قبل ايام قلائل مرت على عمان زوبعة أثارتها -كعادة هذه الأيام- مواقع التواصل الاجتماعي. وسميتها زوبعة لا لحجمها الكبير ، بل للردود العنيفة وشبه العنيفة التي صاحبتها ، ولما تسببت به من آثار نفسية واجتماعية قد يطول امدها في النفوس. وربما رتب “بعض” مواطني هذا البلد أمورا اعمق، بل وربما ولدت ردود أفعال “مزعجة” عند بعضهم.
“الزوبعة” كانت من خلال تصريح صدر من أحد “المواطنين” أخرج فيها “مواطنين” آخرين من نسبتهم لهذا الوطن، واعتبرهم وافدين نالوا حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها كاملة، ويمارسون حرياتهم كما يشاؤون في وطن لم يكونوا من أهله.
لست هنا بصدد مناقشة تصريح “هش” و “ركيك” كهذا، أغفل فيه صاحبه أو “تغافل” عن أبسط حقائق التاريخ وبديهياته، وكأنه لم يقرأ شيئا عن تاريخ عمان وما حدث فيها من هجرات متعاكسة، وكيف استوطنت فيها القبائل المختلفة، وكيف جاءت تسمياتها، وووو…
فهذا نقاش استفاض فيه كثيرون ممن تصدوا للرد على “المصرِّح” سواء من خلال نقاش علمي او تغريدات سريعة، أو تعليقات ساخرة تارة، وهجومية أخرى.
كما إني لست هنا لأضع نفسي او من اخرجهم “التصريح” من المواطنة في قفص الاتهام والمحاكمة نتيجة هذا التصريح، ولا لأصرخ بأعلى صوتي أني مواطن فاشهدوا لي، فالتاريخ يشهد من أنا، وكم هي متجذرة عمانيتي، ولا انتظر شهادة من أحد ليقول لي انت مواطن أو وافد، فالوطن وحده من يشهد ان كنت مواطنا ام لا، وهو وحده يعرف مساهمتي في بنائه مع اخواني من كل العمانيين.
ولست ايضا بصدد الافتخار بعرقي وقبيلتي ، يكفيني فخرا من العربية لغة القرآن، وتلك الثقافة الإسلامية التي احتوتها هذه اللغة في تراثها، ومن الدين الاسلام الذي أتى رحمة للعالمين. ولست هنا بوارد مهاجمة الشخص الذي ادلى بمثل هذا التصريح، فقد كفاني مؤونة الرد اعتذاره وتصريحه بأنها كانت “زلة لسان”. وسواء كان وراء تراجعه عن التصريح “الزوبعة”، معرفته بخطئه العلمي، ام إحساسه بأن تصريحه يهدد بشرخ في وسط مجتمع متسامح مسالم متحاب، أم رغبته في امتصاص “الغضب” الذي أعترى الكثيرين من أبناء هذا الوطن ، سواء من اعتبرهم “وافدين” ام “مواطنين”.
أيا كانت أسبابه في هذا التراجع، فإن مجرد الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه حسنة تحسب للرجل، وهو (الاعتذار) عمل فيه الكثير من الايجابيات، ويكفي في هذا الاطار ان نؤكد ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام “والله ما أرى عبداً يتقي تقوى تنفعه حتى يختزن لسانه” ، فقليل من التفكير قبل نشر اي كلام سيقي البلد وأهله الكثير من المشاكل و “الزوابع”.
ما أريد التركيز عليه هو تلك الروح العمانية المتكاتفة والتي تجلت بوضوح في الردود التي أعقبت التصريح، فالردود لو حصرناها لوجدنا أغلبها من أشخاص لا ينتمون للقبائل التي تم ذكرها بالتصريح، هؤلاء كلهم استنكروا هذا النوع من التصاريح، ورفضوا اخراج اخوان لهم ممن عاشوا على ارض هذا الوطن مئات السنين، وتاريخهم يشهد مساهماتهم في بناء هذا البلد، رفضوا اخراجهم من مسمى “مواطن” الى مسمى “وافد”، رفضوا ان يتم تحريف تاريخ عمان، وتقسيم من يعيشون على ارضه من خلال هجرات قديمة، اغلبها هجرات متعاكسة.
هذه الروح التي شاهدناها في هذه الردود أكدت مرة أخرى “عافية” هذا الوطن، وحيوية أهله، وتماسك شعبه، ومستوى التسامح الذي يتحلى به. روح طالما أثنى عليها القاصي والداني، روح أكدت الرفض لكل ما من شأنه تفريق المجتمع الواحد، وتهديد السلم الأهلي، وتشتيت الطاقات بهذه “الخزعبلات”. وبعيدا عن الإنشاء والتفنن في التعابير، ما يجب أن يتم التأكيد عليه ، والعمل لأجله هو إبقاء هذه الروح، وهذا التلاحم داخل هذا المجتمع، وهذا ليس بالأمر الهين او السهل.
فما يحدث في العالم من إصطفافات طائفية ومذهبية ودينية وعرقية أمر مخيف جدا، ويدق ناقوس الخطر في بلادنا.
