مجلس التعاون الخليجي ، موجبات الاتحاد و تحديات السياسة

لا يعيب المجلس انه نشأ في هكذا ظروف و انه جاء كردة فعل للأحداث السياسية القائمة آنذاك، فذاك من طبائع الاشياء. و لكن الفراغ الفلسفي الذي يعانيه المجلس و لا يزال، يشكل تهديدا وجوديا يمكن ان يأتي على بنيانه من القواعد. و من مؤشرات غياب التأسيس المفاهيمي مثلا، ذلك التباين الحاد بين الموقفين السعودي و العماني إزاء مفهوم الاتحاد. فبينما طرحت السعودية مشروع الانتقال من مرحلة التعاون الى مرحلة الاتحاد، و لكن برؤيتها و شروطها هي، أبدت سلطنة عمان رفضا قاطعا ليس للمشروع السعودي فحسب، و لكن للمبدأ ذاته و هددت بالانسحاب من المجلس في حالة تواطئه على اي شكل من اشكال الاتحاد. و حسبك بهذا دليلا على خطورة الافتراق المفاهيمي و غياب الاطار الفلسفي المؤسس لهوية المحلس و الضابط لأدائه الاستراتيجي. و رغم أن وثائق التأسيس قد نصت على “الوحدة” كمقصد نهائي لهذه المؤسسة الخليجية، غير أن الاداء الاستراتيجي عل الارض لا يقترب من ذلك المقصد، بل ان بينهما بُعد المشرقين. فليس في مشاريع المجلس العملية ما يسير في هذا الاتجاه و ليس فيها ما يجسر الفجوة المفاهيمية بين أعضاءه.

الحكم على الشيء فرع عن تصوره.  تشكل هذه المقولة الأصولية مدخلا معرفيا لفهم الحالة الجيوستراتيجية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية . يبدو هذا الكيان اليوم، و بعد مضي اكثر من ثلاثة عقود على انشاءه، حالة استثنائية وسط المحيط العربي الذي لا تكاد أمواجه تهدأ حتى تضطرب، و لا يكاد بركانه يسكن حتى يفور فورانا يعجز معه الراصد الحصيف عن استشراف مآلاته أو التنبؤ باتجاهاته. فلا يمكن فهم الحالة الخليجية بمعزل عن الحالة العربية الاشمل، فبين الحالتين من التداخل العضوي و الموضوعي كما بين العام (العربي) و الخاص (الخليجي).

تمثل الحالة العربية العامة، بوهنها الاستراتيجي و تشوهاتها الحضارية، و أنساقها السياسية الجانحة الى القهر و الاستبداد، الحاضنة الجيوسياسية لهذا الكيان الخليجي العائم على سطح الماء منذ اكثر من ثلاث و ثلاثين عاما: فهو لم يغرق (رغم تعرضه مرارا لتيارات جارفة) ، و لكنه أيضا لم يصل الى وجهته النهائية (إن كانت له وجهة أصلا)، و كأنه يستعذب حالة الطفو هذه و السير على غير هدى. هذا بالضبط ما عنيته في توصيف المجلس بحسبانه “حالة استثنائية” في بيئة عربية سِمتُها الغالبة الاضطراب و التمزق و تعاقب الاخفاقات، حتى لا تكاد تعثر فيها على نجاح حضاري معتبر !!

حالةالتيه السياسي هذه التي عليها المجلس ولًّدت اتجاهين سياسيين إزاء تقييم مسيرته: فهناك من يزعم ان بقاء المجلس على قيد الحياة و قدرته على تجاوز مهددات الاندثار هو في حد ذاته نجاح جدير بالاحتفاء و التبجيل. و لعل قيمة هذه المقاربة تكمن في مقارنة المجلس ، من حيث قدرته على النجاة من الغرق و الصمود في وجه العواصف العاتية، بنظرائه من الكيانات العربية التي قامت ثم  إندرست ، ليس لأسباب موضوعية قاهرة، و لكن لاعتبارات مزاجية واخرى ذاتية متصلة بطبيعة النظم السياسية المكونة لتلك الكيانات. و يأتي على رأس تلك التجارب الفاشلة: مجلس التعاون العربي الذي تأسس في بغداد في السادس عشر من فبراير لعام 1989، و ضم كلاً من العراق و مصر و الاردن و اليمن (الشمالي). و في اليوم التالي (17-2-1989) تم الاعلان في الرباط عن ولادة كيان عربي اقليمي جديد حمل اسم اتحاد المغرب العربي تشكل من الدول العربية المغاربية الخمس: المغرب و الجزائر و تونس و ليبيا و موريتانيا. و في مارس من العام 1991 ائتلفت دول الخليج الست في تحالف أمني مع مصر وسوريا تحت اسم: دول إعلان دمشق. لم تلبث تلك الكيانات إلا قليلا حتى تفككت و ترهلت واصابها من الوهن ما جعلها مقعدة سياسيا، ثم صارت أثرا بعد عين.  بينما بقي مجلس التعاون الخليجي يقاوم عوامل التعرية السياسية سنين عددا. ليس هذا فحسب، بل استطاع ان يحقق قدرا من الانجاز في الفضاءات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية على صعيد المشاريع المشتركة.

