زاهر بن حارث المحروقي
” 1 “
لقد شاهدت تقريرا مصورا بالفيديو في جريدة “اليوم السابع” المصرية، يسأل فيه الصحفيون الناس، في أي عام هجري نحن الآن؟ وكانت كل الإجابات تدل على جهل الناس بالعام الهجري الجديد، باستثناء شخص واحد فقط الذي أجاب الإجابة الصحيحة، بل هناك من الناس من لا يدري شيئا حتى عن الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ولماذا نحتفل بالعام الهجري؟!، وفي الحقيقة هذا مؤشر خطير، لأن أي أمة إذا لم تعرف ماضيها، فتعمل على الإستفادة والإستلهام منه، وتصحيح الأخطاء التي رافقتها، فهي أمة مهددة في مستقبلها، وليس معنى هذا أن تتغنى أي أمة بالماضي فقط وتنسى بناء الحاضر والمستقبل.
ونحن كمسلمين، نستخدم دائما في كل معاملاتنا، التاريخ الميلادي، ونلجأ إلى التاريخ الهجري في مناسبات قليلة جدا، كتحديد دخول شهر رمضان والخروج منه، وحتى في هذا فإنّ المسلمين مختلفون جدا، رغم تطور علم الفلك الذي له القول الفصل في تحديد المواعيد والمواقيت بدقة متناهية، وكثيرا ما كنت أسأل نفسي، ماذا لو تم صرف رواتب الموظفين بالتاريخ الهجري، وماذا لو تمت معاملاتنا كلها بهذا التاريخ، – كما يحدث في السعودية مثلا، وهو ما يحسب لهم تماما – أكان الناس ينسون الشهور والسنوات الهجرية؟!
” 2 “
إن استقبال المسلمين للعام الهجري الجديد، يطرح العديد من الأسئلة حول حال الأمة الآن وما ينتظرها مستقبلا، وقد دارت في ذهني بعض الأسئلة حول اتخاذ الهجرة النبوية موعدا للتأريخ الإسلامي وبدايةً للعام عند المسلمين، رغم أن فتح “مكة المكرمة” كان الأقرب إلى الإحتفال به وبدء التأريخ به، إذ أنه كان إيذانا ببدء مرحلة جديدة في تاريخ الأمة الإسلامية وإيذانا باندحار الشرك وقوى الطغيان، لأن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة، وهو مكره مع صاحبه “أبي بكر الصديق” رضي الله عنه، تبدو وكأنها ذكرى حزينة للأمة، إذ يتم إخراج الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من أحب البلاد إليه طريدا شريدا متخفيا، وهو القائل: “علمت أنك خير أرض الله، وأحب الأرض إلى الله، ولو لا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”، وهو حديث يدل على معاناته صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة، بقدر ما يدل أيضا على معاناته من هذا الخروج.
وقد رأت الكاتبة الفلسطينية “أحلام طرايرة” في مقال كتبته عن الهجرة في موقع “الحوار المتمدن” أن يوم الهجرة النبوية، هو يوم نكبة بكل ما تحمله كلمة النكبة من معنى، خرج فيه أناس من بلادهم نتيجة لسياسة تهجيرية ممنهجة مورست ضدهم، تعرضوا خلالها لشتى أنواع الانتهاكات والاعتداءات السافرة التي طالت كل نواحي حياتهم، حتى بات بقاؤهم في مكة يعني قرارا بالانتحار، وإجهاضا لفكرة تلك الرسالة الإنسانية العظيمة، التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تحرير الإنسان.
ومن شدة معاناة الشعب الفلسطيني، فإنّ “أحلام طرايرة” قارنت بين تلك الهجرة وهجرة الفلسطينين القسرية عن ديارهم، ورأت أن بينهما من أوجه التشابه الكثير، لذا ترى أن فتح مكة، هو اليوم العظيم الذي تمثل بعودة المهاجرين – اللاجئين – ظافرين منتصرين إلى ديارهم التي تركوها مجبرين مكرهين منكسرين، فقد كان ممكنا أن يبدأ التقويم الإسلامي به أيضا، بل إنني أتفهم الأسباب التي جعلت الكاتبة تقول “إن يوم النكبة الفلسطينية سيبقى يوم نكبة حتى وإن جاء اليوم الذي يعود فيه كل المهجرين إلى بلادهم، فلا يمكننا أن نحتفل بيوم وجع وألم ونتخذ منه ذكرى سعيدة نتبادل بها التهاني والأمنيات الجميلة”.
