م صدر المرسوم السلطاني رقم (48/1982) بإلحاق وزارة الأشغال العامة بوزارة شئون الأراضي والبلديات لتصبح مديرية عامة باسم (مديرية الأشغال العامة ) تقوم بالإشراف على تنفيذ الإنشاءات التي تكلفها بها الوزارات والوحدات الحكومية المختلفة . ثم، وفي عام 1984 تم نقل مسؤولية الإشراف على بلدية العاصمة عن الوزارة، ليشرف ديوان البلاط السلطاني على مهامها وذلك بموجب المرسوم السلطاني رقم (18/1984) لتستقل مدينة مسقط من حيث الإشراف العمراني عن باقي المدن العمانية . أما في عام 1985 فقد صدر المرسوم السلطاني رقم (2/1985) بإنشاء وزارة شئون البلديات الإقليمية للنهوض بالخدمات البلدية في المناطق والولايات المختلفة وتؤول إليها الصلاحيات التي كانت مقررة لوزارة شئون الأراضي والبلديات في مجال البلديات الإقليمية وأصبح مسمى الوزارة وزارة شؤون الأراضي. وفي نفس العام صدر المرسوم السلطاني رقم (10/1985) بتعديل مسمى وزارة شؤون الاراضي ليصبح وزارة الاسكان التي أوكل إليها كل ما يتعلق باستخدام الأرض في عمان، وفق قوانين صدرت تباعا لتنظم عمليات استخدام الأرض واستحقاقها.

إلا أن إنشاء اللجنة العليا لتخطيط المدن كانت بمثابة الخطوة المهمة نحو مدينة حديثة  شاملة والتي كان من أهم أهدافها هو تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية في السلطنة في المجالات العمرانية والمكانية، وذلك من خلال إعداد الخطط التفصيلية على المستويين الإقليمي والحضري. وقد تم انشاؤها رسمياً بموجب المرسوم السلطاني رقم 27/85، الصادر في فبراير من عام 1985م وأعيد تشكيلها أكثر من مرة بناءً على مقتضيات الصالح العام. وقد استمرت اللجنة في عملها حتى عام 2012م،إلا أن المشاكل الحضرية التي تعاني منها العاصمة مسقط وبقية المدن العمانية تمخض عنه إلغاء اللجنة العليا لتخطيط المدن بحسب المرسوم السلطاني رقم (32/2012)  وإنشاء المجلس الأعلى للتخطيط بموجب المرسوم السلطاني رقم (30/2012) في 26 مايو 2012م والذي يهدف الى وضع الاستراتيجيات والسياسات اللازمة لتحقيق التنمية المستدامة في السلطنة وإيجاد الآليات التي من شأنها تطبيق تلك الاستراتيجيات والسياسات وصولا الى تحقيق التنوع الاقتصادي والاستقلال الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية المتاحة ، على أمل أن يسعى المجلس إلى تدارك سلبيات الماضي في التخطيط الحضري ، ويسعى إلى إيجاد خطة حضرية استراتيجية صحيحة تراعي المرحلة الراهنة ، وتأخذ في الحسبان الأبعاد المستقبلية للمدينة العمانية .

 

يتبع …

 

العدد الثاني والاربعون سياسة

عن الكاتب

خليفة سليمان

كاتب وأديب عماني