تعرض الفلق هنا مقدمة كتاب “عمان: الإنسان والسُلطة” للباحث سعيد الهاشمي والصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية (2013م) والذي يقع 272 صفحة.
تمهيد
تحاول فصول كتاب عُمان، الإنسان والسلطة قراءة العلاقة الجدلية القائمة بين الإنسان والسلطة تمهيداً لفهم المشهد السياسي العماني المعاصر. وهي قراءة وصفية تحليلية أولية تجتهد في تتبع كل مرحلة من مراحل ذلك الجدل والصراع على مستوى الأفكار والأحداث والشخصيات.
الإنسان محل الدراسة هنا هو، بالتحديد، المواطن العُماني بأفكاره وتطلعاته، سواء في الداخل أو الخارج، وعلى امتداد الجغرافيا العمانية التي أصابها التمدد والانكماش بفعل عوامل تاريخية، داخلية، وإقليمية ودولية. أما السلطة المقصودة هنا، فهي السلطة المركزية التي تدير البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً سواء عبر شخصياتها الحاكمة، بشكل مباشر أو غير مباشر، أو عبر أجهزتها السياسية والأمنية، والإدارية.
الكتاب مكون من أربعة فصول، تقدم قراءة ممهدة في أربعة تيارات وفئات سياسية واجتماعية لعبت دوراً مهماً في كل عقد من عقود الدولة المعاصرة في عمان؛ التيارات اليسارية من منتصف الستينيات مروراً بعقد السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات، والتيارات الإسلامية من منتصف ثمانينيات القرن الماضي إلى مطلع الألفية الجديدة، ومؤسسات المجتمع المدني التي نشئت أو أُنشئت في جوٍ سياسي مملوء بالشك والريبة والخوف من كل ما هو سياسي، وأخيراً الحركة الشبابية العمانية الجديدة والتي جاءت مواكبةً لربيع العرب وثوراتهم من أجل الكرامة، والتي شكلت معه الحالة العُمانية مثالاً يستحق التوقف عنده واستظهار تفاصيله الإيجابية والسلبية.
لا يدعي هذا الكتاب الإلمام بجميع جوانب هذا المشهد، ولا يزعم شمولية التناول للراهن السياسي في عمان، ولا جميع تلك العوامل التي شكَّلته منذ سبعينيات القرن الماضي على الأقل. إلا أنه يسعى إلى أن يمهد لحوار موضوعي لثيمات رئيسة ما زال مسكوتا عنها – حتى اللحظة- إما رهباً من عصا السلطة أو رغباً في مكاسبها.
أولاً: قراءة في الحركات اليسارية
تأتي أهمية دراسة الحركات اليسارية في عمان في طليعة الموضوعات المسكوت عنها عمداً. لذلك تستمد تأثيرها على الحراك السياسي والاجتماعي للبلاد في قوة تغييبها أكثر من وفرة حضورها.
هذا الصمت لم تمارسه السلطة لوحدها، والتي لم تحقق انتصاراً سياسياً وعسكرياً فحسب، بل حققت ما هو أهم من ذلك؛ ألا وهو محو ذاكرة تلك التجربة من الذاكرة الوطنية، بل مارسه كذلك أفراد وقيادات تلك الحركات فغدا الأمر وكأنه سر عظيم تواطأ الجميع على دفنه، وإسقاطه من الذاكرة الوطنية.
إن هذا التغييب أوجد هوّة كبيرة في التاريخ العُماني المعاصر، فحتى الأصوات المستقلة التي كانت تكتب من الخارج نصرةً أو تحليلاً عن أو في إجمال وتفاصيل التيارات اليسارية تناقصت حد الندرة لما لاقته من تضييق، وإهمال، وتجاهل ليس من السلطة السياسية الحاكمة فحسب، فهذا من طبيعتها، وأحياناً من وسائلها الممنهجة لمحاصرة وتحييد خصومها، وإنما من رفاق النضال أنفسهم، والذين سعوا إلى القطيعة مع تلك التجربة الثرية والتي أثمرت خيراً كثيرأ، وتغيراً جذرياً في بنية الدولة والحكم والتفكير السياسي في عُمان المعاصرة، على عكس ما حدث في تجربة لصيقة بالتجربة العُمانية، وهي التجربة البحرينية، حيث لا يزال اليسار حاضراً في الفعل السياسي الراهن بوسائله العلنية منذ بدء فكرة الإصلاح السياسي في البحرين.
لقد سعى النظام السياسي العماني الحالي منذ قدومه للسلطة في 23 تموز/ يوليو 1970 إلى محاربة هذه الحركات اليسارية، وضربها بيد من حديد ونار في بدايات حكمه، ومواصلة تعقبها طوال أربعة عقود بشتى الوسائل الخشنة والناعمة، رغم الخدمات الوطنية الكبيرة التي قدمتها هذه الحركات للبلاد، والتي ليس أقلها التخلص من نظام السلطان سعيد بن تيمور والتمهيد لبناء دولة عصرية وفق تصورات التنمية الإنسانية الحديثة.
