الصفوان ( 4-4 )

كتب بواسطة يعقوب الريامي

دكتور …

أنا على يقين أنك تدرك أن علتي تستحق التدخل السريع في العلاج .

سأبرهن لك بالمزيد ، أسمع مني هذه الواقعة ..

 

في الأيام الأولى من عيد الفطر هجم على وجع باطني شديد ، كان الألم يمزقني كنائحة تشق جيبها ، لم أذق طعم فرحة العيد ولا طبخ وجباته .

قال لي الطبيب فكهاً :

– يبدو أن الدودة الزائدة أبت إلا أن تشاركك مناسك العيد .

لم يكن امتعاضي من تداعيات المرض المفاجئ بقدر ما هو قلقي من بقائي في سرير المستشفى ، مخافة أن تعتريني حالة الثرثرة المنامية فيه ، لذا رجوته المسارعة في العملية بدون المبيت .

كان رفضه حاسما إذ إنه ملزم بمتابعة المريض لمدة أربعة وعشرون ساعة بعد الجراحة .

كانت ساعات النهار متخمة بالخوف من غزو سلطان النوم  ، لذا قررت أن أتخذ من السهر حصنا منيعا لتلك الليلة ، إلا أنه لم يصمد في الثلث الأخير من الليل ، فرهق ما بعد العملية أغرقني في نوم عميق .

عندها حدث ما كنت أتوخاه ، فقد وقعت في الوحل مرة أخرى ، لقد أفشيت سر جريمة بشعة ارتكبتها قريبا ، هذا ما استشفيته من وجوه المرضى المتجهمة ، ومن معاملة الطبيب المتكلفة ونظراته الساخطة ، حتى إن واحدا من مرضى كبار السن أنفجر قائلا : اعتديت على حرمة الشهر ثم هتكت ستر الله ، ما أظلمك .

 

دكتور .. لا تأخذك الدهشة كثيرا إنها الحقيقة .

 

في الوظيفة طلب مقابلتي شخص أجهله ، قال لي باقتضاب :

– إذا أقنعت جارك الرجل العجوز ببيع مزرعته الكبيرة ستحصل على مكافأة ثمينة ..

ثم مد يده برقم هاتفه وأنصرف .

كان عرضا مغريا والمهمة ليست بذات العسر  ، لذا شمرت عن ساعد الجد ، مقلبا فكري في وسيلة تحقق هذه الغاية .

جاري تجاعيد وجهه تحكي بضعة عقودٍ من كفاح حياة قاسية إلا أنه ما زال يحتفظ بقدر لا بأس به من الصحة  ، لديه ثلاث بنات صغار ، لزواجه المتأخر بعد وفاة الأولى .

حين كلمته في المرة الأولى صرخ محتدا .. الأرض روحي والزراعة دمي .. كيف أحيا بدونهما ؟ ، هذه المزرعة مهد أجدادي ومرتع آبائي ، والآن هي مكسب رزقي وغدا كنز لأطفالي .

وجدت أن الحديث هكذا لا يجدي ..

فرحت أغريه وأمنيه ، أزين له ثمن البيع وأحلق به في عالم الثراء السريع ، والراحة التي هو في حاجة إليها اليوم قبل أن تغدر به أمراض الشيخوخة .

زودته بطاقة الجسارة في ركوب موجة ارتفاع سوق الأراضي بشكل جنوني ، شجعته على أن يغتنم الفرص إذا هبت رياحها ، فإنها كمذنب هالي سريعة الجريان نادرة الظهور ، دعوته أن يشارك الناس في هوسهم بالشراء والبيع في العقار ، فأسعارها لم تخطر يوما على قلب بشر ، حتى الأرض التي يعتليها الوتد الصخري أو التي تتموضع في قلب مجرى واد لها قيمة خيالية .

