ما بين الحقوق والواجبات

” 1 “

لقد جاء تصريح وزارة التربية والتعليم أن الوزارة اتخذت الإجراءات الإدارية والقانونية تجاه المنقطعين والمتوقفين عن العمل، ليفتح بابا للنقاش حول أوضاع العمل بصفة عامة وأوضاع العاملين بصفة خاصة، لأن هناك أزمة حقيقية في الجهاز الإداري للدولة، قد وصلت إلى “حالة الترهل”، مما يدل على أننا نحتاج إلى فتح باب تثقيف الموظفين بالقطاعات كافة حول “الحقوق والواجبات” التي ينص عليها قانون الخدمة المدنية، ومن ذلك مثلا، أن من بين هذه الواجبات، قيام الموظف بالعمل المكلف به، وأن يؤديه بدقة وأمانة، كما أوجب القانون الانتظام في العمل والالتزام بالمواعيد الرسمية.

” 2 “

بعد الحراك الشعبي الذي شهدته السلطنة عام 2011، برزت ثقافة جديدة في الساحة العمانية، هي ثقافة الاعتصامات والإضراب عن العمل في القطاعين الحكومي والخاص، وبرزت إلى السطح مصطلحات جديدة في قاموسنا لم نكن نسمع عنها من قبل، من قبيل “الحقوق والواجبات”، وغيرها الكثير، ربما أبرزها  كانت مصطلحات “التعيين” و”تكافؤ الفرص”، و”مكافحة الفساد الإداري والمالي”، و”المطالبة باسترداد المال العام”، وهي مصطلحات جميلة، لكن يجب أن لا تخرج عن إطارها العام حتى لا تسبب ضررا للمجتمع، لأن ظهور هذه المصطلحات أدى بدوره إلى ظهور “أبطال” يركبون الموجة، ويريدون أن يظهروا كأنهم نجوم، وكأنهم قادة للمجتمع، حتى وإن كان عن طريق التهريج وإلهاب العواطف والسعي إلى تحقيق مجد شخصي، والكل يعلم أن كل الحركات في دول “الربيع العربي” بدأت بمطالبات بسيطة.

لقد كانت هناك مطالب عادلة ومنطقية، ولكن المطلب الأساسي في الاعتصامات كان حول رفع المستوى المادي، حيث ركز معظم  المضربين – إن لم يكن كلهم – على المطالب المادية فقط، أي أنهم اهتموا بالحقوق فقط دون التركيز على الواجبات المطلوبة منهم، وقد أدى ذلك إلى تعطل مصالح الناس خاصة في إضراب المعلمين، إذ انتشرت الفوضى في المدارس وتوقفت العملية التعليمية، مما يتنافى تماما مع رسالة المعلّم، وهي كانت رسالة غير مباشرة للجيل الجديد بأن يتعلموا “التمرد” الذي قد يكون المعلمون أول ضحاياه في المستقبل.

لا نستطيع أن ننكر أن هناك مطالب عادلة جدا في عريضة مطالب المعلمين، كضرورة فرض هيبة للمعلم، ولكن هناك مطالب مُبَالغ فيها جدا أيضا، وتبقى مسألة تأخير الترقيات مسألة عامة طالت المعلمين وغيرَهم خاصة من دفعات تعيين عام 1990، وما بعدها، لوجود خلل في قانون الخدمة المدنية الذي بحاجة إلى تغيير، بحيث يُفترض أن يترقى من يستحق الترقية مقابل عطائه وإخلاصه وتفانيه وإجادته في العمل حتى لو كان بعد سنة، ويتأخر عن الترقية المهملُ حتى ولو بلغ عشر سنوات، حيث نلغي مبدأ التساوي بين من يعمل ومن لا يعمل، ونلغي مبدأ الترقية حسب الأقدمية، مما يعرف ب”الدفعات”.