لقد كان حلم شباب هذه الحركات رغم اختلافها في التوجهات الأيديولوجية و الأدوات والوسائل، هو إقامة “جمهورية ديمقراطية مستقلة “، يتحقق فيها التوزيع العادل للثروة، وتعميم العدالة الاجتماعية، وتؤصل المساواة. إن هذا الحلم المشروع ما زال مطروحاً حتى اليوم، وبعد أربعة عقود من العمل والاجتهاد الذي بذلها الانسان على الارض العمانية، تبقى ذات المطالب ماثلة ومُلحة. لذلك لا يستقيم منطق مصادرة هذا الحق، مع سلوك بناء الدولة العصرية القائم ارتكازا على مبدأ المشاركة والحق فيه.
اليسار العُماني: امتنانٌ وطني بين تغييب وتشويه
إن تجربة اليسار في عمان ثرية في مسارها، متنوعة في الأطراف المشاركين فيها، بليغة في دروسها، والأهم، أنها عميقة في أثرها على حياة الناس ومعاشهم اليومي. كما أنها أثبتت راهنيتها من خلال امتدادها الأفقي عبر الزمن وحضورها الرأسي عبر الإنسان، بقطع النظر عن إحساس غالبية الناس بذلك من عدمه. فالكل يستحضر تلك التجارب مع كل احتقان اجتماعي، أو فشل سياسي، أو إخفاق اقتصادي يواجه المجتمع والدولة في عُمان.
السلطة، والناس، يقفز في مخيلتهما مباشرة تلك الأحداث، والأجواء، والأسماء، والدماء، والأفكار، والعواقب التي شهدتها المدن والجبال والسهول العمانية في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم. لنفهم أكثر، لنتعلم بشكل أقرب، لنعرف أعمق، علينا إشباع تلك المرحلة تحليلاً وحفراً ونقاشاً، وتحت ضوء شمس النهاربعيداً عن المواربة ونقاشات الأبواب المغلقة لأنها جزء مهم من تاريخنا وتجاربنا السياسية الحديثة والمعاصرة، وحجر زاوية أساسي في تراكم وعينا الجمعي.
حاول الكتاب قراءة بعض الدوافع ومسببات التكوين، ثم التعريف الموجز بالحركات محل البحث والدراسة، والوقوف على بعض عوامل الفشل والتراجع الداخلية والخارجية، وبعدها استعراض بعض الأثار والنتائج والمشتركات.
من أهم دوافع ومسباب التكوين:
- الاستبداد السياسي والانغلاق الاقتصادي
- الحرمان والإقصاء الاجتماعي
- الاستعمار البريطاني الخاص
- هجرة الشباب للعمل والتعليم
- انتشار التيار اليساري في أوساط النخب وشباب الجامعات العربية
- الوضع الدولي الملائم لتمويل أي صراع وتحويله لصالح احد معسكري الحرب الباردة
- ظهور شخصيات حكم إقليمية تقدمت بمجتمعاتها خطوة إلى الأمام
- تجريب مصداقية مداخل تقليدية للتغيير وعدم فعاليتها ( كالإمامة)
- غياب قنوات الحوار ومؤسسات التفاوض بين طرفي الصراع: السلطة والحركات الناشئة
كما رصد الكتاب في فصله الأول أهم الحركات السياسية في النضال الوطني العماني، والتي تشكلت إبان المد اليساري في المنطقة في الفترة الممتدة من منتصف الستينيات وحتى مطلع تسعينيات القرن العشرين. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ليست جميع الحركات التي سيأتي عليها الشرح تنطبق عليها شروط الحركة اليسارية، وإنما نوردها هنا لأهميتها التاريخية ولضروراتها الاجتماعية والتي شكلت، إلى حدٍ ما حواضن رئيسية لميلاد الحركة اليسارية في البلاد، خاصة إذا ما علمنا بأن القواعد الشعبية الأوسع لهذه الحركات لم تكن مكترثة بالتسميات ولا بالفواصل الدقيقة للأفكار والاشتراطات اليسارية بقدر إيمانها بأهمية وضرورة النضال من أجل وطن الحرية والعدالة والعيش الكريم.
إن الترتيب الوارد هنا يأتي وفق التسلسل الزمني لتكّون هذه الحركات، مع أهمية الإشارة إلى أن أغلب هذه الحركات هي لتنظيم واحد، تغيرت مسمياته وفق ظروف الإندماج، وبسبب إعادة قراءة خارطة التحالفات والتشبيك الحركي في ميدان النضال الوطني.
والتي من ضمنها:
- حركة القوميين العرب – فرع عُمان
- مكتب تحرير الخليج العربي وجنوب الجزيرة
- الجمعية الخيرية الظفارية
- منظمة الجنود الظفاريين
- جبهة تحرير ظفار
- الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل
- الحركة الثورية الشعبية في عُمان والخليج العربي
- الجبهة الوطنية الديمقراطية لتحرير عُمان والخليج العربي
- الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي
- الجبهة الشعبية لتحرير عُمان
- الجبهة الشعبية الديمقراطية العمانية
- حزب البعث العربي الاشتراكي
- جبهة التحرير العربية في عُمان
- حزب العمل العربي في عُمان
- منظمة المرأة العُمانية
- اللجنة الوطنية لعُمال عُمان.