أما الاتجاه الآخر فيرى ان المجلس بما آل اليه يجسد حالة متقدمة للإخفاق السياسي، فهو لم يحقق انجازا استراتيجيا يصلح مثالا للإشادة والاعتداد فضلا عن التدليل على مركزيته وجدواه الاستراتيجية للأمن القومي لشعوب الاقليم. هذا التباين الحاد في التقييم، و الذي يصل الى حد التعارض المطلق، يعكس تباينا عميقا في المعايير المستخدمة، و اختلاف المعايير هذا يعكس بدوره اختلافا في المرجعية الفكرية و الصورة النمطية المستقرة في ذهن كل طرف عن الوضع المثالي الذي ينبغي أن يكون عليه المجلس. 

تسعى هذه الورقة الى تلمس التحديات السياسية التي تعترض سبيل الوحدة الخليجية ، في حدها الادنى و هو النموذج الكونفدرالي. أعلم ان التحديات السياسية لا يمكن ان تعالج بمعزل عن نظيراتها الاقتصادية و الاستراتيجية ، و لكننا لاعتبارات علمية صرفة سنقصر تناولنا على المحددات السياسية دون غيرها.

و لكن، هل نقطة الانطلاق هنا هي أن هناك مشروعا اتحاديا متماسكا قد تم التوافق على مكوناته الكلية و مفاصله الاستراتيجية ، و هو قيد الانجاز، و لكن تعترضه بعض المعيقات و تستبد به بعض التحديات، و بالتالي فالتحليل يتجه الى تناول تلك التحديات و الوقوف على تلك العثرات بغية فرزها و تحديد مكامنها و اقتراح سبل إزالتها، ثم الانتقال الى بلورة حزمة من الديناميكيات المفضية الى المقصد النهائي: الاتحاد الكونفدرالي ؟

الاجابة : كلا !! فالمجلس تفصله مفاوز شاسعة المدى عن تلك المرحلة. أحسب ان المجلس لم يغادر مرحلة “العنوان” الى مرحلة “البنيان”. بل حتى العناوين المعبرة عن البعد الوحدوي في مسيرة المجلس لم تستطع المحافظة على حضورها الاعلامي، فصارت أثرا بعد عين. أين مشروع الجيش الخليجي الموحد، الذي كان يمكن ان يكون نقطة ارتكاز لبناء الوحدة العسكرية؟ أين مشروع الوحدة النقدية، الذي كان يمكن ان يكون منطلقا لبناء الوحدة الاقتصادية؟ أين مشروع الانتقال من مرحلة التعاون الى مرحلة الاتحاد، ذلك العنوان الذي عده كثير من المراقبين تدشينا لمرحلة فارقة في مسيرة المجلس؟

كل تلك العناوين اضحت دالة على الاخفاق و اشاعت في الضمير الجمعي الخليجي حالة من القنوط. إذاً، فالبحث في التحديات السياسية لا يأتي في سياق الفرضية المشار اليها آنفا، و هي فرضية وجود مشروع وحدوي تعترضه جملة من حوائط الصد، و انما يأتي في سياق غياب كلي لهكذا مشروع. و بالتالي فان منهجية التعاطي مع الفرضية الاخرى، أي اللاّ مشروع ، تُعنى بالمهددات و ليس بالتحديات السياسية، و هي تلك المهددات التي تصوب تهديدا وجوديا لمجلس التعاون ليس من حيث قدرته على تجاوز الأزمات و الاستمرار في حالة العوم بلا وجهة كما هو الحال منذ النشأة و الى هذه اللحظة، و لكن من حيث المشروعية و الادوار الاستراتيجية. نعم، المطروح اليوم هو سؤال المشروعية و سؤال الهوية الاستراتيجية.

