حزمة ملاحظات حول الإلحاد في عمان

كتب بواسطة حسين العبري

كان يمكن لهذا المقالة أن نتخذ عناوين كثيرة غير العنوان الحالي، منها: ظاهرة الألحاد في عمان، أو حتى: ظاهرة الإلحاد في العالم العربي، لكن ذلك سيكون ضربا من التكهن، أو الحرث في أراض مجهولة. وكلمة: ظاهرة، تستدعي شروطا معينة لا أظن أننا نمتلك الدليل على توفرها فيما يتعلق بفكرة الإلحاد أو بممارسة الإلحاد. بالتالي قد يبدو المنطق في صفنا أن نحدد مقالتنا بعمان لإحكام القبضة على الموضوع المدروس؛بحيث يمكننا أن نرى عيانا ما نناقشه،أو نتفهم بعض أبعاده؛ ذلك لأن المجتمعات العربية الأخرى لا شك أن لها مقوماتها البعيدة عنا نسبيا مع اشتراكها بالطبع في المقومات العامة التي تشارك في وجود الإلحاد وانتشاره في أي مكان. من المنطق أيضا أن نلغي كلمة: ظاهرة، بما قد توحيه من دلالات إحصائية غير متوفرة. لا يجب مع هذا أن يطوح بنا شططنا وحماسنا بعيدا فنفكر أنه باستطاعتنا الإحاطة بما يعتمل في عمان بأكملها؛ فالموضوع بحد ذاته موضوع إشكالي بامتياز، ويلاقي صعوبة في الظهور على سطح الوعي الجمعي لشدة الدلالات السلبية المرتبطة به.

وأمر تبدي الإلحاد على السطح في عمان والمقاومة التي تعمل ضده لكبته هي من خصائص المجتمع التي تجعل التكلم عنه في مجتمعات أخرى بعيدة أمرا صعبا أو بعيدا عن المقدور عليه. لكن إن كان المجتمع يقيم كل هذه المقاومة لكبت الإلحاد، أو كبت ظهوره على السطح، فكيف حدا بنا أن نقدّم الموضوع للدراسة، بل وكيف عنّ لنا أن نفكر بدراسته كظاهرة؟ أتوقع أن الجواب على هذا السؤال ينبع من وجود تقنيات التعبير المباشر التي كانت حكرا فيما مضى لقيود المؤسسة الحكومية والدينية. على هذا فلا يبدو الإلحاد في نظرنا أمرا جديدا في المجتمع، بل إن تقنيات التعبير عنه تغيرت وتبدلت باتجاه الشيوع. بالطبع لا يعني هذا أنّ تبدل تقنيات التعبير لا يؤثر هو الآخر في انتشار الإلحاد أو في مقاومته أو التعامل معه بالتفكير والفحص. فالتعبير عن الإلحاد يجعل التعريف به أمرا واردا، حتى حين التعريف به بشكل سلبي، أي ببيان عواقبه ومخاطره وإبداء الرغبة في التصدي له.

قد يبدو للقارئ من السطور المتقدمة المنهج الذي تتبعه هذه المقالة في التفكير في موضوع الإلحاد، فبداية: تبدو مقاربتنا نفسية، وتعمل على انتهاج مبادئ التحليل النفسي، وثانيا: فإنها لا تقيم حكما، أي لا تمنح الإلحاد صفة سلبية ولا إيجابية. وقد قدمنا صفة السلبية هنا لأننا تعودنا حين قراءة مقالات عن موضوع الإلحاد أن يقدم الإلحاد بصفته السلبية. وطبعا مما لا شك فيه أن الحكم بالسلبية على الإلحاد في بعض المقالات المطروحة في الساحة اليوم قد لا يتأتى كله من الأيديولوجيا التي تتحكم بكتّاب هذه المقالات فحسب، أو بكلمة أخرى: اسقاطاتهم النفسية والفكرية على الموضوع الذي يثير حساسيتهم النفسية قبل الفكرية، بل إنه يتأتى أيضا من الاعجاب بالفكرة. ودعوني أوضح هذه النقطة المهمة هنا: فليس الكلام عن الإلحاد بصفته السلبية في بعض المقالات دلالة مؤكدة على نبذ الفكرة والتصدي لخطرها، بل يدل أحيانا على لذة الفكرة وجاذبيتها للكاتب. هؤلاء الكتاب إنما إذن، في جزء منهم على الأقل، يغلّفون اجتذاب الفكرة لهم بأغلفة تبدو للوهلة الأولى أنها تُقوِّم الفكرة بشكل سلبي وتصفها بالعطالة. يبني كتّاب آخرون أغلفتهم هذه بطريقة أخرى، يمكننا أن ندعوها بـ:التغليف المدرسي أو الجارجوني أو بتعبير أكثر حماسا ومرحا وأقرب إلى الروح العمانية: التغليف العسقي. أي أنهم يناقشون الفكرة متخذين من المنهجية المدعاة، أو المصطلحات العائمة والغائمة، أو حتى بالمصطلحات المباشرة والدقيقة، يتخذون منها درعا لهم في اتقاء ما يمكن أن يعلق بهم أو يُعلَّق عليهم، من مآخذ في تعاطي الفكرة ذاتها. لكنّ طريقة التغليف الثانية هذه: العسقية، إنما تتضح في كتابات مختلفة كثيرة حول مواضيع كثيرة، بالتالي فهي ليست خاصة بالكلام عن الإلحاد، وربما تحتاج إلى وقفة تأملية نفسية وفلسفية لسنا بصددها هنا. أما طريقة التغليف الأولى فهي التي تلتصق بموضوع الإلحاد وتختص به كونه موضوع له دلالاته السلبية عند الوعي الجمعي.