يبين الكتاب في فصله الأول كذلك عوامل فشل هذه الحركات عن أداء مهامها التنظيمية، و تحقيق أهدافها النضالية، وفي انكماشها التاريخي عن استمرار نشاطها السياسي وتطوره على مستوى الحراك الوطني، فمنها الداخلي، كانت قياداتها وكوادرها السبب الرئيس فيه، ومنها الخارجي لم تكن تملك إزائه لا حول ولا قوة، خاصة ذاك المتعلق بطبيعة النظام العالمي وتحولاته المتسارعة، ومنها الذاتي ومنها الموضوعي، من أهم هذه الأسباب الداخلية:
- البنية الاجتماعية المرتكزة على الو لاءات القبلية والعشائرية والمذهبية
- غرابة أفكار الماركسية عن المجتمع كالمادية التاريخية، وريادة الطبقة العاملة، صراع الطبقات والاشتراكية واصطدامها بالتقاليد
- الخلافات الشخصية
- القرارات المتسرعة و غياب الفكر التحليلي النقدي بين أوساط القيادات
- عدم قراءة التحول السياسي بقدوم سلطان جديد
- الخلافات الفكرية الداخلية والحدة فيها
- ظهور النفط وتركز الثروة في يد الأنظمة واحتكارها له
- التصفيات الجسدية التي مورست في حق رفاق النضال
- اشتغال النظام الجديد على فكرة “كسب القلوب والعقول”
- تجريم تشكيل الأحزاب قانونيا
في المقابل، رفدت تلك الأسباب الداخلية، أسباباً خارجية لا تقل أهمية، ساهمت في إفشال مسار الحركات اليسارية في عُمان، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- هزيمة 1967
- عدم قراءة الانسحاب البريطاني من مناطق شرق السويس بشكل واقعي
- تناقص الدعم الصيني السوفيتي
- الانقسامات الفكرية الحادة في تنظيمات اليسار العربي
- تزايد الدعم الخارجي(البريطاني الإيراني الأردني) للنظام الجديد
- ظلال الحرب الباردة
- الثورة الإيرانية وتعزز التيارات الإسلامية
- الحرب العراقية الإيرانية
- انهيار الاتحاد السوفيتي
- غياب النموذج اليساري الناجح في الحكم على المستوى العربي
إن حراكاً سياسياً بهذا الزخم والكثافة في الأحداث والزمن والشخصيات، لا يمكن له إلا أن يقدم نتائج لها قيمتها اللافتة، وجذورها العميقة، لبناء الدولة الحديثة التي قامت على أعقابها. خاصة وأن عُمان كانت تشكل للكثيرين ، في ذلك الوقت على الأقل، النقطة المحورية للحركة المعادية للاستعمار في شبه الجزيرة العربية، بعد ما كانت أكثر أجزاء الجزيرة تخلفاً وسكوناً. بيد أنه كان واضحاً وكثيفاً حرص الإعلام الرسمي الموجه على تغييب تلك النتائج، ومسح أي علاقة له بما حدث، وهو تصرف غير مستغرب، فذلك ديدن المنتصر دائماً، وحيلته الأبرز على التاريخ . إن ذلك الحراك الثوري الثري والمؤلم معاً، سيظل هناك، محفوراً في كل تفاصيل اللاوعي الجمعي العماني؛ في الادارة والحكم، في الاجتماعي والسياسي والثقافي، مهما تغاضينا عنه، أو طُمست معالمه وفق إجتهاد شخصيات في السلطة، لا تريد للاجيال الحالية تذكيرها بدورها، او تقييمها، للوصول إلى الايمان بفكرة الوطنية، والتي لا تمر إلا عبر الاعترافات الصادقة بالدور، والمهام، والدماء التي قدمت للوطن الحلم، وللوطنية المتوخاة في الممارسات والسلوك. لأجل ذلك أرى من الاهمية إيراد بعض من نتائج ذاك الحراك، للمستقبل، كون أن هذا المستقبل لن يمر تحققه إلا من بوابة معرفة الماضي، بكل ما فيه، خيباته قبل انتصاراته، إنكساراته قبل إنجازاته.
من تلك الأثار والنتائج التي حققتها تلك الحركات ما يلي:
- التخلص من حكم السلطان سعيد تيموروإعادة الثقة الوطنية في التغيير
- إعادة تشكيل الوعي الوطني
- التأكيد على الوحدة الوطنية وتعميق عروبة عُمان
ثانياً: قراءة في نشاط الحركات الإسلامية العمانية
يسلط الفصل الثاني الضوء على بعض الحركات الاسلامية العُمانية التي تعالقت مع السلطة في العقود الاربعة الماضية، حيث يؤكد الباحث على أنه منذ القرن الثاني للهجرة، الثامن الميلادي وعُمان تعيش حراكا دؤوبا – محوره الدين وفهم أبعاده وعمقه – للبحث عن الصيغة المناسبة لاستقرارها ونمائها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. حيث شكل العام 132هـ/ 750م وهو تاريخ الثورة التي أشعلتها الحركة الاباضية على الدولة الأموية الإعلان الأول عن الإمامة المستقلة الأولى، والتي انتخب فيها الجلندى بن مسعود إماما للبلاد . مذاك وعمان في سلسلة من الأحداث الهادرة بالسياسة والتاريخ والجغرافيا؛ ففي العام 795م بدأت إمامة (بني خروص) والتي استمرت حتى 890م؛ حيث دخلت البلاد بعدها تحت حكم (النباهنة) لفترة امتدت 500 عام تم تداول الحكم فيها بالوراثة، حيث عانت عمان الكثير من النزاعات القبلية كما تميزت هذه الفترة بالقوة والاستبداد؛ وانتهى حكم النباهنة بالحرب الأهلية؛ وتسببت في إيجاد فراغ في القوة استفاد منه البرتغاليون والذين بسطوا نفوذهم على ساحل عمان قرابة مائة عام. حتى جاء العام 1624م والذي تم فيه انتخاب إمام قوي وهو ناصر بن مرشد اليعربي والذي نجح في توحيد البلاد من جديد وطرد المستعمر الخارجي، واستمرت قبيلته (اليعاربة) في حكم عمان إلى العام 1719م بعدها دخلت البلاد في حرب أهلية أخرى بين الهناويين والغافريين مما أفسح المجال للفرس لاحتلال عمان؛ إلى أن قام أحمد بن سعيد البوسعيدي والي مدينة صحار بطرد الفرس؛ مما شجع عدداً من العلماء من أهل الحل والعقد في ذلك الزمان إلى انتخابه إماما في العام 1753م؛ وبذلك بدأت سلالة جديدة هي (البوسعيد) في حكم عمان مستمرة حتى هذا اليوم بوجود قابوس بن سعيد سلطاناً على عمان منذ العام 1970م.