و لست ازعم لهذه الورقة الاحاطة بكل المهددات الاستراتيجية، و لكني أوجزها في خمس:

أولا: غياب التأسيس المفاهيمي المتفق عليه بين الفرقاء المؤسسين و المحدد بدقة لهوية المجلس و شخصيته الجيوسياسية. نشأ المجلس في ظل معطيات دولية و إقليمية ذات صبغة صراعية حادة و تحولات جذرية شاملة. كانت الحرب الباردة هي الاطار الحاكم لحركة الصراع الدولي. و لكن كان هناك أيضا جملة من التحولات الإقليمية المرتفعة الحدة، يأتي في طليعتها:(1) الثورة الإيرانية و ما نتج عنها  من اختلالات عميقة في موازين القوى الإقليمية (خروج إيران من منظومة الحلف الأمريكي) و الدولية (ظهور إيران كرقم صعب في معادلة الصراع الدولي). ثم جاء إعلان تصدير الثورة و الحرب العراقية-الايرانية، ليشكلا تهديداً مباشراً للأمن القومي الخليجي. (2) الاحتلال السوفييتي لأفغانستان و قيام الجهاد الافغاني الذي أحدث نقلة تاريخية في الوعي الجهادي و شكل منصة للتعبير عن عمق الولاء للفكرة الاسلامية و عكس مستويات الاستعداد للتضحية من أجلها، الامر الذي قرع أجراس الانذار في واشنطن كما في العواصم الخليجية. (3)  ظهور تعبيرات غير مسبوقة للمشروع السياسي الاسلامي كانت تشي انه قد تجاوز مرحلة التخلق و التشكل الجنيني الى مرحلة التجسيد السياسي. و من تلك التعبيرات: أحداث حماة، ظهور الحركات الجهادية في مصر و اغتيال الرئيس السادات، إعلان تطبيق الشريعة في السودان، ثم أحداث الجزائر بعد بضع سنوات (1988).

 لا يعيب المجلس انه نشأ في هكذا ظروف و انه جاء كردة فعل للأحداث السياسية القائمة آنذاك، فذاك من طبائع الاشياء. و لكن الفراغ الفلسفي الذي يعانيه المجلس و لا يزال، يشكل تهديدا وجوديا يمكن ان يأتي على بنيانه من القواعد. و من مؤشرات غياب التأسيس المفاهيمي مثلا، ذلك التباين الحاد بين الموقفين السعودي و العماني إزاء مفهوم الاتحاد. فبينما طرحت السعودية مشروع الانتقال من مرحلة التعاون الى مرحلة الاتحاد، و لكن برؤيتها و شروطها هي، أبدت سلطنة عمان رفضا قاطعا ليس للمشروع السعودي فحسب، و لكن للمبدأ ذاته و هددت بالانسحاب من المجلس في حالة تواطئه على اي شكل من اشكال الاتحاد. و حسبك بهذا دليلا على خطورة الافتراق المفاهيمي و غياب الاطار الفلسفي المؤسس لهوية المحلس و الضابط لأدائه الاستراتيجي. و رغم أن وثائق التأسيس قد نصت على “الوحدة” كمقصد نهائي لهذه المؤسسة الخليجية، غير أن الاداء الاستراتيجي عل الارض لا يقترب من ذلك المقصد، بل ان بينهما بُعد المشرقين. فليس في مشاريع المجلس العملية ما يسير في هذا الاتجاه و ليس فيها ما يجسر الفجوة المفاهيمية بين أعضاءه. 

ثانيا: غياب نظرية مشتركة للأمن القومي الاقليمي:  لم يقدم المجلس حتى هذه اللحظة رؤية إقليمية مشتركة لمفهوم الامن القومي الخليجي، من حيث التعريف و حصر المهددات و تحديد آليات التصدي لتلك المهددات. بل ثمةَ إفتراق حاد في هذا المضمار. فهناك من يرى المشروع الايراني كأحد ابرز مصادر التهديد للأمن القومي الاقليمي. و هناك من يتعامل مع إيران بحسبانها رصيدا استراتيجيا يمكن الاتكاء عليه، و قد تعززت تلك المقاربة بفعل الموقف الايراني الداعم للنظام السوري و كرست مصداقية ايران بوصفها حليفا مستقبليا يمكن الاستنجاد به إذا إدلهمت الخطوب، بعكس الحليف الأمريكي الذي أدار ظهره لحلفائه الاقربين في مصر و تونس و اليمن، رغم التوسلات السعودية و الاسرائيلية له أن لا يفعل، و لكنه أصر و استكبر و غلبت عليه طبيعته البرجماتية. و هناك من قدر ان الثورة العربية التي أفرزت تحولا ديمقراطيا هي مصدر تهديد وجودي للنظام السياسي الخليجي، فطفق يساند القوى الموتورة في بلدان الربيع العربي، و يسعى الى إعطاب مشاريع التحول الديمقراطي و إجهاض الحراك الثوري.  و هناك من سارع الى إسناد القوى الثورية واصطف مع التحول الديمقراطي، معتبراً انه بذلك يقف في الجانب الصائب من التاريخ. و صفوة القول ان غياب نظرية مشتركة للأمن القومي الاقليمي يجسد حالة العجز البنيوي التي عليها مجلس التعاون، رغم توفر كل الدواعي الى ضرورة المسارعة لبلورة رؤية استراتيجية مشتركة.