ولا اشير هنا الى جهة بعينها، ولا الى فئات محددة، ولكن من الواضح ان هناك جهات تقتات من كل هذا، وجهات تنتفع مما يحدث من تفرق في المجتمعات لأسباب طائفية عرقية، وهذه الجهات لا تتوانى عن صرف المليارات في سبيل أهدافها هذه، ولا تتوانى عن القتل والذبح والكذب والتدليس وإشعال الفتن في سبيل تحقيق مآربها.
وما يحدث في العالم لن تكون عمان بعيدة عن مرماه، ومحاولات هذه الجهات في خلق هذه الفوضى ستكون جادة في الدخول لزعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي للبلد، ولن تغفو اعينهم او يرتاح بالهم الا بعد ان يصلوا لمآربهم. لذا فمسؤولية المواطن ومسؤولية المعنيين بأمر هذا الوطن ، والمؤثرين فيه وفي قراراته يجب أن تتضاعف، وأن يتم التركيز توعويا وعمليا في ترسيخ هذه الروح السائدة من المحبة والتسامح واللين، وفي تعميق هذه الأواصر الجميلة بين المواطنين في البلد.
وهنا اطرح بعض الخطوات العملية مثالا لا حصرا، علها تساهم في هذا المشروع الذي اراه يرقى للمشاريع الوطنية ذات الاولوية القصوى نتيجة ما يمر به العالم من اصطفافات انهكت الاوطان وأضرت وفتكت بالإنسان:
– الإكثار من المشاريع “التجميعية” المشتركة بين مختلف فئات المجتمع من قبائل ومذاهب، فعلى سبيل المثال مشروع “واعتصموا..” والذي تلاه مشروع “واعتصموا.. هويتنا”، بأناشيده الرائعة، وأدائه الأروع، وبما ضمه من تنوع في “المنشدين” قبليا ومذهبيا.
مشروع قام على أكف وجهود شباب أرادوا لوطنهم الخير، فسعوا لإعلاء روح الوحدة فيه، وتأسيس فكر التعايش القائم على الحب والود، من خلال لغة موسيقية يفهمها ويحبها الجميع، وبذلوا في سبيل ذلك وقتهم وجهدهم وأموالهم، ساعدهم في جزء من هذا الجهد بعض رجال أعمال آمنوا بهم وبعملهم، فخرج الألبوم الأخير أنيقا فارها مؤثرا ذو صدىً في الإعلام وفي القلوب والنفوس.
مشروع حق أن نحني الهامة إجلالا له ، لأن هدفه كان وطنيا إسلاميا عاليا ساميا.
كذلك مشروع حفل مولد النبي الأكرم (ص) المشترك والذي “كان” يقام في مسجد الرسول الأعظم (ص) بكورنيش مطرح تحت رعاية سماحة مفتي عام السلطنة الشيخ الخليلي، مشروع كان يضم القبائل والمذاهب المختلفة، في وحدة وتحاب لا يستطيع غير نبي الرحمة ومناسبته العظيمة تحقيقها، هذا المشروع الذي غاب فجأة، وللأسف لم تحرك المساجد الأخرى لإكماله، من المهم أن يعود ، وبزخم قوي ، وتوسع التجربة في مختلف مناطق السلطنة، فلا يشعر العماني بهذه الفوارق الهزيلة ، بل المواطنة هي ما تجمعنا وتوحدنا.
ومن المشاريع التي حققت هذه الرؤية الجميلة مشروع الزواج الجماعي بمنطقة الخوض بولاية السيب، والذي ضم عرسانا من مختلف المذاهب والقبائل، في روح جماعية واحدة.
وكذلك مشروع الأمسية الشعرية الحسينية بصحار، والتي تجاوزت عقدا من الزمن، وكانت تضم شعراء عمانيين من مختلف المذاهب يصدحون في شهيد كربلاء الحسين بن علي حفيد النبي الأكرم (ص).
مثل هذه المشاريع وغيرها لا بد ان يتم تعميمها، والتأكيد عليها، ودعمها معنويا وماديا، لأنها تحقق تعميقا للمحبة بين العمانيين، وتبعدهم عن الفوارق الوهمية التي يتصيد من خلالها دعاة الفتن والتخريب.
– الزيارات المتبادلة قبليا، وعيادة المرضى وحضور الجنائز و “العزيات” ، ولا اقصد هنا الزيارات الفردية ، فهذا حاصل من خلال الحس الاجتماعي القائم في نفس كل عماني، بل الزيارات الجماعية على مستوى القبيلة، وفي المناسبات المختلفة، وتعميق أواصر تبادل الزيارات والتواصل المستمر النابع من الحرص والمحبة والاحترام.
وأعضاء مجلس الشورى ، ومشايخ القبائل خير من يستطيع القيام بهذا العمل والتأكيد عليه، وأخذ المبادرة لتطبيقه.
– إقفال الباب وسده أمام كل ما يمكن أن يعكر صفو العلاقة بين العمانيين، سواء كان قولا أم فعلا، وجعل هذه العلاقة الطيبة هي الأساس الحاكم على كل تصرف آخر، فإذا لم يتسق التصرف مع هذه العلاقة المنشودة ينهى عنه بالنصيحة والحوار ومن ثم بأية وسيلة ممكنة، وهو ما شاهدناه يتحقق فعلا أمام “التصريح الزوبعة” والذي كان من حسناته انه شجعني على الكتابة بعد فترة استراحة ذهنية.