حصدت ثمار جهودي حين بدأ يلين تشدده ويتراخى إصراره ، ثم رأيت من المناسب الآن استخدام أسلوب الصدمة .. فحملت عليه حملة هوجاء ، قلت :

أنت أناني .. لا يهمك غير نفسك الآنية ، وتفكيرك محدود لا يتجاوز يومك ولا يصل إلى غدك ، كيف سيكون حال بناتك الصغار بعد رحيلك ، ماذا سيفعلن بمزرعتك الواسعة ؟

هل تأمن من جشع كافل اليتيم ربما يختلس المزرعة أو يمحق بركتها ؟ . أليس من الحكمة أن تقبض ثمن المزرعة ثم تشتري أرضين الأولى تبني عليها بيتا فخما تحفظ فيه عائلتك من طوارق الدهر ، والأخرى تمارس فيها شغفك بالزراعة الذي يسكن خلايا جسدك ؟ .

لك أن تبتاع أرضاً تجارية ثم تقيم فيها عموداً خرسانياً ضخماً ، تؤجر شققه فيعود لك ريعه شهريا غير مجذوذ ، أليس العقار الابن البار ؟ .

لا تقلق على مصير مزرعتك ، فإنها ستقع بأيدي أمينة ، فهم مستثمرون زراعيون بحق ، ربما سيملؤنها بمحميات الخضار أو ينثرون عليها سنابل القمح الذهبية ، هل تعلم أن تجارة علف المواشي رائجة وتحقق عائداً مذهلاً ؟ .

أجزم أنهم سيحولنها إلى حدائق ذات بهجة .

أعدك بأن أنتزع منهم على إجازة مفتوحة لك بالتجوال في المزرعة متى داهمك الشوق إليها ، وكذلك من حقك أن تقيم فيها حفلاً عائلياً نهاية كل أسبوع .

بعد كر و فر .. مراوغة و دوران .. وشعرة معاوية التي استندت بها في التعامل معه .. استطعت أن أستل منه الموافقة النهائية ، مؤكدا له أن أي رقم يطوف في خاطره ، سيكون هو قيمة المزرعة .

تلذذت بنشوة النجاح حينا ثم أبلغتُ الزائر الغريب عن الثمن الذي حدده الرجل العجوز .

 

دكتور ..

سأفشي لك أمرا ، لقد زدت على سعر جاري بضعة آلاف ، لقد عصف بي الطمع في استغلال هذا الموقف لإشباع عشقي للمال ، إنها سياسة الدرهم والدينار .

بعد عقد البيع ، أتصل بي الغريب وقال لي :

– مكافئتك ستجدها في غرفة العريش بالمزرعة ، في ظهيرة الغد .

بحق لم يرق لي هذا التوقيت ، فنحن في شهر رمضان ، والوقت مثير للشبهات ، مع ذلك قررت الذهاب لأغلق هذا الملف .

خرجت من منزلي متواريا عن الأنظار ، سالكا طرقا ملتوية .

في المزرعة أرسلت نظرات مجهرية باحثا عن الموقع ، إلى أن لاح لي .

كانت ملامح البناء السعفي تشي بأنه حديث وشيد على عجل .

وجدت بداخله رجلان .. بعد حديث السلام والتعارف ، تبين لي أن الأول شخصية نافذة في مجتمعنا ، صاحب كلمة مهابة وحبال طويلة ، أما الثاني تاجر عملاق من دولة أخرى ، استثماراته تناطح السحاب ، دار بيننا حوار بسيط تخلله كلمات الشكر.

دفعني الفضول أن أسألهم عن هدفهم من شراء المزرعة ، كان الرد من التاجر بعد أن فترت عن ثغره ابتسامة واسعة أعقبها تلقائيا ضيقٌ في عينييه : رفع كفيه وأخذ يقلبهما كأنه يغسلهما ! .. حينها فهمت مراد جوابه ..

ثم أردف الرجل الآخر بثقة : سنحصل على إذن بتحويل المزرعة إلى أرض تجارية ، وسنبني عليها مدينة إسمنتية .

ثم شقا سكون المزرعة بقهقهة مجلجلة ، مشبعة بالغرور والكبر .

حينها أدركت حجم الظلم الذي أوقعته على جاري العجوز فلو كان يعلم مسبقا مآل مزرعته لبصق في وجهي .