ثالثا: ضعف الكتلة الحرجة قائدة التغيير: ليس النظام السياسي وحده من يصنع مصائر الامم. فقد جرت سنن التدافع على ان تنشأ في المجتمعات الحية كتلة بشرية تتوفر على شروط عالية من النضج السنني و النبل الانساني و الوعي السياسي هي التي تقود عملية التغيير و تصنع مستقبل الامة. تلك الكتلة الحرجة في المجتمعات الخليجية تبدو غائبة أو ضعيفة. و الراجح ان النظام السياسي متوسلا بمناهجه التعليمية و منصاته الاعلامية و آلياته السياسية و أدواته الأمنية  قد حال دون ظهور هذه الكتلة الحرجة ، و أعطب الجزء الظاهر منها عبر أدوات الحصار السياسي المضروب على الحركة الاصلاحية- بدرجات متفاوتة- في  دول المجلس. و من الامانة هنا ان نسجل أن تيارات الإصلاح الدستوري في الاقليم تخوض حرباً ضروساً ضد الحصار الامني، و هي رغم التكاليف الباهظة تحقق نجاحات مقدرة في اختراق حوائط الصد. و لعل ابرز مناطق الضعف لديها تتمثل في حالة التبعثر و الاستعلاء الفكري و غياب المشروع السياسي المتماسك.

رابعا: الارتهان الى إفرازات الصراع الدولي و الاقليمي: فالدولة الخليجية اليوم تبدو عاجزة عن الامساك بمفاتيح أمنها القومي. لذا فقد تحولت المنطقة الى مجرد “غنيمة” تخضع للتفاوض بين فرقاء الصراع على الصعيدين الدولي و الاقليمي، و غدت نهبا للمشروعين الأمريكي و الايراني. هذا الارتهان الى تداعيات الصراع الاقليمي ليس قدرا جيوستراتيجيا فرضته الجغرافيا، و لكنه عجز اختياري ناشئ عن عجز في التدبير الاستراتيجي. و المفارقة ان الدولة الخليجية تزداد توحشاً في مقارباتها السياسية و الامنية في الداخل، و تزداد إستنواقاً لإملاءات الغريم الإقليمي (إيران) و إكراهات الحليف الدولي (الولايات المتحدة الأمريكية). و لئن كانت علة الارتهان الى الخارج تعود الى حالة الهشاشة الاستراتيجية التي عليها دول المجلس، فإن الاتحاد الكونفدرالي هو المخرج من حالة الهشاشة تلك، و بالتالي التحرر من حالة الاستلحاق و التبعية. و لعل هذا يقودنا الى سؤال السيادة: هل تملك المنظومة الخليجية- بأوضاعها الراهنة- السيادة  الكاملة على قرارها الاستراتيجي؟ الجوب: كلا. و لكن هل تملك القدرة على تحرير قرارها السيادي؟ الجواب: نعم، و لكن بتحقق ثلاثة شروط : (1) تحرر النخب الحاكمة من حالة الاستهداف الناشئة عن الوسواس السياسي الذي ينتج صوراً ذهنية منفصلة عن الواقع و يشيع حالة من الارتباك في الخيال السياسي الرسمي. (2) الاستجابة  لمطالب الاصلاح الدستوري المفضية الى مشاركة سياسية حقيقية. (3) اعتماد الاتحاد كأساس مقاصدي للمجلس عبر آليات و مراحل زمنية بالغة الوضوح.    