دراسة موضوع الحركات الإسلامية في عمان من عام 1970 وحتى 2010م وفي هذا الوقت؟ له دوافع موضوعية شجعت الباحث على الاقتراب منه رغم التحديات الكثيرة والصعوبات المتنوعة التي اكتنفت وتحيط هذا النوع من الموضوعات الشائكة والاشكالية في مجتمع محافظ، للسلطة المركزية فيه الكلمة الفصل، وللشخصية الفردية تحفظاتها المعقدة[1]. أضف إلى ذلك ندرة المصادر المكتوبة والمعتمدة لأي باحث موضوعي حريص على سبر أغوار هكذا ظواهر وتتبع تأثيراتها على الإنسان والمجتمع.
ولذلك تبرز مجموعة من الدوافع المتحدية لما سبق من عراقيل تستحق هذه الدراسة وتستوجبها؛ من ضمنها:
أولاً: أن موضوعها من الموضوعات السياسية المسكوت عنها؛ إما رهباً من سلطة، أو رغباً في تناسي الجراح من قبل منتسبي هذه التنظيمات، وبينهما عموم من الناس لا يعرف مع أي الفريقين الحقيقة.
ثانياً: تحاول الدراسة رصد تفرد التجربة؛ فالحالة العمانية متفردة كونها تضم تنوعا وثراء مذهبيا من النادر أن تجده متعايشا بسلام، ويتمتع بهدوء نسبي على الأقل، كما أن فيه من الاحترام والتقدير ما هو لافت؛ فعمان تتميز بوجود مذاهب إسلامية عدة وهي: الإباضية والسنية والشيعية، قلما تجدها تتعايش تحت سماء وطن واحد في العالم العربي. والمهم أن هذه المذاهب الثلاثة تشاكل جميعها مع السلطة المركزية بطريقة أو بأخرى.
ثالثاً: تسعى الدراسة لأن تكون قراءة أولية لتأكيد حراك المجتمع في عمان وتفاعله الحي مع قضايا محيطه الإقليمي وعمقه القومي؛ رغم محاولات عدة لفصله عن ذاك العمق، وإعادة تشكيله فكريا وإجتماعيا بعد عقود من العزلة، والقطيعة المعرفية عن ما يدور حوله. والحراك المقصود هنا؛ مؤشر حيوية وأصالة؛ حيوية نابعة من طبيعة المكان العماني المفتوح على البحار والمحيطات الحاضنة للتبادل الحضاري على امتداد العصور. وأصالة منبعها الانسان العماني؛ المتشبث رغم التحديات بجذوره وأصوله، وحرصه على صياغة هويته الخاصة والتي لا تمثل أحداً إلا هو؛ الاسلام محوره، والعروبة روحه، والوطن منتهاه.
تشكلت الحركات الإسلامية في عمان؛ للحكومة الكلمة الأولى والفصل في كل شأن من شؤون الحياة والإنسان في عُمان. كما وجدت طريقها للتأسيس ذاتيا في ظروف صعبة سعت الحكومة خلالها بكل أجهزتها إلى تغييب التيارات السياسية يسارية كانت أم يمينية، وحرصت على عدم السماح بتكون أحزاب سياسية بشكل طبيعي؛ بل عملت على التخويف منها وتجريم تشكيلها[2]. كما أن مفهوم مؤسسات المجتمع المدني بشكلها الحديث لم يكن قد تبلور اجتماعيا بعد. يسلط الكتاب الضوء على ثلاث حركات إسلامية، بحسب التسلسل الزمني لظهورها هي: الشيعة الشيرازية، تنظيم الاخوان المسلمين، والتنظيم الاباضي. إذ تشكل هذه الحركات أبرز التنظيمات الاسلامية التي أطلت برأسها على المشهد السياسي العماني في السنوات الأربعين الماضية.