إن مبدأ الترقية حسب الدفعات دون النظر إلى المُجيد والمُخلص أدى إلى تراجع الالتزام بالعمل والأداء، وهذا أدى إلى الترهّل في الجهاز الإداري للدولة، مما أدى بالبعض أن يلجأ إلى الغش والرشوة، وأدى بالبعض أن يهتم بالإجازات فقط، وأصبح الإنتاج في الدولة صفرا، وأصبح التكدس في الوزارات والهيئات الحكومية عالة على الجهاز الحكومي، وهذا بدوره أفرز ثقافة الاهتمام بالحقوق فقط على حساب الواجبات، لدرجة أن تصل المسألة برمتها إلى ما هو أقرب من “النكتة”، إذ لقيت مدرّسا ملتحيا وتبدو على ملامحه سيماء القدوة، وعرفت منه أنه صائم العشر الأوائل من ذي الحجة تقربا لله، ولكنه أضرب عن العمل، وترك أولاد الناس هائمين في الشوارع، ورضي أن يأكل راتبا حراما ويضحّي يوم العيد بأضحية من راتب استلمه حراما لم يؤد فيه واجبه الديني والوطني.

إننا نحتاج إلى تثقيف الناس، خاصة الجيل الجديد بثقافة “الحقوق والواجبات”، وأن يكون ذلك قبل التعيين وأن تكون هناك مادةٌ صريحة يوقّع عليها الموظف تظهر له ما هو المطلوب منه وما هو حقه، كما أننا بحاجة الآن إلى تثقيف الناس بثقافة “الإضراب” عن العمل، بحيث تكون هناك نقابات تتولى تنظيم ذلك حتى لا تعم الفوضى البلد، إذ أن هناك أكثر من جهة يريد موظفوها تنظيم إضرابات مستقبلا، وذلك حتى يكون الجميع على بينة وحتى لا تتعطل مصالح الناس، ومن هنا فإن للمعلمين والمعلمات الحق في أي يكون لهم نقابة تهتم بشؤونهم وتطالب بحقوقهم.

وفي الحقيقة فإنّ الكثير مما كتب عن إضراب المعلمين، سواء في الصحافة أو وسائل الاتصال المختلفة، به أفكار واقتراحات ممتازة، تحتاج إلى مبادرات لتُحوّلَها إلى برامج عمل للخروج من الأزمة الحالية، وذلك بوضع الحلول النهائية حتى لا تتكرر المسألة ويدفع فلذاتُ أكبادنا ثمنا غاليا.

” 3 “

إن كل المؤشرات تدل على أن المستقبل سيكون صعبا، وينتظر الدولةَ الكثيرُ من المصائب، إذا لم تبادر بسرعة إلى إيجاد حلول للمشاكل المتراكمة، وإلى مراجعة أوضاع العاملين في القطاعين العام والخاص، بأن يتم التركيز على مبدأ “الحقوق والواجبات”، حيث توفر الدولة الظروف المناسبة للعمل، ثم يحق لها بالتالي أن تحاسب من أخل بواجباته، وهو مبدأ عادل تماما، وما يؤسف له أن “المواطنة الحقة” بدأت تختفي من الجيل الجديد، وصار الإنسان لا يفكر في الواجبات التي عليه، وأصبح تفكيره منصبا في الحقوق فقط، وأصبح الأغلبية يتجاهلون ويتناسون ما عليهم من واجبات، وأصبح الأغلبية لا يهتمون إلا بأنفسهم، فيرون الحق من زاوية ضيقة فقط هي زاية المصلحة الشخصية، ويتحدثون دائما عن حقوقهم دون النظر إلى واجباتهم، وقد يكون إضراب المعلمين صورة واضحة عن ذلك، إذ انبرى الكثيرون منهم يكتبون مدونات عن عطائهم وإخلاصهم وولائهم، لدرجة أنني أحيانا أشك أن هذه الفئة موجودة في عمان، بل عادت بي الذاكرة إلى ذلك الجيل من المدرسين المصريين والشاميين والسودانيين، الذين أتوا إلى عمان في مستهل العهد الجديد، وأعطوا عصارة جهدهم وفكرهم وعلمهم وإخلاصهم لعمان، وهم قد أتوا من المدن الكبيرة في وقت كانت عمان غارقة في الظلام، واستطاعوا أن يؤسسوا جيلا، بُنيت عمان على أكتافهم، ومن هنا نستطيع أن نقول إن التعمين التام في قطاع التعليم كان خطأ وكذلك في الإعلام.