خامسا: الممانعة الرسمية للإصلاح الدستوري. و تلكم هي الاخطر في سلسلة المهددات و الأبلغ أثرا على الصعيدين القُطري و الاقليمي. تبدو الدولة الخليجية اليوم منفصلة عن الواقع و يبدو صانع القرار فيها جانحا الى التفكير الرغائبي الذي يصور له الاشياء كما يحب هو ان يراها و ليس على حقيقتها. و هي تحسب أنها بذلك يمكن ان تفلت من استحقاقات التاريخ  و تقفز على نواميس التغيير. صحيح ان الحركة المطلبية في الخليج لم تتحول بعد الى كتلة حرجة قادرة على اختراق الممانعة الرسمية و قيادة التغيير. و لكن الصحيح أيضا ان وعيا سياسيا و حراكا مطلبيا يجتاحان المنطقة و يشكلان معا رافعة للإصلاح الدستوري. و الدولة الخليجية في سياق تعاطيها مع الحركة الاصلاحية تغفل خمس حقائق على الارض:

1. التحول الديموغرافي الذي أفرز جيلا من الشباب يشكل ما نسبته 60-70% من مجموع السكان. و هو جيل مسكون بجسارة غير مسبوقة و بدوافع صارمة للحصول على الحقوق المدنية. من المؤسف ان النظام السياسي الخليجي تعامل مع هذا المعطى تعاملا رقمياً، مع إغفال تام لمخرجاته السياسية و الثقافية. بل ان الدولة الخليجية اليوم تنظر الى هذا التحول الديموغرافي بحسبانه عبئاً اقتصاديا و خدمياً، دون ان تفطن الى ما يصاحب هكذا تحولات جذرية من تحولات في البنية النفسية و التكوين الثقافي لهذه الاجيال المنحدرة من صميم الحالة العالمية بمكوناتها القيمية و نضالها السياسي و أدواتها الاعلامية. فالمنطقة اليوم تزخر بجيل متصلٍ اتصالا وثيقاً بما صار يُعرف ب “القيم الكونية” التي تعلي من شأن الحريات العامة و تحتفي بحقوق الانسان و تعد المشاركة السياسية من الحقوق الاصلية. بينما تنفصل النخبة السياسية الخليجية انفصالا مشيناً عن منظومة القيم تلك. و لهذه القطيعة العقلية و النفسية أثمانها الباهظة.   

2. امتلاك أدوات التغيير: تمتلك الحركة المطلبية اليوم قدرة على التغيير غير مسبوقة في التاريخ البشري، و يتيسر لها من ادوات التمكين ما لا تستطع معه الاجهزة الرسمية قبضا و لا بسطا. فلم تعد صناعة الوعي حكراً على الجهاز الرسمي، و ليس بمستطاع الدولة ان تضرب حَجراً فكريا على مواطنيها. و الحق ان منظومة القناعات و القيم تتشكل بعيداً عن الرقابة الرسمية. ليس هذا فحسب، فالقوى السياسية (بفضل ما تتوفر عليه من أدوات التغيير) أضحت قادرة على إحداث حراك سياسي على الارض و إن رغم أنف السلطة. 

3. تراجع دور دولة الرفاه: إذ لم تعد الدولة الخليجية اليوم قادرة على الاستمرار في لعب الدور الرعوي و الوفاء باستحقاقات دولة الرفاه ، كما هي الحال في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن المنصرم. فتراجعت بسبب من ذلك سطوتها السياسية، و انتهت بسبب من ذلك مدة العقد الصامت الذي حكم علاقة الدولة بمواطنيها خلال سني العقود الثلاثة الاخيرة من القرن المنصرم، و الذي كان قائما على: الوفرة الاقتصادية و الخدمية مقابل التنازل عن الحقوق السياسية.

4. القيم الكونية: لم تعد المطالب المتصلة بالحقوق المدنية و الحريات السياسية و فصل السلطات و حق التداول على السلطة و العدالة الاجتماعية و حقوق الانسان حكرا على أمة بعينها او حضارة بذاتها، بل  تحولت الى قيم كونية يُطبق عليها المجتمع الانساني بأسره. و هي بهذا الاعتبار تعطي مشروعية لتلك القوى المنادية بالإصلاح الدستوري و توفر غطاءً سياسيا لكل من ينشط في  فضاءات العمل العام . الثقافة الكونية تلك، معضوده بالمواثيق الدولية و المبادئ الانسانية التي تواضعت عليها البشرية في هذا العصر، تدين المقاربات القهرية “للدولة” و تقدح  في “سلطتها الاخلاقية” كلما أوغلت في البطش السياسي و الانتهاكات الإنسانية. 