ومن واقع المقابلات الشخصية المباشرة التي أجراها الباحث ( بصعوبة) مع بعض قياديي هذه التنظيمات، ومما توفر من مصادر نادرة أمكن إيراد بعضاً من المشتركات العامة التي تجمع الحركات الإسلامية العمانية محل الدراسة (،الشيعة الشيرازية، تنظيم الاخوان المسلمين، والتنظيم الاباضي) والتي توزعت على المذاهب الثلاثة. حيث نرى أن هذه المشتركات أثرت على مسار هذا النشاط سواء على مستوى النشأة والتأسيس، أو على مستوى المنطلقات الفكرية والسياسية، أو على مستوى البنية التنظيمية والمؤسسية، وأخيرا على جدلية العلاقة مع السلطة المركزية. والتي يمكن أن نوجزها في الآتي:الخوف على المذهب، وتأثير العامل الخارجي، وبطء تفاعل المجتمع مع الفكره الحركية، وغياب الأدبيات المكتوبة، والسرية المُعطِلة، مع حدة تعامل السلطة المركزية في مواجهتها.
ثالثاً: قراءة في معوقات المجتمع المدني في عُمان
قفز موضوع المجتمع المدني إلى دائرة اهتمامات الرأي العام في عُمان مع مطلع الألفية الثانية حيث راج استخدام المصطلح إعلاميا وسياسيا وثقافيا بشكل ملحوظ، عاكسا تزايد التطرق له في الأحاديث الخاصة، وفي الحوارات العامة، كموضوع حان الالتفات له وتفعيله بشكل صميم. وأصبح مفهوم المجتمع المدني محل بحث وتنظير، وأضحت استحقاقاته تستوعب وتثمن أكثر فأكثر كاستحقاقات أساسية، ليس من حيث الإسهام في التنمية الوطنية فحسب، بل أيضا، في النسق نفسه، في إثراء مفهوم المواطنة وتعضيده من خلال تفعيل إسهامات المواطنين، من مختلف مواقعهم في المجتمع المدني، في بناء الصرح الوطني.
قبل ذلك، وطوال العقود الثلاثة السابقة، منذ 23 يوليو 1970 حتى مقدم القرن الجديد، وريثما تستوفي البنية التحتية ويعلو الصرح المعرفي في البلاد، ظلت القناعة العامة مستقرة في الإكتفاء بترك مهمة التنمية الوطنية في كافة أبعادها موجهة من داخل الإطار الرسمي، مكتفية باجتهادات الحكومة وحدها، ومدفوعة بجهود المسؤولين فحسب.
تجدر الإشارة أيضا أن استشعار العمانيين بأهمية بلورة مفهوم المجتمع المدني في الوعي الوطني، ومن ثم العمل على تفعيل استحقاقاته في الحياة الوطنية، جاء بشكل طبيعي، بمعنى أنه جاء في سياق تطور دائب منذ بداية نهضتهم الحديثة نحو استكمال جميع عناصر الدولة المعاصرة، واستيفاء جميع مكونات المجتمع المعاصر المنفتح حكومة وشعبا على خبرات الأمم. من هنا لم يقف النظر العماني طويلا عند كون مفهوم المجتمع المدني في توصيفه الحديث جديدا عليه، كما أنه لم يعبه كثيرا بعثرات هذا المفهوم وتطبيقاته في خبرات مجتمعات ناهضة أخرى. عكس ذلك، أدرك المجتمع العماني أن جوانب مشهودة من هذا المفهوم مألوفة في خبرته التاريخية، واعتبر أن التفاوت في مدى نجاح محاولات الشعوب في استقدام الأوفق والأرقى في حياتها الوطنية المعاصرة أمر يمكن تفهمه من خلال إرثها التاريخي من جهة، وتطلعها المستقبلي من الجهة الأخرى.
و لعل من غرابة التجربة العمانية هو تشكل مؤسسات مجتمعها المدني خارج رحم السياسة وإهتماماتها وإنشغالاتها وتطلعاتها. إلا أن الجدلية المعروفة و المتبادلة التأثر والتأثير بين الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني، و لو بشكلها المعكوس هذا، لربما سيساعد على تعزيز وسائل الوصول للديمقراطية التي تنشدها أجيال هذا البلد العربي المتكئ على إرث ثّر في تقاليد الحكم، والسياسة، والتي اختمرت في خبرتها الوطنية، التفاعل مع أكثر الشعوب العربية تنوعا في الاصول والأعراق، سواءً على مستوى التاريخ أو الجغرافيا.
لا يمكن إصدار أي تقييم منصف لمؤسسات المجتمع المدني العاملة في عُمان لأسباب تتعلق بعوامل كثيرة منها أعمارها الزمنية من جهة ، وطبيعة النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد من جهة أخرى، فعامل الزمن مهم للحكم على هكذا مشروعات، بالإضافة إلى أن طبيعة النظام السياسي و الظرف التاريخي الذي ظهر فيه له تأثير لا يمكن أن يغفل ؛ فكما للزمن ضروراته لنضج الأفكار وتمايزها ؛ فإن للنظام السياسي العماني المتبني لنظام دولة الرفاهة، والماسك بجميع تفاصيل المشهد؛ انعكاساته على كل مفاصل المجتمع. ففي وسط عاش فيه المواطن وتربى على أن الحكومة عليها كل الواجبات التأسيسية بل عليها الدعم والرعاية والمراقبة أيضا ، أثّر ذلك سلباً على طبيعة سَير و نمو هذه المؤسسات، إذ سلبها الاستقلالية التي يجب أن تشعر بها ، وزرع الاتكالية في نفوس فئات كثيرة من أعضائها .