لنعد الآن إلى موضوعنا المباشر: الإلحاد. وربما يثيرنا الأمر بداية لنسأل: لماذا يقوم البعض من الأشخاص بإظهار الحادهم على الملأ، أو حتى عبر أسماء مستعارة، على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وفي المنتديات الإلكترونية؟ أو بتعبير آخر: ما هي الأسباب التي تدفع هؤلاء لإظهار ما يكنونه من إلحاد علانية في مجتمع يعج بالذين ينحون مناح أخرى في مسائل الدين؟ لكن قبل هذا بالطبع يجب أن نسأل السؤال الأكثر عمقا وهو: لماذا يلحد هؤلاء أصلا؟ وربما لنكون أكثر منهجية علينا أن نعرِّف معنى الإلحاد الذي نعنيه هنا؟ ولا يبدو لي أن الألحاد، في الشائع من معانيه، هو رفض وجود إله للكون فحسب، بل يحتوي في طياته،حسب الاستعمال الدارج في المنتديات الإلكترونية، أبعادا أخرى أو مواقف أخرى من الله والكون والحياة. هكذا إذن نقيم هنا تحديدا ثالثا مهما للمناقشة وهو: إن الالحاد المناقش عادة ليس الإلحاد القاموسي الذي يعرف بالتفكير بانعدام وجود إله للكون. بل يدرج فيه مواقف أخرى تشمل: إلغاء المذهبية إلى التدين بلا مذهب إن صح التعبير، والإيمان بوجود إله لا يكون شخصيا، أو لا يكون بالطريقة التي يقدمها الدين الإسلامي الذي هو دين المجموع في عمان، ولنكن أدق: فيبدو أن الإلحاد هنا ليس إلحادا بمعنى عدم وجود إله بل بمعنى الاختلاف عن التفكير الإسلامي التقليدي المتخذ عبر مذهب معين أسلوبا معينا في التفكير والحياة. اي أن كلمة الإلحاد المستعملة عادة في المضاربات حول ما هو حق وما هو باطل، إنما تعني شيئا أبعد عما هو الألحاد في المعنى الدقيق من التفكير في انعدام وجود إله للكون، بل تشمل أيضا إضافة إلى هذا الموقف المتطرف جدا مواقف أخرى من قبيل: أنا أباضي أو سني أو شيعي لكني لست أباضيا ولا سنيا ولا شيعيا، وموقف: أنا مسلم ولست أباضيا ولا سنيا ولا شيعيا، وموقف: أنا موحد لكني لست مسلما، وموقف: هناك إله لكن لا أعرفه، أو: أشك في وجوده. وطبعا قد يبدو هذا التعريف مبالغا فيه أو فضفاضا في اتساعه ولا يخفى عواره البين. فلماذا لا يختصر الأمر ويستبدل بكلمة الإلحاد كلمة أخرى أكثر مناسبة من قبيل: الدين اللانمطي، أو التدين اللا نمطي، أو الدين المختلف، أو الاختلاف الديني؟ بالطبع إن هذا التساؤل في محله  فلاحجة لنا لاتخاذ الكلمة، أي الإلحاد، محلا لجميع هذه المواقف. مع هذا لا يجب أن ندرس الإلحاد من وجهة النظر المنطقية أو كما يراها الدراس من عل وعبر مواقف محددة، بل عبر ما ينتشر عند الجماعة أو العقل الجمعي. ولا أدل من أن نقول هنا أن الخروج عن الدائرة التقليدية للتفكير الديني في مجتمعنا يدخل الفرد مباشرة ومن غير تمحيص في دائرة (أو فضاء) الإلحاد. ولذا وحتى إن كانت الكلمة هنا خاطئة في الوصف فهي صحيحة بالشيوع. ولن يكون من غير المناسب هنا أن نستدل بمثال قادم من الصراع القائم بين أتباع المدرسة العقلانية العمانيين وبين قطب من أقطاب المدرسة الدينية التقليدية، فها إن الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة يصف هؤلاء بعملاء اليهود والصهيونية. هكذا إذن يبدو الخروج خطوة واحدة عن النمط التقليدي بداية لـ”التدحرج باتجاه الإلحاد”. هكذا إذن إن كان الدين هو الدرجة الأولى الأعلى في السلم فإن الإلحاد هنا هو كل الدرجات المتبقية حتى درجة الحضيض التي ينطبق عليها تعريف الإلحاد القاموسي. لكن لا يجب أن ننسى هنا أيضا أن الذين يقفون في درجات أخرى غير الدرجة الأولى لا يرون انفسهم ملحدين، بل وربما يرون في موقفهم الدين الصحيح؛ فقد بنى التقليديون درجة أعلى في السلم وقالوا عنها أنها الدرجة التي هي الموقف الأصح من الدين. عليه لا ينبغي للدراسة التي نحن بصددها إلا وضع الخط الفاصل لمعنى الإلحاد في درجة منخفضة من السلم.

لماذا إذن يرغب عدد هائل من المدردشين في مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات الالكترونية في الالحاد هذا، بشكله المتطرف بل ويعلنون عنه أيضا، مع أن هناك متسع كبير لمواقف شتى من الفكرة الأصل، ومع أن هناك قدرة على انتهاج الأفكار بشكل سري أو بشل مخاتل؟ يعلق بعض الكتاب الدارسين للإلحاد أن الإلحاد عند معظم هؤلاء هي ردات أفعال نفسية. وهنا هم مخطئون ومصيبون في آن؛ فهم مخطئون لأنهم إنما يعنون حقا أنها: مجرد ردات أفعال نفسية. أي باعتبار أن ما هو نفسي أقل من أن يكون فكريا. وهم بهذا المعنى إنما يعنون أنها ردات أفعال شخصية. وهم مصيبون لأن الدين عموما لا يمكن فصله عما هو نفسي. لكنهم بهذا إنما يتبعون سياسة الفصل باعتبار أن ما هو نفسي لا يمكن أن يكون موضوعيا، بل هو أقل من موضوعي، ولكننا لا يجب أن ندخل في جدال مع هؤلاء. وربما علينا القول أنه ربما وافقنا على وضع الأمر بصورة توفيقية في أن فكرة الدين والتدين هي فكرة نفسية أيضا. مع هذا فإن كانوا إنما يقصدون أن الإلحاد وليد لردات أفعال شخصية فهذا سيكون تسطيحا مبالغا فيه. فحتى لو أن شخصا كان متدينا وتعرض لسلوك من المتدينين أو أفكار ممجوجة فمن الواجب معرفة ما هي هذه السلوكيات والأفكار التي نفرت وتنفر عددا كبيرا نسبيا من الدين ودفعتهم وتدفعهم إلى الإلحاد. والتهمة هذه، إن صح التعبير، التي تلقى على الملحدين تعني أن موقفكم ليس موقفا ممحصا، بل موقف انفعالي ليس إلا. وهذه التهمة تشير ايضا ، أو تبطن إلى أمرين مهمين: الأول: إن الذين اتخذوا ردة الفعل هذه، أي الإلحاد، كانوا متعجلين ولم يعرفوا الحقيقة أو على أقل تقدير، لم يستقصوها جيدا. والأمر الثاني: إن الذين مارسوا السلوك الديني الخاطئ المنفر أو الممجوج لا يعرفون معنى الإسلام الحقيقي. هكذا إذن يصدر هؤلاء الكتاب حكما بعدم المعرفة لكلا الطرفين؛ فالطرف الذي سبّب النفور من المتدينين هم طرف لا يعرف الدين، الإسلام، حقا، أو بشكله الأصح أو الصحيح. والطرف الملحد الذي أخذ ردة الفعل هو طرف لا يعرف أن هؤلاء لا يعرفون الدين بشكله الصحيح. مع هذا فحتى إن كان الأمر هو حقا أمر شخصي أي أن إلحاد البعض هو ردة فعل على سلوكيات محددة لمتدينين محددين فإن هذا لا يشكل تهمة للإلحاد ولا للملحدين بل إنما يصف بعضا من الآلية التي سارت بهم في طريق الألحاد. ووصف الآلية ليس معناه أن اتخاذ الإلحاد أمر سلبي في حد ذاته. بكلمة أخرى: فالآلية ليس فيها ما يتهم النتيجة بالسوء. ذلك لأن التدين في أغلب منتسبيه تدين مأخوذ من المجتمع. ومن هذا المنطلق فلو اعتبرنا المجتمع مجتمعا متدينا فإن الإلحاد يكون بحد ذاته محتاجا لتفكر أكبر لأنه خروج عن المألوف وعن المتوقع وعن المحبذ بل وعن المقنن بالعرف الاجتماعي والمؤسسي. طبعا لا يعني هذا أن الوقوف موقف الإلحاد هو أكثر فكرية أو أعمق من الوقوف موقف التدين. ليس الأمر هكذا بل هو وقوف ضد تيار جمعي متحكم وحاكم، وعليه فإن منطلقاته لا بد أن تكون قوية أو على قدر من إثارة التفكير أكثر مما يثيره موقف التدين.

