حياة الشعر

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

كل حياة هي شكل من أشكال الشعر.. إلى الدرجة التي يعجز عنها الشاعر فيكتبها الله..

ما يكتبهُ الشاعر من قصائد مجرد شعاعٍ منعكس انطلق من حياة الشاعر، وليست الشاعر، ولا حتى صورته الحقيقية، بل مجرد شررٍ لغويٍّ صغير ناتج عن الاحتكاك بين الشاعر والشعر والوجود، حتى النصوص والقصائد وإن كانت تنتمي للشعر، لكنها ليست الشعر، بل هي أيضاً مجردُ انعكاسٍ لغويٍّ ضيّقٍ ومحدود عن الشعر؛ غير أنّ الشعر والشاعر يوسعان تلك الامكانية الضيقة ويؤثثانها لتغدو مملكة حياة متكاملة. في نص. نوعٌ من فن التحنيط، لكنهُ التحنيط في حياة اللغة. والصوت. والكلمة. والكتابة.

كم مرة صادفت من يقول أنهُ لا يقرأ الشعر، وكأنه يتباهى وهو لا يعلم مدى النقص الذي يعترف به، والذي أشار إليه مرةً معروف الرصافي بقوله في الشعر: إذا كانَ من معنى الشعورِ اشتقاقهُ فما بعدَهُ للمرءِ غيرُ جنونهِ..

 وكم مرة صادفت من قال أنهُ يقرأ الشعر لكنهُ لا يفهم ما يقرأه، ولا يشعر به. ربما يغيب عن البعض أن الشعور بالألم منطقة محدودة لدى الانسان وما زاد او قل عنها لا يصل إلى إدراك الانسان الا بعد أن يدخل في تلك المنطقة الشعورية، هكذا يشعرُ الإنسان متأخراً أن حشرة لدغته، مثلما يتألم الإنسان لاحقاً من كدمة قوية أو كسرٍّ عظمي، إن بعض الشعر مثل شمعة اللحام، نارُ غاز مكثفة ومضغوطة تخترق المتلقي وتثقبه دون ان يشعر بها، إلا لاحقاً، بعد ان تبرد في مدى زمني طويل وبطيء، أو لا يشعر بها، لأن ما تحدثه فوق الشعور..

واليوم وسط التشويش والتسطيح المعاصر، تحتاج قراءة الشعر رهافة اصبحت نادرة في هذا العصر المريض المصاب بسوء التمييز وزيف المشاعر، بل والمتاجرة بالمشاعر..

اقول أن عصرنا مصابٌ بسوء التمييز لأنه يتحدث عن موت الشعر، لكنهُ يقصد قتل الشعر، ليفضح أمنيتهُ الدفينة ورغبته في موت الشعر، مثلما يتمنى هذا العصر الموبوء انحسار الشعر، كي يتم تحويل الشعر إلى بضاعة مباعة قابلة للبيع والشراء والتحكم السوقيّ السوقي، لأن ملكَ وملكة هذا العالم الميتين يريدان الإنسان مثلهما ميّتاً وآلة بلا مشاعر، كي يتعاظم الانتاج، وينسكب الذهب أكثر في المعابد الملعونة.

لكن الشعر ليس منتجاً استهلاكياً ولا بضاعة يمكن ترويجها، ولا هو معرّضٌّ للموت ولا للانحسار، ولا للإبادة، بل هو بآلاف الصحة والعافية الأشكال والأنواع اللغوية، من الشعبي البسيط الى آخر شعرٍ تجريبي يولد على مسارح العالم اليوم..

أكثر فأكثر تتمدد مملكة الشعر ويمد ظلال نصوصه وقصائده ليحمي الإنسان من وحشية الواقع الإنساني، مثلما حماه طوال التاريخ وما قبل التاريخ من الواقع الفلكي، ومن كوارث الطبيعة والقضاء والقدر وغضب الآلهة ولعنات الشياطين، تعلو نجوم الشعر خارجة حتى من تأثيرات الزمن، وتبقى منيرة خالدة ومجيدة مقدسة مثلما هو الشعر خالدٌ ومجيدٌ ومقدّسٌ في قلب الشاعر..