نعم في الجانب المقابل هناك إيجابيات لا يمكن إنكارها من قبيل وضع لبنات العمل المؤسسي بمفهومه الحديث، إلا أنها وحتى هذه النقطة ، فإن الحكومة في مرحلة إنشغالها ذاك، لم تترك المجال لبناء ثقافة رصينة جادة للعمل المدني عموما ولم يَذكر خطابها الإعلامي أو يّذّكر بأهمية وجود دور مؤسسات المجتمع المدني من البدايات.
إضافة إلى مخاوف واضحة من قِبل الحكومة لإعطاء الاستقلالية لهذا الجهد تحت حجة أن المجتمع لم يبلغ سن الرشد بعد. بل أكثر من ذلك، ظلت الحكومة وإلى وقت قريب قلقة من المطالبات الاهلية بتشكيل المؤسسات المهنية والنقابات العمالية، إذ أن قيام هذا النوع من التنظيمات سيفتح الباب واسعاً أمام مطالبات سياسية لا ترغب السلطة في توفيرها في هذا الوقت، بل ترى في ذلك زعزعة للأمن والسلم الوطني والذي كان مبررا كبيرا وواسعا لتأخير كثير من المطالبات المدنية المشروعة. فهذا مسؤول عماني يعلق على عدم وجود جمعيات مهنية:” السماح بقيام جمعيات مهنية يحتاج لقرار سياسي،ثم أننا لا نشعر في الوقت الحاضر بحاجة لها أو مؤهلين للسماح لمثل هذه المؤسسات بالعمل عندنا” .
صحيح أن الوضع تغير قليلا في الفترة الأخيرة وتم السماح لتلك الانواع من المؤسسات والنقابات العمالية بالانتظام والتشكل ( ولوأنها جاءت أيضا من قمة الهرم السياسي والاجتماعي) ؛ إلا أن الصورة القابعة في الخلفية الذهنية ما زالت لم تبتعد كثيرا عن تلك المقولة آنفاً، والتي تعبر عن صعوبة تقبل مؤسسات مجتمع مدني حرة وذات نفوذ وتأثير، والتعايش معها تحت سماء واحدة.
ما حصل على أرض الواقع هو أن المُخطِط اعتقد أن المحصلة التي سيصلها المجتمع بالضرورة بعد عقدين أو ثلاثة من الزمن هي عبارة عن مؤسسات طيعة وفي ذات الوقت مستقلة ومسؤلة تعينه على أداء واجباتها في ميادين التنمية وتكفيه مؤنة القطاعات التي تمثلها بالطريقة التي خُطط بها و لأجلها.
إلا ان شيْ كهذا لم يحدث وهي نتيجة طبيعية لأن” المجتمع المدني دون سياسة وخارج المعركة من أجل الديموقراطية هو عملية إجهاض” . ولأن المطالب من قاعدة الهرم الاجتماعي والنابعة من الاحتياج إليه والعمل بجد لتحقيقه شيء، والمنح والاعطيات والمكرمات الممنوحة من رأس الدولة شيء أخر ومختلف تماما. لا يمكننا الزعم بأن المحصلة ستكون ذاتها، ولا الاثر الذي ستحدثه هذه المؤسسات هو ذات الفعل الذي تحفره في البناء الاجتماعي تلك التي ولدت من رحم الكفاح والنضال والتضحيات بأشكالها الانسانية المختلفة.
كما لا يمكن إنتظار ثمار بلا بذور و من دون عمل جادٍ مضنٍ، فالمجتمع المدني ثمرة الديمقراطية وحقوق المواطنة، ونتيجة لعمل دؤوب في تأصيل حكم القانون،وتعبيرصادق وعملي عن أحلام المساواة والعدل.
لذلك ما الفائدة من التذكير بأهمية شراكة المجتمع المدني ولا توجد ثقافة حاضنة لما يسمى بالحقوق المدنية؛ ما الفائدة من التذكير بأهمية شراكة المجتمع المدني في ظل غياب فكرة ان المجتمع قائم على تعاقد بين الحاكم والمحكوم. وما الفائدة من هذه المنظمات في ظل فصلها عن مؤسسات برلمانية تملك قرار التشريع والمحاسبة والرقابة. وما هي القيمة من هذه المؤسسات في ظل فك إرتباطها بمهام أساسية من قبيل: الشفافية، ومكافحة الفساد، وتفعيل ثقافة المساءلة، وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان.
ففي الوقت الذي اعتاد فيه الناس على عدم المسير وبشكل طبيعي بعيدا عن رعاية مؤسسات الحكومة ودعمها، لا يمكن ان يقطف المجتمع ثمار ما يحلم به من شجرة المجتمع المدني. وليس أدل على ذلك من مطالبات البعض اللحوحة بالاستقلالية وفي ذات الوقت يطالب الحكومة بواجب الدعم المالي دون أن ينتبه بأن صاحب التمويل هو صاحب القرار. بالإضافة إلى ما سبق فإن هناك العديد من المعوقات الأخرى تجابه المجتمع المدني العماني نحدد منها على سبيل المثال لا الحصر
تضييقات التشريعات والقوانين، الاعتماد المباشر على المؤسسات الحكومية، العزوف من بعض الفئات الواعية والشابة، قلة الخبرة في التعاطي مع إدارة المؤسسات، ضعف القدرات الفنية لبعض المتطوعين، شح الدعم المالي والفني والعيني، عدم رسوخ وشيوع ثقافة العمل التطوعي، شيوع النغمة النفعية في المجتمع، غياب الرموز والقدوات، ضعف التغطية الإعلامية لبرامج وأنشطة هذه المؤسسات والتوثيق لها.