من الممكن أيضا النظر إلى موضوع الالحاد بصفته تعددا نفسيا طبيعيا. فمن فكرة ما يقف الأفراد عادة مواقف مختلفة جدا، تتباين من الاتفاق التام معها إلى الاختلاف التام. وهذا لا يعكس إلا اختلاف الأفراد باختلاف طبائعهم وبيئاتهم وتاريخهم الشخصي في الحياة. فالتعدد في الرؤى هو الطبيعي أو الأكثر طبيعية. وليست فكرة وجود إله هي فكرة مختلفة عن الأفكار الأخرى ولا لها ميزة أبعد في الشخصية الإنسانية. (تعارض طبعا هذه الرؤية رؤيةَ البعض أن التدين أو معرفة الله أمر بدهي أو فطري). بالتالي فما يحدث حقا في المجتمع هو عودة لهذه الطبيعية بعد أن قلّ كبتها أو قلّتْ مقاومة المجتمع لها بشكل أو آخر. والحق ان هذا أمر جيد الكلام حوله بشكل مفصل: فربما نقسم الدين نفسيا إلى أفكار وسلوكيات، الأفكار متاحة عادة،أي أن كل فرد يمكنه من الداخل اعتناق إي فكرة، أما السلوكيات فعادة ما تكون محصورة بتصورات المجتمع، أي أن الفرد ليس متروكا لفعل أو ترك هذه السلوكيات من جراء نفسه أو حسب تحبيذه، بل يتدخل المجتمع بشكل تسلطي في تقييم هذه السلوكيات. بالتالي نحن هنا أمام مشكلة الحرية في الاعتقاد. فمن غير شك لا يبدو المجتمع حاليا قادرا على السيطرة على الأفكار الدينية؛ لا عن طريق وسائله المعتادة ولا عن طريق مؤسساته. فالطرق المعتادة كالتربية مثلا والوعظ والإرشاد والتهديد بالطرد من رحمة الله؛ جميعها لا تغدو إلا تيارا واحدا أمام عشرات التيارات الأخرى التي يتعرض الفرد لها يوميا عبر وسائل التواصل الحديثة.لقد اختفت وسائل احتكار المعرفة؛ بالتالي فإن الفرد ليس متروكا فحسب لما يقوله المجتمع له أو ما يحدده من ضوابط بل إنه قادر بضغطة زر  التعرف على صور مختلفة للفكرة الواحدة وصور مختلفة للمجتمعات التي تؤمن بأفكار مختلفة. إن هذا الانفتاح المعرفي لم يرتبط بمواكبة تعليمية تربوية قد تنحو باتجاه تُخطِّئ الافكار الدخيلة أو المختلفة، فهذه المواكبة التعليمية والتربوية غير موجودة، وربما تكون غير مقدور عليها أصلا. والانفتاح المعرفي هذا ليس فقط في الأفكار والرؤى المطروحة بل وفي الأفراد القادرين على تلقف هذه الأفكار أو التفكير فيها. فالبنية السابقة للمجتمع العماني هي بنية تحتكر فعل الثقافة الدينية بفئة محددة، هي بالتالي تقيم منهجا محددا للدين “الحق”. أما وقد شاعت المعرفة فإن عدد المتفكرين في مواضيع الدين كبير جدا وقد يصل مع شيوع المعرفة السمعية والمرئية إلى نسبة هائلة من المجتمع.

إن قدرة كبت الأفكار المختلفة في المجتمع قلّت كثيرا لكن هذا لا يعني بالطبع أن بعض الأفكار المختلفة لم تكن موجودة أصلا أو لم تكن قابلة للظهور دوما. لكن مقاومة ظهورها جعلتها تظهر أولا وتنتشر تاليا. وهكذا فإن انتشار الإلحاد أو ظهوره على السطح الخارجي للمجتمع من حيث الكتابات لا يعد تدهورا بل تطورا بالنظر إليه من خلال مناظير الحرية الشخصية وحرية المعتقد، وهي المناظير التي ينتشر استعمالها والتماهي معها في جوانب مختلفة؛ بدءا بالسياسة وإدارة شؤون الدولة والاجتماع مرورا بالدين وانتهاء بالحرية الفردية. لقد ساعد على ضعف المقاومة التي كَبَتَتْ زمنا طويلا الأفكارَ الإلحادية انفصالُ الحكومة عن الدين بمعناه المباشر، أي بمعنى أن يكون الحاكم إماما أو مرجعية دينية في ذات الوقت. إن هذا البعد العلماني في الحكومة هو بعدٌ قلّل كثيراً من، وإن لم يكن كليا، من شدة المقاومة المفروضة على العقل المجتمعي. فالآن لا يعتمد الفرد في تقرير أمور دينه على مرجعية واحدة، بل هو قادر على الانتقاء من مرجعيات مختلفة عما هو متوفر في المجتمع المباشر له، وايضا فإن الحكومة بقوانينها العلمانية نوعا ما توفر مظلة للحرية الفكرية لا يمكن التخلي عن مكتسباتها أو إدارة الظهر لها.