إن غياب “المواطنة الحقة” جاء نتيجة لأسباب كثيرة، يأتي التعليم في مقدمة هذه الأسباب، بغياب المنهج الجيد الذي يبني الأجيال، وبغياب الخبرات الكبيرة في مجال التعليم، وبتدني ثقافة “بعض” المدرسين، وغياب هيبة المدرس، إذ أصبح أي طفل صغير يستطيع أن يرفع صوته عليه، ولا يستطيع المدرس أن يرد بشيء، خوفا من سيف مسلط على رقبته، اسمه “الادعاء العام”،كما أن هناك أسبابا أخرى، هي غياب هيئات تتبنى الشباب وتُشغل وقت فراغهم بالمفيد، ومع كل هذا يغيب عن الجيل مفهوم الإخلاص والولاء للوطن، وتغيب عنه قيمة الوطن، لأننا ربينا في الشباب أن الوطنية هي مجرد احتفال، ومجرد أناشيد لا تقدم ولا تؤخر تبث عبر أجهزة وسائل الإعلام، هذا غير أننا عوّدنا الناس على مبدأ الأخذ فقط دون تعويدهم على مبدأ العطاء.

لقد تبادل الكثير من الناس- خاصة المدرسين- تغريدة للشيخ “خلفان العيسري” – شفاه الله وعافاه – يقول فيها إن اليابان تعطي المدرس راتب وزير، كما أن الكثيرين تبادلوا تغريدة تقول، إن المهندسين في ألمانيا طالبوا برواتب عالية أسوة برواتب المعلمين، إلا أن المستشارة “أنجيلا ماركل” قالت “كيف لي أن أساويكم بمن علموكم؟”، إن كل ذلك صحيح، ولكن هل يحق لنا أن نقارن بيننا وبين عطاء وإخلاص ووفاء اليابانيين في العمل؟، في اليابان يُعتبر التقاعس عن أداء الواجب أو العمل المناط بالشخص خيانة عظمى وتمسُ هذه الخيانة كرامة وشخصية الفرد، وهكذا يتم تربية اليابانيين منذ طفولتهم المبكرة، ويحكي الكاتب “يوسف إدريس” أنه كان يتساءل دائما عن سر نهضة اليابان وتحوّلِها من بلد صغير معزول إلى قوة صناعية واقتصادية، إلى أن حدث مرة أن راقب في طوكيو عامل نظافة في منتصف الليل يعمل وحيدا، وعندما راقبه وجده يعمل بجد ومثابرة من دون مراقبة من أحد، وكأنه يعمل على شيء يملكه هو نفسه، عندئذ عرف سر نهضة اليابان، إنه الشعور بالمسؤولية النابعة من الداخل من دون رقابة ولا قسر، إنه الضمير، أكان مصدره دينيا أو أخلاقيا، ثم إن إضراب المعلمين في اليابان هو عبارة عن لبس شريط أسود في اليد اليسرى مع تواصل عملية التعليم حتى لا يتضرر الطلبة، ولنا أن نقارب بين من يطلق للحيته العنان ويصوم لله تطوعا، لكنه يترك أبناء الناس يهيمون في الشوارع، وهذا فهم مغلوط للدين، فقد جاء أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يَكثرون عند الفزع ويقلّون عن الطمع، لأصل بذلك إلى أن عندما تتفوق وتزيد المطالبة بالحقوق في أي مجتمع على حساب الواجبات اليومية، فإن المجتمع يبدأ في الانهيار، ولا أستطيع أن أحدد في أي درجة وصلنا من هذا الانهيار.

لقد تعاطف الكثيرون مع مطالب المعلمين (خاصة العادلة والمعقولة منها)، ولكن المعلمين أنفسهم لم يستطيعوا أن يستثمروا تعاطف الناس معهم، إذ أنهم استطاعوا أن يحوّلوا المتعاطفين إلى أضداد لهم، بعدما طال الإضراب أكثر من اللازم، وتحولت بعض المطالب الإصلاحية في النظام التعليمي إلى المطالب المادية فقط، وحتى بعد صدور تصريح وزارة التربية والتعليم حول التعامل مع المضربين وفق القانون، فإنّ الكثيرين أيدوا هذا التوجه، لأن المطلوب كان هو تسجيل موقف، وتم تسجيله، أما أن يطول الإضراب بأكثر مما يجب، فإن ذلك من أكبر الأخطاء، لأن قطاع التعليم يتعلق بحياة المواطنين، كما هو الشأن في قطاع الصحة.

” 4 “

إنني أردد دائما لكي يصطلح حالنا، فلا بد أن نصلح من أنفسنا أولا، ف”إنّ اللهَ لا يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيّرُوْا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”.

العدد الثاني والاربعون سياسة

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com