رابعاً: قراءة في الحراك الشبابي العُماني
عاشت عُمان حركة احتجاجية مكثفة في الفترة من مطلع فبراير/ شباط وحتى منتصف مايو/ آيار 2011؛ شهدت فيها البلاد تخلقا جديدا على مستويات عدة؛ سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وفي الوقت الذي يرى البعض أن انطلاق الاحتجاجات في “السلطنة الهادئة” يعد أمرا مفاجئا للمراقبين ولدول الجوار الخليجي وحتى لنظام الحكم في البلاد، إلا أن هذا الحكم العام لا يعدو كونه فهما تسطيحياً لطبيعة شعب وثيق الصلة بالثورات والحراك الاجتماعي والسياسي لما يتمتع به من ميزات جيوسياسية فرضتها عليه ظروف الجغرافيا، والتاريخ والثقافة.
صحيح أن البلاد مرت بفترة “استرخاء اجتماعي وسياسي” منذ القضاء على المعارضة المسلحة ممثلة بالجبهة الشعبية لتحرير عمان في أواسط سبعينيات القرن الماضي. إلا أن ذلك لا يعني أن الإنسان العماني ظل ساكناً مغيباً عن تشكل وعيه السياسي؛ بل عاش مراقباً، مقيماً، وشريكاً فاعلاً في جهود التنمية والتعمير التي وعده بها السلطان قابوس في خطابه الأول بأنه سيعمل” بأسرع ما يمكن لِجَعْلِهم يعيشون سُّعَدَاءِ لمستقبل أفضل” . وتعهد ” بالعمل الجاد على تثبيت حكم ديمقراطي عادل لبلادهم”. كما أنه ليس بغريب على العمانيين وهم الذين اهتموا باكرا بالعلاقة بين الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي الاشتغال بإصلاح أنظمة حكمهم، والتمرد على كل فكرة تحاول أن تصيبهم بالجمود والتأخر أو حتى التنكر وعدم احترام خبرتهم التاريخية، وهم الذين خبروا تمدد دولتهم وما يحمله ذلك التمدد الامبراطوري من إيجابية في مجموع الخبرة السياسية وإدارة الحكم لإثنيات وأعراق وطوائف ومذاهب مختلفة. وما يصطحبه من انكماش أيضا عندما يرجع إلى المربع الأول من الموارد الطبيعية المحدودة أصلا؛ وما تثيره هذه المحدودية من صراعات وحروب وخلافات أرهقت البلاد واستنزفت طاقاتها زمنا ليس بالقصير.
اللافت في هذه الاحتجاجات – خلافا للثورات الشعبية التي عمت تونس ومصر وليبيا وغيرها من الدول العربية- أنها لم تتطرق إلى شعار “إسقاط النظام”، بل اقتصرت على المطالبة بالعدالة الاجتماعية وتحسين الأحوال المعيشية وإجراء إصلاحات سياسية من بينها حل مجلس الوزراء الحالي ومحاربة الفساد ومحاسبة الوزراء، وإصلاحات دستورية جذرية تضمن الحريات العامة كحرية التعبير والتجمع وتكوين النقابات والجمعيات، والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وهي مطالب ما فتئ العمانيون يطالبون بها حكامهم سلاطين وأئمة منذ قرون.
هناك ثلاث أزمات رئيسة، كانت ضاغطة على الإنسان العماني، متراكمة ومتراكبة عليه منذ سنين. وتلك الأسباب شجعته بصورة علنية ربما لأول مرة في التاريخ العماني المعاصر إذا استثنينا مظاهرات مدينة مطرح العمالية في مطلع سبعينيات القرن الماضي والتي ساهمت في إسقاط أول وآخر حكومة يرأسها شخص غير سلطان البلاد الحالي[3].إن هذه الأسباب دفعت بالعماني إلى كسر حواجز الخوف والتردد، وحفزته طبيعيا للمجاهرة بصوته وإصراره على المطالبة بحقوقه، والخروج إلى ساحات الاعتصام وتأسيس منتدياته الحرة فيها. رغم وجود دوافع أخرى متعددة؛ إلا أن هذه الثلاثة كانت الأبرز وكثيرة التداول بين عموم المواطنين والنخب المتخصصة قبل حلول ربيع الثوارات العربية، بيد أنها لم تلاق من الحكومة العمانية الأذان المصغية والحلول العميقة والمباشرة، وإن صادفت ذلك فكانت تتعامل معها بطريقة المطمئن المتعامل مع النتائج وليس الأسباب. وهذه العوامل هي التعليم والتشغيل والمشاركة السياسية التي ما فتئت تشكل أزمات ظل النظام السياسي العماني يتعالق معها بمسكنات وقتية، وظن أنه يحسن صنعا في إدارتها. بينما في حقيقة الأمر كان يُقّتر على الأولى (التعليم) ، ويُقلل من الثانية (التشغيل)، ويؤجل الثالثة (المشاركة السياسية) لحين بلوغ سن الرشد للمجتمع وفق رؤيته ومعاييره غير المعلنة ولا المقنعة.
