الموت في الجبال، والحياة في الذاكرة

كتب بواسطة حمود سعود
download

صورة لجبل شمس

في طفولة القُرى البعيدة. أخذتْ المرأة قطيع الماشية إلى الجبال المجاورة، كعادتها الصباحيّة، تأخذُ زوّادتها، وتمضي بالقطيع إلى المراعي، تحملُ في الزوّداة القهوة والتمر والخبز العُماني وبعض الطعام وراديو صغير.تقطعُ المسافة بين بيوت القرية إلى بداية الجبال صباحا. وتطلقُ القطيعَ ليرعى في الجبال؛ وتطلقُ صوتها بالغناء للجبال. وتنتظر عند بركة الماء رجوع القطيع. تعدُّ لنفسها قهوة، وتأكل مما حملته من طعام في الصباح. وتأخذ قليولة تحتَ الشجرة القريبة من بركة الماء النائمة في حضن الجبال.

عندما تنتهي الشمس من وظيفتها النهارية، تبدأ المرأة بالرجوع إلى القرية عبر الدروب المتعرّجة والوعرة التي حفظتها منذ سنوات في ذاكرتها وخارطة قلبها. ترجع والمساء يهبط  رويدا رويدا على الجبال.

في أحد مساءات هذه المرأة الثلاثينية التي لم تذهب إلى المدرسة، ولم تخرج من القرية إلا نادرا. أخذتْ زوّداتها وقادتْ القطيع، وأطلقتْ أغانيها للجبال.في هذا المساء رجع القطيع، ولم ترجع الراعية. في البداية خرج أهل القرية إلى الجبال القريبة. نادوا وصرخوا على المرأة فرجع النداء بدون صوت الراعية. ثم انضم أهالي القُرى المجاورة للبحث عن المرأة الغائبة. كُلّما تقدّم الليل قليلاً زاد عدد البشر الباحثين عن المرأة، وكُلّما زاد عدد الباحثين تحوّلتْ الجبال إلى صورة جمالية. كلُّ واحد منهم يحملُ في يده قنديل أو مصباح يدوي فتحوّلتْ الجبال  إلى سماء صغيرة. الليل يدنو إلى الانتصاف؛ والقلق والبكاء بدأ يرتفع. بعضهم أشعل النار فوق بعض قمم الجبال العالية.

تقدموا إلى النبع حيث بركة الماء، واستراحة الرعاة، تحت شجرة (السمر) القريبة من بركة الماء وجدوا المرأة ميّتة. والزوّادة معلّقة على الشجرة. وعلى الموقد كانت هناك حكاية لم تكتمل في الحياة. كانت الريح تحرّك الزّوادة وتدفعها في الفراغ والعدم. صمت المكان والبركة المائية والموقد الذي أشعلت فيه المرأة النار صباحا والرماد الذي بعثرته الريح. كل هؤلاء كانوا الشهود على اللحظات الأخيرة لموت الراعية. بركة الماء هي التي حرستْ روح المرأة في الليل.

كلُّ ما حدث بعد ذلك غير ضروري للحكاية الغير مكتملة. ظلّتْ ذكرى هذه المرأة نائمة في الذاكرة. لم أشاهد في حياتي أصفى وأنقى من عيني تلك المرأة الراحلة.فيهما صفاء الكون والينابيع والنجوم.بعد أكثر من عشرين عاما عندما فكّرتُ بالكتابة عن هذه المرأة. لعدة أيام كنتُ أفكر في ذكرى الراحلة. جاءت لي في الحلم. خرجت لي من البركة النائمة في الجبال وقالت لي

: أنا لم أمُت بل حرست الماء في البركة من النسيان والجفاف.

قالتْ هذه الجملة القصيرة، ورجعتْ واختفت في بركة الماء. غطست إلى قاع البركة المائية إلى الأبد.

2)

البرك المائية التي حفرتها شلالات الزمن الطويلة، والماء النازل منذ ملايين السنوات في جبال الحجر.ودثّرتها الجبال بصمتها الأسطوري، البرك المائية التي حرستها عزلة الجبال، تموت في الجفاف. تنبت بها الحياة بعد كل مطر عابر على هذه البلاد.