مرتبط بفكرة الانفتاح المعرفي وتعدد العارفين فكرة أخرى هي انفتاح الحدود الجغرافية أمام الآخر. إن الأمر أشبه بما يحصل للسوائل المستطرقة؛ فحين تُفتَح الفلينة التي كانت تسد السائل عن التدفق إلى الأنابيب الأخرى يتدفق السائل ليعيد خلق توازنات جديدة، وإذا افترضنا أن هذه السوائل كانت مُلوَّنة بألوان مختلفة فإنها تعيد مزج الألوان فيما بينها. هذا ليس فقط تعبيرا عما كان يسميه البعض غزوا فكريا أو ثقافيا للأمة أو المجتمعات بل هو أعمق من هذا إذ يشتمل أيضا على تلاقح الأفكار؛ فلو أنني من مدينة البريمي مثلا فلا يمكنني أن أرى لباس ساكن العين على أنه مختلف جدا فقط لأنه يعيش على الضفة الأخرى من الحدود كما يمكن أن أراه من مسقط. لكن مع وجود الانفتاح الجغرافي سواء أكان على أرض الواقع الجغرافي أو واقع تقنيات التواصل الحديثة تغدو الحدود أمرا مستهجنا ويغدو ساكن مسقط قادرا ليس على العيش فقط في البريمي بل وحتى في العين نفسها.

وقد شاعت كثيرا فكرة أن الملحد هو كائن قلق جدا. وهو أمر ربما يكون صحيحا بالنظر إلى الملحد في مجتمعاتنا المتدينة. فالقلق هنا ليس قلقا سببه الفكرة ذاتها فحسب، أي فكرة عدم وجود إله داعم ومساند باستمرار، رؤوف ومعتنٍ بالإنسان، بل سببه أيضا عدم وجود داعم من الناس أيضا. ونظرية القلق هذه اتخذت تمظهرات عدة في الدفاع عن مسألة الإيمان، أي بمعناه الكلاسيكي: إذا لم تؤمن بإله فإنك ستكون قلقا، إلا أنها وجدت في المقابل أفكارا مضادة لها. ولسنا الآن بصدد تعدادها وتفصيلها، لكن يجب الإشارة إليها لأنها تُؤخَذ باعتبار الفرد الملحد قلقا، أي باعتبار أنها حجة ضد الالحاد. فلا يجب أن نرى مجتمع قريش قبل الاسلام على أنه مجتمع قلق بكليته؛ صحيح أن أفرادا منه كانوا يعانون فيه ويبحثون عن أفكار دينية أخرى لكن هؤلاء كانوا قلة، أي أن المجتمع لم يكن حقا قلقا القلق الذي نحبذ أن نُلصِقه بهم انتصارا للدين الإسلامي الناشئ حينها. إن هذه النقطة مهمة للبحث حين التكلم عن الإلحاد لأن السؤال الذي قد يثار هو: كيف يمكن لفرد أن يختار القلق على الطمأنينة، باختياره الالحاد بدلا عن الإيمان؟ وهو سؤال يحتوي في طياته حكما على الإلحاد أنه بنية مقلقة. وبالمعنيين اللذين طرحتهما للقلق فإن القلق الذي يشتكي منه الملحد قلقان: اجتماعي وروحاني، إن صح التعبير الأخير. لذلك فإن القلِق اجتماعيا إن لم يطرح الالحاد جانبا ربما يقوم بفعل نشر أفكاره ليجد من يسانده في أفكاره بحيث يخف قلقه. وهذا القلق مقدور عليه لأنه يتشكل اجتماعيا أصلا، وعليه بإمكان الإنسان أن يتعداه لو وجد من المجموع من يسانده فيه. أما القلق الروحاني فإنه حتى وإن بدا متعسر التجاوز إلا أن الأفكار الفلسفية المتراكمة عبر مئات السنين حاولت بتفاوت في النجاح أن تتعداه أو تحصره أو تحصر أعراضه. على أنه يطيب لي هنا أن أقول أن حجة القلق هذه التي تعرض لدحر الإلحاد لم تعد قوية كالتي كانته في أزمان ماضية. فالإنسان التواق على توسيع مدى حريته متجاوزا الطبيعة من حوله ومتجاوزا الأفكار المكبلة، لجأ إلى العديد من الحيل والآليات لتجاوز هذا القلق. من أشهرها بالطبع توسيعه القدرة على ضبط الطبيعة من حوله، بل والإقرار بأن القلق ذاته أمر طبيعي في الانسان، كما قد يقول بعض الوجوديين.

لا يعدو أذن توجيه القول للفتى الجامعي الذي ينبهر بالإلحاد بأن الإلحاد سوف يجره للقلق، أن يكون تعريفا له بما يعرفه أصلا؛ فالقلق لم يعد له معناه السلبي بل اتخذ معنى آخر في الثقافة الحديثة للمجتمع. القلق شرط من شروط المجتمعات الحديثة، وهو شرط نفسي أصلا نابع من طفولة الإنسان الطويلة. فهو شرط للمجتمعات من حيث أن العيش مع وتيرة التغيرات الكبيرة في العالم الحديث وتقنياته سيولد مع الوقت توازنا داخليا. يمكننا تشبيه هذا بالاستقرار في سيارة مسرعة فرغم أن السيارة غير مستقرة وتسير بسرعة إلا أن وجود الفرد داخلها يجعله يشعر باستقرارها النسبي. ولا تعدو الرغبة في البعد عن القلق إلا الهروب من الواقع؛ ففي لجة العالم المتلاطم من الأفكار والرؤى والسياسات والاقتصاديات المقلقة جدا لا يعني الاستقرار غير القلقي إلا الهروب من هذا العالم أو الانزواء عنه في كهف آمن. هكذا أيضا الحال في الطفولة؛ فالطفل يغدو قلقا جدا حين انفصاله عن والديه أو راعيه عادة إلا أن انفصاله هذا محتم لا محالة. فحجة القلق هذه التي ستصيب لعنتها الفرد حين يخرج عن دينه ليست مما لا يمكن نقدها ببساطة في زمن يجعل المرء أن يكون قلقا بالضرورة. وعليه فإن حاجزا آخر من حواجز الركون إلى الالحاد ها هو يهدم من أمام السائر في هذا الطريق.