يفصل الفصل الرابع هذه الأزمات/ الأسباب لإدراك المشهد العماني الراهن؛ كما يأتي على وصف طبيعة النظام والحال السياسي، وواقع النظام الاقتصادي والاجتماعي وخاصة لفئة الشباب الذين كانوا وقود حركة الاحتجاجات والاعتصامات التي أيقظت البلاد.
في الخلاصة
بالرغم أن سنتين ليستا بالمدة الطويلة الكافية لتتبع آثار وعواقب تلك القرارات التي اتخذها النظام السياسي إبان الربيع العُماني وتقييمها على بنية النظام السياسي والاقتصادي في عمان بعمق تحليلي له وزنه على الواقع، إلا أن هناك بعض الملاحظات الختامية التي نرى من خلالها إجمال هذه المرحلة:
- أنجز الشباب العماني مهمته بنجاح عندما استثمر الظرف التاريخي للتنبيه عن كوامن الخلل عند السلطة المركزية وأوجه القصور التي تعانيها الدولة في هياكلها التنظيمية وبنيتها الأساسية، وقبل ذلك أهدافها السياسية والاقتصادية.
- تبين بالتجربة العملية الحاجة لمؤسسات دولة تواصل نضال الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي الشامل، وإلا فإن الأمر لن يغدو أكثر من فورة عابرة لن يصل أثرها أعمق من السطح.
- أوضحت التجربة كذلك استمرار القبضة الأمنية على مفاصل الدولة، وعدم ثقة هذه الأجهزة في قيام السلطات التشريعية والقضائية بمهامها الطبيعية، والتعلم من أخطائها وتجاربها، الأمر الذي ولد خللاً بنيوياً لا يمكن إخفاؤه عند تقييم المشهد السياسي العماني المعاصر.
- لا يمكن لفكرة النمو الاقتصادي أن تقدم حلولا فاعلة وعميقة للمجتمع والدولة في عُمان. ويبدو أن التنمية الإنسانية الحقيقة والشاملة هي التي تحتاجها البلاد في راهنها ومستقبلها القريب، خاصة الجوانب المتعلقة بالتعليم والعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة والتصدي لإشكالات الفساد الإداري والمالي بمزيد من سلوكيات وتشريعات المحاسبية والرقابة والشفافية التي هي باختصار مباشر التطبيقات العملية للديمقراطية والتي، لسوء حظ الأنظمة السياسية، الضامن الوحيد والمجرب لاستمرار الأمن الإنساني والسلم الوطني والوئام الإجتماعي.
- ينبغي التفريق، بين تنازلات تكتيكية يقدم عليها النظام لوأد أي حركة احتجاجية، ما يلبث أن يتراجع عنها، وبين إصلاح سياسي حقيقي.
حيث كشفت التجربة بعد أحداث الربيع العربي أن الأنظمة السياسية في الخليج لا تملك الإرادة ولا المقدرة بحكم طبيعة تكوينها، للانتقال إلى مشروع إصلاح سياسي حقيقي، إذ أن ذلك رهن بأمور كثيرة، لها علاقة ببنية هذه الأنظمة وطبيعة توجهاتها السياسية والاقتصادية، وموقعها في الخارطة الاجتماعية، وارتباطاتها الإقليمية والدولية.
وأخيراً وليس آخراً، فإن عُمان اليوم تقف على مفترق طرق تاريخي، حيث الشعب قال كلمته، قدر استطاعته، والسلطان تفاعل مع مطالب الناس، قدر خبرته وفهمه لطبيعة الحكم الذي أسسه. إلا أن الجيل الجديد في عمان لن يكتفي بالمراقبة والتفرج هذه المرة إذ أنه أصبح يمتلك أدوات التغيير وتوقيتاتها أكثر من ذي قبل. كما أصبح أكثر حرصاً على بناء دولة راسخة الأركان في معمارها الدستوري والسياسي والاقتصادي.
ولأن الشعب في عمان يريد الحياة فان الزمن العربي الراهن بكل ثوراته، وثرواته الإنسانية، ونهضته من سبات الاستبداد والظلم، يغذي هذا المطلب، ويمنحه شرعية تاريخية لا يمكن لعاقل أن يتجاهلها، كما لا يمكن لحصيف أن يقزمها. وعندما يريد الشعب فليس من قوة تقف أمام ما يريد.
[1] جميع المقابلات الشخصية التي سيجدها القارئ الكريم في هذا البحث، بدون أسماء وذلك لاشتراط الفاعلين في هذه التنظيمات على عدم ذكر الأسماء والمراتب التنظيمية.
[2] تنص المادة 134 من قانون الجزاء العماني: (يحظر تأليف الأحزاب والمنظمات ذات الأهداف المناهضة للنظم الأساسية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية في السلطنة). كما نصت المادة 5 من قانون الجمعيات الأهلية: ( يحظر على الجمعية الاشتغال بالسياسة أو تكوين الأحزاب أو التدخل في الأمور الدينية وعليها أن تنأى عن التكتلات القبلية والفئوية…)
[3] الوزارة الأولى( 1971 -1972) التي كان يرأسها السيد طارق بن تيمور عم السلطان قابوس.