اظن ها قد حان الوقت اليوم في هذا العالم المتعصّب ضيّق الأفق بأناه المتضخمة واستقطاباته الحادة، حان الوقت لنؤكد ما أدركناه من قبل بالتجربة، من أن الشعر يضيق بالتعصب، والتطرف، خاصة التعصب للأشكال الفارغة، وأن المغامرة التي يقرر فيها الشاعر أن يخوض البحار والمحيطات، هي مغامرة خصبة، وفي الشعراء سماء عيسى الذين بثوا الحياة وأحيوا هذه الأمسية الليلة بشعرهم خير رمزٍ شعريّ وبرهان..

بمثل هذه المغامرات العمانية اصبحنا اليوم نقيم احتفاءاً كهذا الاحتفاء مدركين أن الشعر العالمي ليس معزولاً عنا، ولا نحن معزولين عنه، ولعل الأكاديميين اكثر انشغالاً بالسؤال عن ملكية قصب السبق أكثر، أما انشغالنا فبما رفدته تلك المغامرة الرائعة ومثيلاتها اللاحقات من خصوبة وثراء وحرية ثمار لأرض مشاعرنا المعاصرة، وبما تعدنا به من ثراء مستقبلي لن يتوقف، تلك المغامرة التجريبية التي تم انجازها والانحياز لها وسط فضاءٍ مغلقٍ كان متحسساً من كل شكل من أشكال التغيير والتحديث، أو الخروج عن النمطية، لكن الذين ذهبوا في تلك المغامرة أسسوا فن ثقافة منفتحة جديدة لم تتوقف في حدود الشعر بل رفدت كافة اشكال الفنون والثقافة الأخرى ووسعت حدودها الضيقة بحدود ابداعية جديدة، ولذلك نحن مدينون لتلك التجربة بالكثير الكثير الذي لم نستوعبه بعد.

الشاعر ممسوس كالآخرين، لكن الفن الذي يمتلكه يجعله يستطيع أن يحول ذلك المس إلى لغة تعبيرية ممسوسة هي الأخرى تستطيع نشر العدوى بين متلقيها. وتلك العدوى هي الشعر..

الشعر هو تلك اللحظة التعبيرية المكثفة التي يقبض عليها الشاعر من بين الجراح والدم والدموع، بينها وبين البلسم الشافي، وبين الحياة والموت، ليضعها في قصيدة يمكن استعادتها وقرائتها في الزمن، ذلك الشعاع المنعكس من الحدث الزمني المجمّد وهو حيّ في القصيدة، والقصيدة والنص يحاولان السكن خارج الزمن، خارج فضاء التحول والتبدل والفناء والعدم، ليبقى بهذه الطريقة كتاب الموتى المصري الذي ترجمه عبدالله حبيب مرة ممكن القراءة في اللغة العربية كما في اللغات الأخرى، أو لتبقى أعمال أبي مسلم البهلاني المكتوبة منذ مائة عام والتي جمعها وأعدها وحققها محمد الحارثي متاحة للاستعادة والقراءة، أو لتبقى السيرة الشعرية لحياة عابدات الفرفارة وأمهات الواصل التي أمسك بها قبل أن تتلاشى سماء عيسى حية ومتألقة في رمز شعري..

أخيراً إن كل روح حية وكل حياة تمتلك نوراً شعرياً، وبالشعر أصبحت الإشراقات الشعرية متاحة للشعور بها والحدوث ليس في روح الشاعر وحده، بل في كل روح تتنزه في المملكة الشعرية وتقترب وتتبارك من النور المنبعث من فن الشعر..

 

 


[i]ألقيت هذه الكلمة على هامش الأمسية الاحتفائية التي أقامها النادي الثقافي بمسقط باليوم العالمي للشعر والتي أحياها الشعراء عبدالله حبيب ومحمد الحارثي وسماء عيسى..

السابع والأربعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد