نكهة دم ..

كتب بواسطة خلود المقرشي

حين إلتحم جسده بالسرير، أغمض عينيه بهدوء مصطنع وضجيج الأفكار حوله تزداد عنوة وضجيج. حاول أن يهدئ من حدة أفكاره بفكرة ساذجة…. ولكن فكرة سؤال ما كانت قد أستلقت على منابت عقلة حاول أن يغيبها في العمق كأن يفكر مثلا بالحب.. فينفرج السؤال من بين شفتي الأنثى المتخيلة… يقلب جسده… يحاول أن يفكر في عمله لكنها في المقابل تغدو فكرة غبية وضعيفة من أن تعلو على فكرة السؤال الذي ما كاد يبرحه حتى يعود يأجج نفسه في حموضة الذاكرة :

  •  أي شخص سأكون غدا؟!!!!

في الصباح توقظه خشخشة الضوء المزجاة من فم الشمس الذائبة على النافذه. يفتح عينيه، يلتصق بصره بالسقف، يفكر في إحتمالية إنهيار السقف على وجهه ….يطرح الفكرة جانبا وهو يزيل الغطاء من على جسده. قبل أن ينتصب ، تتجه عينيه نحو سجادة الغرفة النازحة على السراميك، يرتفع بصره ليصتدم  بلوحة فنية معلقة تبتلع جزء من الجدار. تتوسع عينيه ، وهي تحدق إستغرابا  في زوايا الغرفة…كل شئ يبدو غريبا عنه… غريبا وبلا منطق !!

يحس بشئ ينهش جسده من الداخل. يمسك معصمه…ينضخ الآلم من الشريان… يحس بقطرات الدم التي تتدفق …يحس بها تحبو في شريانه بقوة…هذه الحكة التي تلازمه ثواني وتختفي.

يعاود النظر إلى غرفته…إلى السجاد، اللوحة الفنية المعلقة….كل شئ يبدأ يمارس عليه سطوة الغربة والنفي…

فجأة ” ربما أخطأت الغرفة!!” يتعلق بالفكرة…يتردد… ينظر إلى جسده … ملابسه…هو نفسه لم يتغير بنحافته بعروقة الناشزة!…”الغرفة هي من تغيرت”…هو متأكد أنه لم يشتري اللوحة تلك ولم يحضر سجادا بهذا الشكل. في الحقيقة غرفته لم تكن أكثر من سرير ودولاب وطاولة مكتب! يمسك رأسه بكلتى راحتيه… نحو الباب يتجه ، ينادي “أمي؟”…لا يصله الرد…يطوي الدرجات خلفة.

*****

لما لم يصرخا؟ امتلأت الغرفة بضجيج السؤال. وانتشرت رائحة الخبر في الممرات البيضاء كإعصار،ازدحم السرير بالأجساد، وامتلئت الرئتين برائحة المعقمات التي تنز من الأيدي المكممة. والأم طريحة تنهشها آلآم الرحم المنزوع منه الجسدين . بقت العيون تحملق في التوأمين إلى أن بكى أحدهم…وبقى الثاني محتبس النفس. حمل الثاني بعيدا وبقى الأول سجين زجاجة …فقيرا من نكهة الدم فالجسد (في الجسد)!

كانت تستعيد ذكرياتها وظهرها متكئ بالكرسي وأمامها كوب الشاي النائم على حدود الطاولة.

  • “أمي؟”.

تنتبه للصوت القادم ….

  • “صباح الخير بني”.
  • “لم أنم البارحة في غرفتي”…ينحرج وهو يحاول تذكر ما حدث البارحة فعلا ..”يبدو أنني كنت تعبا ودخلت غرفة بالخطأ”
  • “هي لك يا بني!”
  • ؟؟؟؟!!!!
  • بحنان ” تلك غرفتك”
  • ” واللوحة الغبية من علقها في جداري؟ والسجادة القات…؟”
  •  ” كل ذلك أنت من اشتراه قبل أشهر”

يرتبك، تنفلت نظراته يحاول أن يجد نقطة إرتكاز في الجدار ليثبت عليها نظره……يعاود الشريان يحكه بقوة..

  • ” كيف ذلك؟ أنا لا أذكر متى فعلت ذلك!!! “
  • بشفقة تجيب ” منذ أشهر… حين استلمت راتبك الأول  ” ثم يبتلعها صمت طويل!

يجد نفسه يترنح فوق أرض هشة قابلة لأن تحبسه في إنزلاق أسود مربك. ” كيف ذلك؟” في داخله تغلي كل الكيفية الممكنة لأن تشرح له لما كل ذلك الحجم الموجع بالإنزواء لما تختفي منه الذاكرة…” لما لا استطيع التذكر”…خائنة هذه الذاكرة التي تحبسك في غفلة منك في إطار زمني لا تستطيع تجاوزه ولا تحديد شكله وهيكله!

يدخل الغرفة المفرغة منه مرة أخرى، يحاول البحث عن إحساس يقرب إليه كل الجمادات الموجودة….يلمسها بيده يحاول أن يقربها منه ليجدها تسقط بكل التشابهات وكل الأحاسيس وهو ينظر بتقزز إلى اللوحة المعلقة والسجادة المسكوبة على الأرضية.

يقترب من مكتبه يجد دفترأزرق باهت، يتقزز من لونه، يكره الالوان الباهتة الأقرب إلى الإنتهاء…يقترب من الدفتر… يفتح الغطاء بتوجس .. يمرر الأوراق على عينيه بحركة سريعة جنونية…يغلقه بقوة…يتنهد … يترنح على الكرسي… يعاود طرح نفس السؤال ” متى حدث ذلك؟”؟” سؤال زمني بسيط إذا لم تكن السنوات بحجم حبة الرمل! ولكن…ولخيبته لا يعلم كيف ومتى وأين…كل تلك العبارات الإستفاهمية غائبة الجواب. يقوم من الكرسي.. يتجه نحو اللوحة…يتصلب أمامها…ينظر إليها بحدة، يستمر في النظر إليها..الآن يحس بتقارب بين اللوحة ونفسه ! يعاود الشريان ينهشه ببطئ.

****

في الصفحة الأولى من الدفتر كتب بخط منحدر ومشتت:

” ليس هينا أن تكون آلف شخص إلا أنت! تقول أمي أن الدم الذي إبتلعه جسدي ليس دمي…جاء نتيجة تبرع عدد من الأشخاص الذين لم ترهم عندما ولدت شحيحا من قطرات الدم…بعدها لم تكن حياتي عادية…كنت متقلب المزاج والأسلوب..فالحقيقة كان أكثر من شخص يسكنني إلا نفسي!..نفسي التي لم أعشها…ولم تألفها أمي حتى…الطبيب يصر على أن الأمر بلا مبرر طبي فالدم المتبرع يحمل تلك الفصيلة نفسها فلا يتأثر الشخص لا من قريب ولا من بعيد بمن زرع دمه في جسده…يقول الطبيب أن كل ما يحدث ربما هو هوس أو ربما خلقت هكذا بهذه الشخصية المستنسخة…لا بد من مراجعة طبيب نفسي…كان ذلك كلام الطبيب حين شدد علي بلهجة وقحة خالية من المشاعر أنه لا داعي للعودة إليه!”

*****

في الليل…

تمر على باب الغرفة…تتكي بالباب تغور عينيها في ضبابية دمع لا تنتهي وهي تسأل نفسها ” أي شخص سيأتي به الصباح غدا؟”..

أدب الثالث والأربعون

عن الكاتب

خلود المقرشي