إن هذا السائر في طريق الإلحاد، ها هو الآن يرحب بالقلق كشرط من شروط الحداثة والحضارة الإنسانية، وها هو يجد بعد انفتاح مجتمعنا على المجتمعات العربية الأخرى والمجتمعات العالمية عددا كبيرا من الناس الذين يعتنقون مبادئ إلحادية. لم يعد القلق إذن لاعب فاعل في النفسية الفردية تدفعه باطراد اتجاه اللجوء إلى الإيمان بالله. فالملحد معنا يقول: ها أنا لست وحيدا ولا مختلفا كثيرا عن أشخاص كثيرين في العالم. والعالم القريب مني ليس العالم الذي يمشي أفراده جغرافيا معي وحولي بل هو هذا العالم أجمع في جميع بقاع الأرض. هذه المرجعية الجغرافية بالأرض جميعها وبالشعوب جميعها وبالمجتمعات جميعها ولّدت إحساسا مريحا لدى الملحد الذي كان متوحدا وخلّصته من القلق الاجتماعي، أما العامل الداخلي وهو علمانية الدولة نوعا ما فولدت الإمكانية في الداخل. فهي ردت ما هو ديني إلى أمرين: قوانين منتزعة من الشريعة الإسلامية تطبق ويعاقب عليها، وقوانين دينية جعلت الأفراد هم المتحكمين فيها.هذا الانفصال اتاح للأفراد أن يروا الدين بشكله المقسّم نوعا ما.

فالدين عبادة الله، ومهما كانت القوانين الإسلامية المطبقة في الحكومة اسلامية المصدر فهي قوانين مدنية في النهاية منتزعة من الشريعة. هي أذن قوانين كالقوانين الأخرى،وغير مرتبطة في الوعي اليومي المباشر بالشريعة والله بل أقرب إلى روح القانون والإنسان. هذا الفعل العلماني التحييدي إن صحت الكلمة، مهما كان ضعفه أو شدة ظهوره، أودع الدين مكانه في القلب تاركا الخارج واليومي رهنا بالإنسان والفرد، خصوصا في المدن المتعددة الأشخاص والجنسيات.

أما في مواجهة هذا النمط الهائل من التغيرات في الحياة وأساليبها والمجتمعات العصرية والاكتساح الهائل للشعوب عبر التقنيات وهو اكتساح جعل مجتمعات العالم كلها تتغير حتى المنفتحة منها، في مواجهة هذا النمط انتصرت أحيانا الأفكار الملحدة لأن حراس الدين لم يطوروا من وسائل دفاعاتهم، وحين طورها بعضهم هوجموا بشدة. هكذا تخلخل الصف المتدين في موضوع التفاعل مع الاحتياجات الحديثة للإنسان. التقليديون الدينيون، من وصفناهم قبل قليل بالحراس، ارتأوا التشبث بالنصوص حتى وإن كان هناك متسع للمناورة، ورأوا التشبث بالمذهبية الضيقة أيضا، فهم لم يستغلوا تعدد المذاهب وتعدد الآراء في خلق شبكة أمان كبيرة تتلقف الذي يبتعد عن بعض الأفكار الدينية المتزمتة. لذلك طفت على السطح المشاكل التي كانت قد طفت في بداية التفاعل العقلي مع النصوص الإسلامية. فإن كانت السلطة الدينية المذهبية قد قمعت مخالفيها فكريا ومذهبيا في القديم فإن هذه المشاكل عادت بنهج أوسع عن ذي قبل وبشدة أكبر. ولست قادرا على البحث في مثل هذه المشاكل لأنها تدخل في خضم علوم أخرى أبعد من المجال الذي أبحث فيه، لكنني يمكن أن أعدد بعضها لإعطاء فكرة ما مناسبة عنها: فمن الذي يقوم بفعل إغواء البشر، أهي طبيعتهم الكامنة في أنفسهم أم هي أفكار الشيطان ووسواسيته؟ وهل من العدل أن يزج برجل في العذاب الأبدي من أجل أفعال كان يمكن أن يتغير مساره فيها بتغير شيء ما في حياته؟ وما الذي يمكن أن يرتجى من الإنسان في الحياة، أهو بالفعل مخلوق للعبادة؟ ولماذا هناك تفاصيل كثيرة في الدين غير واضحة للعقل، أو على العقل الحديث على أقل تقدير؟ وهل الدين ضد العقل وضد العلم، بالمعنى الحديث للكلمة؟ وهل التشريع الإسلامي كما هو في القرآن وفي السنة العملية للنبي والسنة الحديثية هو مما يجب اتباعه حرفيا، أم يمكن للإنسان والمجتمعات الحديثة أن تناور فيه؟ إن مثل هذه الأسئلة لم تجد حلها في الماضي بل قمعت بطريقة أو بأخرى. أما ما وجد منها من حلول فقد كانت حلولا تشبع مجتمعات بعينها لكنها لا تشبع المجتمعات الحديثة. هكذا يبدو أن الأربعة قرون الأولى بعد انطلاقة الإسلام قامت بتلفيق وتوفيق ضخمين في العلاقة بين العقل والنص. لكنها في محاولة حلها لتناقضات بدت واضحة لسائلييها قديما تحت قبضة السلطة الدينية/الدنيوية قامت بخلق تناقضات جديدة في المجتمعات المتروكة لفضائل المدنية الحديثة. إن سعة العيش وشيوعية المعرفة أدتا إلى انتشار الأسئلة الوجودية بضراوة.