5. المشهد العربي الثائر: يبدو ان الدولة الخليجية قد أخفقت في قراءة هذا التحول التاريخي و غلب عليها التفكير الرغائبي مرة أخرى، فطاشت سهامها و أدلجت في مجاهل السياسة بضغط واضح من حالة ارتباك نفسي تغذت على معين ناضب من الفقه الاجتماعي و غياب كلي لفهم نواميس التدافع السنني و التداول السياسي. حسبت النخبة السياسية في بعض دول المنظومة الخليجية أن لحظة الربيع العربي إنما هي واحدة من تلك للحظات العارضة التي تستبد بالأمم في “غفلة من التاريخ”، فتسمح لقوى القاع السياسي ان تخترق الطبقات و تصعد الى الاعلى. و هي بهذا الاعتبار ليست لحظة اصيلة فاصلة في تاريخ الامة، فلا ينبغي الاستسلام لها. بل يجب تطويقها و استئصالها كي لا تتحول الى حالة مُعدية تنفث سمومها في جوارها السياسي و تغدو مصدر الهام و تحريض، فتأتي على ثقافة “الاستبداد” التي استقرت في الضمير الجمعي و انعقد عليها الإجماع و اكتسبت مع تعاقب الدهر قدراً من القداسة الفكرية و الحصانة السياسية. هكذا نظر القوم الى المشهد العربي الثائر و هكذا قدّر العقل السياسي الخليجي (في بعض دول المجلس)، فقُتل كيف قدّر. و بإيحاءٍ من ذلك التقدير تورطت الدولة الخليجية في معارك طاحنة، ليس مع القوى الثائرة في المحيط العربي، و لكن مع حركة التاريخ. و هذا ما لم يفطن له العقل السياسي الرسمي الذي كان مسكوناً بخوف مصطنع من المشروع السياسي الاسلامي، فطفق يحارب طواحين الهواء، فاسرف على نفسه و على الناس.

الخلاصة:  نخلص من هذا المسح التحليلي الى ثلاث استنتاجات كلية: (1)  يعاني المجلس من تيبُس في مفاصله، و هو بحالته الراهنة يبدو عاجزاً عن الاستجابة لمقتضيات المرحلة. فغياب التوافق المفاهيمي مقرونا بغياب الرؤية المشتركة لمفهوم الأمن القومي الاقليمي و شراسة النظام السياسي في مقاومة التغيير كلها تشكل عناصر إنهاك و تبديد لمواطن القوة. و رغم ذلك، فإن المجلس يملك قدرة كامنة على تجاوز هذا الخط العاثر و الانتقال الى مرحلة الاستجابة لتحديات اللحظة إذا توفرت الشروط و انتفت المانع التي أشرنا الى بعضها في هذه الدراسة الموجزة. (2) الاصلاح الدستوري المفضي الى حضور الصوت الشعبي في القرار الاستراتيجي هو القضية المفتاحية التي تتوقف عليها سائر القضايا المركزية المحددة لمصير هذا الاقليم، بما في ذلك الوحدة الخليجية. و مقدمة الاصلاح هي ان يتجاوز العقل السياسي الرسمي حالة “الرعب” من مفردات الحرية و التعددية و المشاركة و العدالة الاجتماعية و حقوق الإنسان، كي تغدو هاته المفردات جزءاً من الخطاب السياسي و تُدمج في الثقافة المجتمعية. (3) الاتحاد الكونفدرالي هو الرافعة التي يمكن أن تنقل إقليم الخليج من مرحلة “اللاّوزن” الى مرحلة الفعل الاستراتيجي على الصعيدين الاقليمي و الدولي. غير أن مشروع الاتحاد مرتبط بالقضية المركزية الأم: “الاصلاح الدستوري”. فالمعطل الجوهري للمشروع اليوم هو التجاذبات القطرية و نخبوية القرار السياسي، و ما لم تنعتق المنطقة من هذه الحالة الاستثنائية (أعني الاستيلاء المطلق على السلطة و الثروة)، فلا رجاء يُذكر في قيام مشروع وحدوي بشروط استراتيجية حقيقية. 

*قُدمت هذه الورقة للمؤتمر الخامس لرابطة علماء الشريعة في الخليج الذي انعقد في البحرين في الفترة من 23-24  مايو، 2014.               

الخمسون سياسة

عن الكاتب

عبد الله بن محمد الغيلاني