” 3 “
في خطبة الجمعة بجامع “أبي الحسن البسيوي” في الحيل الجنوبية، رد الشيخ “بدر العبري” هذا الأسبوع على السؤال، لماذا تم اختيار الهجرة دون غيرها من الأحداث، إذ قال “إنّ بالهجرة قامت للمسلمين دولة، وبين الأمم مكانة، وفي الإنسانية حضارة”، وأن الله سبحانه وتعالى ذكّر المؤمنين بالهجرة في القرآن الكريم في موضع “تبوك”، عندما أعدّ الروم، جيشا عرمرما، للقضاء على الإسلام، وعندما طُلب من المسلمين المواجهة، تكاسلوا بحجة أن الوقت وقت جني ثمرات النخيل، “أثّاقَلْتُم إلى الأرْضِ، وَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ”، فذكّرهم الله حينها بتاريخهم، قبل ثمان سنين فقط، حيث كانوا في مكة، مشردين مضطهَدين، أذلة بين كفار مكة، صغارا بين الناس، فنصرهم الله، “بثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ، إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا”، والسؤال هو من أنتم أمام أمر الله؟ فكان الجواب الرباني،”إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”، وقد كان من نتيجة ذلك أن “الفاروق” تصدّق بنصف ماله، و”الصدّيق” تصدّق بمال كثير، و”ذو النورين” جهّز الجيش، وتصدّق العديد من الرجال والنساء بما يستطيعون، فاهتزت روما في عقر دارها، وأصابهم الهلع والخوف، فتشتتوا داخل بلادهم، وعقدوا صلحا مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، بأن لا يعودوا مرة أخرى إلى هذا التفكير، فرجع الرسول ومن معه منتصرين بلا حرب ولا قتال، “فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”، وقد كانت كل تلك الأحداث نتيجة للهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وكانت هي المبشرات بفتح مكة، بمعنى أنه لو لم تكن الهجرة لما كان الفتح.
يرى الشيخ “بدر العبري” أن الخليفة “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه، أراد أن يذكّر الأمة عندما اتخذ قرار التأريخ وبداية العام الجديد بالهجرة النبوية، بماضيها التليد، وتاريخها المجيد، وأراد من الأمة في كلّ عام أن تهجر الشرك وعبادة المخلوق إلى توحيد وعبادة الخالق وحده جلّ وعلا، وأن تهجر الرياء والأنا، والكبر والغرور والحسد، إلى الإخلاص لله الأوحد، والتواضع والمحبة للبشر.
لذا يرى أنه لا بد من الربط بين الهجرة وافتتاحية العام الجديد، وعليه لا بد من الاستحضار الكلي لمعنى الهجرة، حيث تكون الهجرة الحضارية الكبرى المنتظرة من هذه الأمة، لنحقق الهدف المنشود خاصة ضمن النداءات الإصلاحية التي تسود العالم الإسلامي في الوقت الراهن.
” 4 “
تمر على الأمة الإسلامية العديد من المناسبات منها ما هو سعيد ومنها ما هو محزن، والمطلوب هو أن تأخذ الأمة الدروس والعبر من كل مناسبة، بدلا من التغني بالماضي فقط، وهو ماضي – رغم إشراقه – إلا أنه مرّ بفترات مظلمة جدا، ويكفي أن المسلمين إلى الآن يدفعون ثمن أخطاء سياسية وقعت فيها الأمة، عندما تناحرت بسبب كرسي الخلافة، وبسبب مئات الآلاف من الأحاديث الموضوعة التي وضعها كل طرف ضد الطرف الآخر، وإذ تحتفي الأمة الإسلامية سنويا بحادثة الهجرة، إلا أنّ الاحتفاء يدور بين إفراط وتفريط، فهناك من يدعي أنّ الوقوف مع حادثة الهجرة بدعة في الدين، ولم يقمها الخلفاء الراشدون والسلفُ المرضيون، فهؤلاء – حسب رأي الشيخ بدر العبري – خلطوا بين الوقفات التأريخية والعبادات المحضة، فالوقوفُ مع أحداث التأريخ أمرٌ دعا إليه القرآن الكريم، وهو الذي خلّد لنا بعضا منها، كأحداث “بدر” و”أحد” و”الخندق” و”حنين” و”الهجرة”، مع ما ذكره من أحداث الأمم الأخرى، وأمرنا بالسير في الأرض والنظر في أحداث من عبر، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، والسيرُ في الأرض قد يكون بالجانب الحسي بالنظر في الآثار، وقد يكون بالجانب العقلي بالتدبر في ما وصل إلينا من أدلة حسية وروائية ونصية ونحوها، وهناك فريقٌ أفرط في الهجرة، وأدخل فيها طقوسا شوّهت صورتها، وأساءت إلى وجهها الحقيقي، وجعل هذا الفريق ذكرى الهجرة، مجرد أغنية تُكرر سنويا، بدون فهم وتدبر في حادثة الهجرة ذاتها.
من هنا لا بد من إدراك حقيقة الهجرة، وكيفية فقه الاحتفاء بها، ليكون أثرها في الواقع، وفي الأجيال جيلا بعد جيل، فإننا نستقبل عاما هجريا جديدا، ونعلم تمام العلم أن الأمة الإسلامية في مؤخرة الركب، فيجب على الأمة أن تجعل عامنا عام هجرة من الجهل والتخلف الفكري والتربوي، لنهاجر إلى العلم والثقافة، ومعرفة طرق التربية الصحيحة، لنكون أمّة قراءة واطلاع، أمّة تربي أولادها التربية الصحيحة، أمّة تهتم بالأولويات في سائر نواحي الحياة العملية، أمة منتجة وليست عالة على غيرها.