ذلك على مستوى الأسئلة الكبرى والنظريات الكبرى التي يقوم عليها الدين أصلا، لكن في جانب آخر قام الفقهاء بتعميق التفاصيل الصغيرة التي جعلت من الفرد مُحتَكرا في فكره وسلوكه اليومي وعقله. هذه التفاصيل مع كثرتها وتحلل مجتمعات كثيرة منها أتاحت للملحد أن يرى بالفعل مدى الأفعال الهائلة الصغيرة والوسواسية التي يجب اتباعها في كل صغيرة ودقيقة في الحياة. إن هذا الشمول أو ما يعرف أحيانا بـ: شمولية الإسلام، جعلت الفرد مُغرَقا في تفاصيل صغيرة يومية كثيرة مهلكة ومجهدة. بالتالي جعلت السؤال مشرعا على آخره حول: ما هي الحدود التي يقف عندها ما يريده الشرع ويبتدأ ما يريده الإنسان؟وهل إن الإنسان بحاجة حقيقية إلى أن تأتي كل هذه التفاصيل من علٍ رغم أنه بمكنته أن يقوم بها بنفسه بطريقته الخاصة جدا؟هنا يطرح الملحد بينه وبين نفسه سؤال الطقوس وفحواها وأهميتها؛فحتى إن كانت الطقوس الدينية تقيم نمطا روحانيا، أي متعلقا بالكلي في الطبيعة من حولنا والكون الذي نعيش فيها وقدرتنا العقلية على التركيز أو التشتت،أو بمعنى آخر: اجترار اللذة العقلية الهادئة من التأمل والتبصر بلا مثيرات خارجية، حتى إن كانت الطقوس تقيم هذا النمط الروحاني فإن الانغماس في هذه الروحانية تأتت للإنسان الحديث هي الأخرى بطرق أخرى غير الصلاة والصيام والطقوس الأخرى، فهي تتأتى من السير في الطبيعة، ومن الفن بمختلف طرائقه من رسم وموسيقى، ومن التأمل بالطريقة النيرفانية البوذية. ههنا انفصل ما هو روحاني عما هو ديني؛ فالروحاني لم يعد لصيقا بالديني بل تعداه إلى مواضيع أخرى، أقرب إلى الإنسان من السماء، وملتحمة مع رغباته وليست طارئة عليها أو مثقلة بها.

هكذا إذن لم يعد الدين محتكرا لما يمكن تسميته روحانيا، هذا إذا أخذنا هذا البعد في الحسبان كنوع من الرغبات التي ترغب بها النفس الإنسانية. أما التفاصيل الصغيرة التي تضخم الفقه الإسلامي بها فلم يرادفها ازدياد أو اهتمام بالمعاني الإنسانية الكبرى. بمعنى آخر: إن ما هو إنساني في الدين لم يُطوّر بشكل مذهل كما طور ما هو عابر وفردي وصغير وتفصيلي. هكذا يجد المرء أن التفاصيل الكثيرة المبذولة في المراجع الفقهية والأصولية لمسائل الوضوء والطهارة لا تجعل الفرد يمتنع عن قتل إنسان آخر مغاير له في الدين أو حتى المذهب.

والفلسفات الاجتماعية والنفسية والتاريخية، أي الفلسفات التي أنشأها الإنسان من خلال تدافعه مع الإنسان ومع الطبيعة، هذه الفلسفات أوجدت ما يمكن أن نسميه مناخا أكثر تسامحا مع الإنسان الآخر، سواء المختلف دينيا أو عرقيا أو مذهبيا. لذا لم ينل الدين هنا مديحه اللازم في تعاليمه الأخوية وسماحته، بل أُخذ الأمر على أنها مجرد دعايات مضللة وكلاشيهات محفوظة يقوم به الدعاة إلى التقارب بين الأديان وبين المذاهب في الظاهر بينما يبطنون في الداخل الحقد والكره والضغينة على بعضهم البعض. والسؤال الآن الذي يجب ان يطفو إلى السطح هو: هل يسعى الدين حقا إلى هذه الصفات الكبرى الإيجابية: هل يسعى إلى العدل والمساواة والحب والبذل والعطاء والتقدم والسعادة والأخوة بين البشر؟ وإن كان يسعى لذلك فلِمَ شاءت الأقدار هذا المنحى: أن يتعرف الإنسان بحكمته المجردة نوعا ما إلى ما يقيم هذه العلاقات والصفات الكبرى الحميدة؟ فهل حكمة الإنسان معادلة لحكمة النصوص المقدسة، وإن كانت كذلك فما جدوى هذه النصوص إذن؟ إن هذه تساؤلات بسيطة لكنها عميقة ومتراكمة بحيث تجعل من ثقلها الفرد يهرب إلى الإنسانية أكثر مما إلى الدين. لقد سارع هذا الاحساس بالثقل ما كان يطرحه وما زال المفكرون المسلمون من أن الإسلام أوجد الحقوق وأوجد التسامح وهو الذي أرشدنا إلى الاشتراكية في معناها المتسامي والديموقراطية في معناها الأكثر مثالية. فهذا السطو على ما هو إنساني بحت أو إنساني في معظمه ها هو يُسحب من قبل هؤلاء باتجاه أن يكون مجدا للدين. هكذا سيقع أيضا بعض العلماء الطبيعيين من المسلمين في فخ أن يوجدوا في النصوص المقدسة تنبؤات علمية سيكتشفها العلم الحديث بعد كيت من القرون. هذا بحد ذاته مع أنه يعمل عمله السحري والاسطوري في نفوس الأتباع المقلدين والمتدينين الملتزمين إلا أنه يثير حساسية العقول الحرة المتمتعة بالقدرة على النظر بعيدا عن الأفق المرسوم.