في القُرى القريبة التي تنام على حضن جبال الحجر. يخرج الأطفال يبحثون عن بركمائية، لتكون لهم فسحة من الفرح العابر والدائم. في أحدى هذه البرك المُسماه ( النجمّية). خرج مجموعة من الأطفال ليغسلوا طفولتهم في هذه البركة الجبليّة، وليشاكسوا الصمت الأبدي في الجبال. أطلقوا أصواتهم تمرح في الفضاء ورهبة المكان. ردّدتْ الجبال أصواتهم. رددوا الأناشيد التي حفظوها في مدارسهم، ونشيدهم الصباحيّ.

لعبوا وغنّوا وفجّروا بضحكاتهم الماء والجبال وعزلة المكان. كان أحدهم يحاول أن يقفز من مكان مرتفع بالقرب من حواف البركة. أطلق صرخته الأخيرة وسقط في ( النجميّة)، سقط إلى العمق، إلى العمق المائي، إلى عمق سلالات الزمن والموت. سقط الطفل ولم يطلع من البركة.

حملتْ طائرة سلاح الجو جثة الطفل. حلّقت الطائرة بعيدا بجثة الطفل. الطفل الذي كان يحلم  أن يكبر وأن يكون طيّاراً، ويحمل أبيه المقعد على الكرسي المتحرك منذ سنوات.

: باه يوم أكبر بسوق طائرة، وأشلّك أمريكا، هناك يعالجوك.

ولكن (النجيمة)  أكلت كل نجوم وأحلام الطفل. وظلّ الأب مقعدا بالمرض والفقد.

حرّكتْ مروحة الطائرة الماء. عكس الماء صورة الطائرة الحاملة لروح الطفل. طارت روح الطفل إلى سماء الله. حفظت رائحة المكان وذاكرة البشر الحكاية.

3) رسالة متأخرة لقبر امرأة في الجنوب

صوتكِ هذه الليلة أيقظ الروح النائمة في القبرِ. صوتكِ الحزين المُنبعث من غرفة الطين، من خلف النافذة الخشبية الخضراء كان صوتكِ يتسللُ للحلم أيقظ في القلب رائحة العشبة الأولى. صوتكِ غسلَ كلُّ متاهات الحنين بداخلي. ها أنا أكتبُ إليكِ الآن بعد ثمانية وثلاثين عاماً من رحيلك. جمعنا الجنوب والرصاص والحُلم وأغاني الوجد والليل وصلوات الحنين في الجبال البعيدة. وفرّقنا الحُلم والتعب والسجن والمسافة.

امتزجتْ روحانا في دروب بيروت، وفي عيد ميلادك العشرين، والجبال البعيدة، وشاي المساء في المخيم. وفي القصائد والأغاني،  في عدن والقاهرة وبغداد ودمشق. وانصهرتْ الروح في العاطفة والعاصفة الممتزجة بالدم والحُلم وصوت الرصاص ورائحة الحرب. في كلِّ نجمة كُنتِ أنتِ. في كلُّ تلّة كانت خطواتكِ. في كلِّ دمعة كانت عيناك. أيتها البعيدة القريبة روحكِ فاجعتي الأولى. طيفكِ قيامتي وميلادي. في كل شجرة خضراء كُنتِ أنتِ صوتها وروحها.

في السجن البحري المسقطي نحتُّ اسمكِ بأظافري في جدران الزنزانة. وفي السجن البحري كذلك غنّيتُ لكِ كلّ أغاني الحلم والشوق والحزن والحنين. كنتُ  أُنادي روحك في الجنوب. كنتُ أزرع كلَّ مساء بيننا أغنية. في السجن كتبتُ إليك في كل كلمة دمعة. وفي كلِّ جنازة تمرُّ على قبري كنتَ أسأل عنكِ : هل رجعتْ من نزهة الموت؟

أيتها البعيدة، أيام طويلة كنتُ أتهجّى اسمكِ، في الجوعِ وفي الحزنِ وفي الدمعِ وفي الموتِ كنتُ أرسم صوتكِ. في صوتُ المطرِ كانت صورتكِ. في صوت كلِّ يمامة جبليّة كان صوتكِ. أيها الجنوب خُذني إليها.أيها الرّب خُذْ كلَّ نساء العالم وامنحني روح البعيدة.أيّها الرب خُذْ  كل عمري وامنحني خمس دقائق كي أبكي على قبرها.

أيها الجنوب يا صلاة الحُلم الأول، ويا أغنية الغريب، كُنْ كما أنت شامخا بالحب وبالحب وبالحب.

أدب الخامس والأربعون

عن الكاتب

حمود سعود