كنت متلهفا لمعرفة جائزتي ، مترقبا دخول يد أحدهم في جيبه أو حقيبته ، لكن هذا الانتظار قطعه عامل أجنبي جاء من الخلف يحمل بين يديه صحن كبير عليه جبلٌ من الأرز ، تعتليه كتل اللحم .. صعقت من هذا المشهد المريع ، لم أدرِ كيف أتصرف تجاه هذا العدوان الصارخ لشهر الصوم .

التفا حول القصعة .. قال لي أحدهم :

– أقترب .. هذا جزء من مكافئتك .

بعد الوجبة دارت كؤوس الشراب ..

بعدها سمعت هدير لمحرك سيارة قادمة ، حين سكنت نزل منها شاب عبثت به مظاهر الأنوثة حتى صار كتلة مائعة .

كان يتأبطُ آلة العود .. راح يطربنا بصوت خفيض .. وهم ينفذون الدخان في انتشاء.

بعد هذه الحفلة الماجنة التي حقق فيها الشيطان أعظم انتصاراته  ، استلمتُ منهما ورقة مستطيلة الشكل يتوسطها رقم كبير جدا ، جعلني أشعر بالطيران جذلا في كل خطوة أسير بها إلى خارج المزرعة .

هذا ما جرحتُ في نهار رمضان ، أقر أني تذوقتُ طعامهم وكرعت قليلا من مائهم الملون و تلذذت بسماع الدندنات ، لقد كنت مضطرا لفعل ذلك ، كنت أطيعهم مجاملة لهم حتى لا أثير استياءهم ، فلربما سيماطلونني في تسليم المكافئة .

دكتور ..

أنشدك الستر الذي يحول بين ما أقترفه من خطايا وبين معرفة الناس له ، وذلك بأن تخرس لساني وتكتم فمي عند النوم . كم أحسد البكُـم ، فألسنتهم لا تقوى على تعرية أسرارهم وفضح مثالبهم .

لإن أنجيتني من هذا المرض لأكونن من الشاكرين .

 

دكتور …

أنا أمتلك حزمة من الأسرار الخطيرة ، سأتعجل في البوح ببعضها لك شخصيا ..

أنا الذي قدمت رشوة لموظف الإسكان مقابل أن تكون أرضي في الموقع الذي أريده ، وأنا الذي توسطت لقريبي في وظيفة لا تنطبق عليه شروطها البته ، وأنا الذي …

 

رقم خمسة .. رقم خمسة .. المريض رقم خمسة ..

تكرر نداء الممرضة باتجاه قاعة الانتظار إلى أن استفاق أخيرا أحد المرضى كان مُـتكوماً في زاوية غاطا في غيبوبة فكرية .

بعد أن قطع حبال خيالاته ونقض غزل أفكاره قام من مقعده بوهن ، جر أقدامه بتثاقل ، كشف عن وجه منقبض العضلات ، باهت اللون ، ثائر الشعر ، تغشاه بقع سوداء تحت عينيه الحمراوين .

أستلم الرقم ثم دلف غرفة الدكتور ، أرتمي على الكرسي كخرقة بالية .

نظر إليه الدكتور بشفقه :

–  يبدو أن السهر والتفكير أنهكا صحتك .. سأناولك قرص مهدئاً قبل أن تشرح لي حالتك .

بعد أن دلق الماء في جوفه قال :

–  دكتور .. مشكلتي أعرفها جيدا وقرأت عنها الكثير ، إنه مرض التحدث في النوم.

تنهد الطبيب ثم قال :

– تشخيص درجة حالتك يعتمد على محددات معينة مثل …

قطع حديثه نزقا  :

–  هل تقصد أن التشخيص يعتمد على نوعية المواضيع التي أتحدث عنها ؟

إذا كان كذلك سأخبرك بحقيقة مهمة .. أنا مخلوق بسيط ، ليس هناك ما يستحق إخفاءه . أوكد لك أني لم أخن زوجتي قط ولا أتجسس على أحد ، ليس من سلوكي استغلال الاخرين ، أمقت الوشاية وأحتقر كل معصية ، المال لا يغويني عن مبادئي الرفيعة ،  باختصار أنا أنسان صالح جدا .. أنا ملاك طاهر ! .

أدب العدد الثاني والثلاثون

عن الكاتب

يعقوب الريامي

كاتب عماني