حسنا إذن إن كان الدين أي الإسلام هنا فيه من الصفات الكبرى التي كانت ينبغي أن تهدي الإنسانية برمتها إلى الطريقة الأقوم في فهم العالم وفي الاستفادة من الكون بقوانينه المحكمة، فلماذا لم يصنع ذلك؟ ها هنا تنطلق التبريرات لتغطي الثغرات التي يمكن أن يقيمها مثل هذا التفكر في مثل هذا السؤال؛ فالمشكلة ليست في الدين بل في الناس الذين يتدينون بهذا الدين. بمعنى آخر: المشكلة في عدم الالتزام بالدين، أي أن الحل بالتالي هو في العودة الى الدين. إن هذا الحل الذي رفع شعارا كبيرا حاول فيه المفكرون الإسلاميون والفقهاء أن يختصروا المشكلة ويبرزوا في آن الحل لها، هذا الشعار كان تغريريا أكثر منه عمليا. ذلك لأن ما حصل بعد ذلك حين حاول الدارسون أن يعودوا بالنظر إلى التاريخ الإسلامي وإلى العهود المقدسة، أي العهد النبوي والخليفي، وجدوا أمورا كثيرة بدت أبعد بكثير من أن تكون مثالية أو مقدسة أو لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها. ها هنا وقعت رضة نفسية كبرى في رأينا، رضة لم يُشفَ منها الجيل الحالي بعدُ، مع محاولات كبيرة من المفكرين الغير تقليدين أن يقوموا بوأد هذه الثغرة الكبيرة بين ما هو ظاهر سلبي في التاريخ وبين ما هو باطن إيجابي في النص الأول: القرآن. فالبحث في التاريخ الإسلامي أي في التاريخ والتفسير وكتب الأحاديث لم ينتج الأمل المرتقب منه في الوصول إلى الحقيقة الكبرى بل بالعكس خلق تشوها وأحدث زلزلة كبيرة. إن هناك العديد من الأمثلة التي لم يُحدِث البحث فيها تلميعا للإسلام بل إنه بلبل الأذهان وأعاد وضع العقل أمام معضلات كبيرة لم تحل، وفترات تاريخية مظلمة إن صح التعبير. التقليديون وهم الأكثر تشبثا برؤية القدماء في الدين يبرزون دينا يهتم بفترة زمنية ماضية كانت تهتم بمجتمع قديم، لذا فهم يسقطون الماضي على الحاضر. أما المجددون فقد ذهبوا مذهبا آخر أوجد هو الآخر مشكلة في العقول؛ فهم حاولوا النظر في النصوص المقدسة بما يبرئ ساحتها من الهنات التي تثقل كاهل التفسيرات القديمة والتأويلات النصية، لذا لم يكن غريبا أبدا أن تتساقط الأحاديث النبوية ويبين عوار ما يفترض أنه من الكتب الصحاح في الحديث. وها هي مجموعة أخرى من المحدثين تقرأ القرآن ذاته بشكل مغاير عن القراءة القديمة. هكذا إذن لا يجد العقل المقبل على التفكير، أي أولئك الشباب الذين تداهمهم الأسئلة الوجودية الكبرى، حين يرغب(أو يرغبون) في معرفة الدين إلا معتركا كبيرا من اللايقينيات حول مسائل كان آباؤهم يعدونها من المسلمات. فلم يعد التاريخ الإسلامي ناصعا، ولم يعد صانعو القرن الأول الهجري مبرئيين ولا معصومين، ولم يعد القرن الأول قرنا ذهبيا، ولم تعد الحضارة العربية والاسلامية حضارة متدينة بالمعنى المتداول. إن السعي الذي يقوم به الأخيرون هنا هو أن يرتفعوا بالنصوص ويجردوها من التاريخ ومن الاجتماعيات والسياسة، بكلمة أخرى: أن يقرؤوها قراءة تاريخية بوضعها في محلها من عصرها ومن مجتمعها، ما يعني أن يصلوا أخيرا إلى لبّها الكلي من المقومات الكبرى للدين تاركين للتاريخ أمورا تفصيلية كثيرة فيها.

إن المتفكر في أمر الدين حين يستقصي هذا الدين تباعا إلى مصادره الأولى عبر ركامات التاريخ والسياسة والاجتماعيات والنصوص المولَّدة من النص الأول: القرآن، هذا المتفكر ينزع إلى الإحساس بنوع من الخديعة؛ فمن لحظة نزول النص الأول وحتى اللحظة الحديثة تراكمت نصوص كثيرة شرّقت وغرّبت وحكمت باسم الاسلام وباسم الله من غير أن يكون لها علاقة السببية بالوحي المُنزَّل. هذا الاحساس بالخديعة لا يولد في النفوس ردة فعل واحدة؛ فقد يحث الفرد إلى معاودة الاستقصاء والبحث مليا، أي باتخاذ ردة فعل الشك، وقد يحث الفرد إلى نبذ الأمر وتركه تماما أي اتخاذ ردة فعل اللامبالاة، وقد يحثه على ترك الفكرة كلها، أي اتخاذ ردة فعل الإلحاد. وفي كلا الحالتين فإن شيئا من العالم الخارجي لن يتغير. إن ردة الفعل كما يحلو للبعض أن يسميها تتولد أولا من الفكر المذهبي الذي ينشأ عليه الفرد في مجتمعنا؛ فهذا الفكر لا يقيم طريقته بتواضع: فهو لا يقول أنا مثلا مسلم بطريقة في التفكير انحدرت من الاباضية الأوائل وسارت هذا النهج، بل يقول أنا مسلم أباضي،أنا من أهل الحق والاستقامة، كما يقول آخرون نحن متحدرون من سلالة النبي فنحن أقرب إليه وبالتالي أقرب إلى طريقة الله في الأرض، أو يقولون نحن على سنة رسول الله، أي طريقة تنفيذ التعاليم الإلهية على الأرض. هذا التكبر على الحقيقة بالمعنى العام للجملة لا يبدو أنه يخدم الدين في العصر الحديث؛ فالوصول إلى الأسس التي ينطلق منها الآخرون في تعاليمهم ورؤاهم لم يعد حكرا على أفراد مخصصين. هنا أيضا تتجلى شيوعية المعرفة على أنها تهدم ضيق المذاهب. فلو كانت قضية ما في مذهب ما هي أ وكانت في مذهب ثان هي ب وفي ثالث هي ج فإن الإسلام ليس أ أو ب أو ج. حتى وإن كانت هذه متضادة ظاهرا. وإنما يمكن أن تكون أ و ب و ج في ذات الوقت. وإن كانت هذه تتضاد فيما بينها فإنها تقيم منفتحا واسعا للمعتقد فيها والمتبع لها. ولأن المذاهب لم تخرج من دائرة النظرة الأحادية للدين المستعلية على النظرات الأخرى لأسباب تاريخية سياسية أكثر منها فكرية وعقدية أو أكثر منها منطقية فإن وجودها دلالة في نظر البعض على أنها غير كافية لوحدهاأو أنها جميعا ليست على حق مطلق. إن هذا التضييق أحدث رغبة في الانفتاح.

لا يجب أن نغض الطرف عن مسألة مهمة في اتخاذ الإلحاد طريقا، هي الخوف الذي يبديه البعض وخصوصا من أسميناهم بحراس الدين أو من يقومون بلعب هذا الدور في المجتمعات، الخوف من ضياع الأخلاق. وهذا ليس أمرا هينا أبدا. فإن ضاعت الأخلاق فإن الأمن اللازم لعيش الإنسان في المجتمع يصبح مهددا. إن المعادلة تكون هكذا: إن لم تؤمن بالله فربما يمكنك فعل اي شيء. أي يمكنك أن تمارس كل الخطايا والحماقات التي تثير الذعر في المجتمع وتهدد بزلزلة أمنه وأمانه. هنا يجب أن نشير إلى أمرين مهمين أولها أن الأخلاق الحميدة التي يدعو إليها الدين لم تجعل من الأفراد جميعهم في أي مجتمع ينتشر فيها خلوا من الخارقين لهذه الأخلاق إلا حين تقام لهذا الدين هيئة سلطوية تمثل إما بالدولة أو بالمجتمع. أي أن الأخلاق ذاتها ارتبطت بالقوانين الاجتماعية والسياسية. وثانيهما أن الأخلاق الدينية وبطريقة أو بأخرى خلقت أخلاقها الخاصة التي سارت بعكس ما يأمل به الإنسان عامة من العيش بحرية وكرامة وعدل ومساواة، إذ أنها أي الأخلاق الدينية رفعت من شأن جماعة على أخرى ومن قوم على آخرين مما حدا بها ان تكون حكرا على أفراد مجتمع دون آخر. فقد تولدت عن الأخلاق هذه تطرفات في التطبيق مضت حتى ولدت إرهابا. وهنا من المهم ان تزال من كلمة الإرهاب هنا تعريفات السياسة الغربية وخصوصا الامريكية لها؛ فالإرهاب هنا هو أن يكون من حق أو من واجب أحد الأفراد في دين معين أو مذهب معين أن يلغي حق فرد آخر في الحياة أو العيش بكرامة. بمعنى آخر فإن الأخلاق التي يقال أنها دينية لم تمنع من قتل الآخرين بسهولة كبيرة، والتاريخ القديم والحديث شاهد على ذلك. أي أن الأخلاق التي تنتشر حاليا في المجتمعات والتي يطلق عليها إنها انسانية أصبحت بطريقة ما أكثر تطورا من تلك الأخلاق التي يقال عنها دينية. إن ظهور المجتمعات المدينة التي تقيم الأخلاق الإنسانية خفّض قيمة الأخلاق الدينية. ذلك أن الأخلاق الدينية صغّرت من اهتماماتها حتى غدت مضادة للإنسان، رغم أنها ما جاءت أصلا إلا رفعا لكرامة الإنسان. لذلك لا يبدو الإلحاد الذي يؤمن بالإنسان وبالقيم الإنسانية أمرا جالبا للذعر، كما أن الدين الذي يؤمن بقتل المخالف أو المرتد لم يعد جالبا للأمان على المقياس الأكبر، المقياس العالمي الذي يرى في الإنسان أيا كان إنسانا له حقوقه وواجباته على ومن الإنسان الآخر.

تبقّى لنا أن نذكر مسألة مهمة ما فتئ أنصار الأديان في تردادها، وهي ليست في محلها كما يرى الملحد أو حتى الربوبي واللاأدري، وهي أن هناك من البراهين العقلية والمنطقية ما يثبت وجود الله. إن هذه فيها نوع من الغفلة والبعد عن أس مهم من أسس الدين وهو الرغبة القلبية أو الميل القلبي. بكلمة أخرى فإن البعد العقلي في وجود الله لا يبدو كله على أقل تعبير عقليا بالفعل. فالدين ليس عقلا، وهو أقرب إلى القلب والغيب. وهنا يُواجَه الدين بالفكرة التي روج لها فلاسفة ومفكرون من أنه مبني أصلا على الجهل والخوف. أي أن الإنسان أصلا لم يتواطأ على اتخاذ الدين منحى له في عصور سابقة إلا بسبب وجود هاتين الصفتين فيه، صفتي الجهل والخوف. فالخوف وانعدام المعرفة يولد الإيمان بكائن علوي قادر على تجنيب الإنسان من مساوئ الخوف والجهل. والحق أن التشبث بمبدأ العقلانية في أمر الدين يولد من ناحيته الرغبة في التفكير مليا فيما تعنيه العقلانية هذه، وتجعل أمر البحث واردا، لذا تُفتِّح العقول على خيارات أخرى مضادة. إنه لمن المهم هنا أن نذكر بأن عاملي الخوف والجهل اللذين أشهرا كدليلين على ضدية الدين للعلم، هما في حقيقتهما مبنيان على نوع من التوهم على قدرة الإنسان على بلوغ المعرفة وتوسعه في إخضاع العالم. فحتى لو سلمنا أن الحاجة إلى دين التي يقول بها المتدينون في أديان مختلفة هي حقيقة وليست نوعا من التوهم المسقط على النفس بسبب انعدام القدرة على تبينه في العديد من الأفراد، هذه الحاجة لم تلق بعد اشباعها من ناحية العلم والتقنية. فلا العلم أوضح كل مجاهل الكون ولا التقنية أقدرت الإنسان على التحكم في مسيره ومصيره بشكل كلي. والأمل الكبير الذي كان معقودا على العلم من  ناحية والصناعة والتقنية من ناحية أخرى، هذا الأمل الذي وصل ذروته في النصف الأخير من القرن التاسع عشر والأول من القرن العشرين، بالاكتشافات والاختراعات التقنية والصناعية، هذا الأمل عاد ليتواضع بعدها مفسحا المجال مرة اخرى للدين. هكذا إذن حتى ولو كانت الحاجة للدين هي في أصلها النفسي ناشئة من الخوف والجهل، تظل هاتان الصفتان متوفرتين في الحقل الإنساني، ولا يبدو أن ثمة قدرة على إزالتهما في المستقبل القريب مع وجود مشاكل كبيرة يواجهها الإنسان قد تودي حتى بوجوده على الأرض.

هكذا قد نخلص من حديثنا أن الإلحاد وظهوره وإعلانه من قبل بعض الأفراد في مجتمعاتنا ليس موقفاً خارجا عن المألوف والطبيعي في مجتمع يتتبع طريقه إلى الحرية بمعانيها الواسعة، بما فيها حرية المعتقد وحرية التعبير عن الرأي. وطبيعية هذا الموقف ناتجة عن تعدد شخصيات الأفراد واختلافاتها في النظر إلى فكرة ما. وإن كان الإلحاد يشكل جذبا فكريا للعقول المتعطشة للتأمل والتفكر فلا يعني هذا الوصول إلى القول الفصل والأخير، فمراحل التأمل والتفكر في الوجود متعددة، وعلى المرء أن يسيرها بتؤدة ما دام لا يضر بأخيه الإنسان ويحترم قانون المجتمع الذي يعيش فيه، القانون النابع من تغليب مصالح الإنسان. أما الخوف من ضياع الأخلاق الدينية فيمكن أن تحل محله، سواء كقاعدة للأخلاق الدينية أو كقاعدة عامة للسلوك، الأخلاق الإنسانية العامة.

الرابع والأربعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

حسين العبري

روائي وأديب عماني له عدة مؤلفات منها رواية الوخز والأحمر والأصفر.