الكاتبُ الناجحُ يتميّزُ بمواصفاتٍ عدّة، منها أنّه يكتبُ ما يلامسُ واقعَ مجتمعه، و يعالجُ همومَ قارئيه، و يعكسُ ثقافةَ بيئته، فإن جنحَ كاتبٌ إلى ما يخالفُ ذلك فأصبح يكتبُ في مواضيعَ بعيدةٍ عن واقعه، و يعالجُ قضايا لا تمتّ له بصلة، و يستخدمُ لغةً غيرَ لغته، و يعكسُ ثقافةً خلافَ ثقافته، فإنّه -لا ريب- لن يكون سوى طائرٍ يغرّدُ خارجَ سربه، و زارعاً يحرثُ غيرَ أرضه! و لن تكون كتابتُه سوى صوتٍ نشازٍ قد يُحدثُ ضجيجاً، لكنّه –قطعاً- لن يُصدرَ لحناً عذباً يشنّفُ الآذان أو يخلبُ الألباب بلهَ أن يعالجَ قضيّة أو يحلّ مشكلة!
لكن ما الذي يجعل بعض “الكتّاب” يقعُ في شيء من ذلك النشاز؟ هناك أسبابٌ كثيرةٌ لذلك؛ يحاولُ هذا المقالُ رصدَ بعضٍ منها.
يتعرّضُ بعضُ “الكتّاب” لمواقفَ يكونُ لها أثرٌ بالغٌ عليهم، فتصبحُ مثل “العقدة” التي لا تنفكّ عنهم -مهما كانت حادثةً نادرةً الوقوع- و تصيرُ هماً يشغلُ بالَه و يؤرّق ليلَه! فينقلبُ لا يرى الأحداثَ إلا بمنظورها، و لا يفسّرُ الوقائعَ إلا على ضوئها، و كثيراً ما يكون هذا الأمرُ شيئاً سيئاً تعرّضَ له “الكاتبُ” في صغره أو رآه ماثلاً أمامه في دائرةِ معارفهِ ، فلا يزالُ ذاك الأمرُ يكبرُ معه، حتّى يُسقطَه على جميع أفراد مجتمعِه، أو على الأقل يعدّه ظاهرةً منتشرةً فيه.
و هناك صنفٌ ينغمسُ في دراسةِ ظواهرِ مجتمعاتٍ أخرى غير مجتمعِه، و ثقافاتٍ شتّى غيرِ ثقافته، فتراهُ لا يقرأ إلا ما كُتبَ فيها و بها و عنها، و لا يزالُ كذلك حتى يتشرّبَها في قلبه و عقله، و تملكُ قشرَهُ و لبّه، ثمّ ينثني محاولاً إسقاطّها على مجتمعه، و مفتّشاً عن مظاهرها فيه، و حينَ لا يجدُها؛ يخترعُها اختراعا، و يبتدعُها ابتداعا، حاشداً في سبيلِ ذلك كلّ طاقته، مستعيناً بما يستطيعه من تحويرٍ و تنظير قد يصلُ حدَّ التدليسٍ و التغرير! و لعلّ أوضحَ مثالٍ على هذا الأمر هم أولئك “الكتّاب” المتأثرون بالفصام الواقع بين “الكنيسة” و “العلم”، و الخصام العتيد بينهما في البلاد “المسيحية”، فطفقوا –جهلاً و تقليداً أعمى- يحاولون إسقاطّها على مجتمعنا العماني! و حين صُدمَ هؤلاء بعدم وجود ما يمكنُ أن يعدّ “كنيسة”؛ طفقوا “يخترعونها” فجعلوها تارةً مؤسسةً حكوميّةً رسميّة (وزارة الأوقاف تارةً و مكتب الإفتاء تارةً أخرى)، و أخرى أفراداً مخصوصين (الفقهاء مثلا)، و ثالثةً فئةً في المجتمع (فئة المتديّنين غالبا)!! ثمّ نصّبوا أنفسهم “العلماء” الذين تمارسُ عليهم “الكنيسة” المفترضة “وصايتها البابوية”، و جمحَ بهم خيالُهم فرأوا إقصاءً و قمعاً و تسلطاً و “محاكمَ تفتيشية” و أموراً لا وجودَ لها إلا في خيالاتهم!! فأصبحوا كالمحارب الذي برز في ساحة القتال مدججاً بأسلحةٍ شتى، و ما خصمُه إلا السراب!! و إنّ المرءَ ليعجبُ أن يبلغَ “التقمّصُ” و التأثّرُ هذا الحدَّ الذي يجعلُ صاحبَه منبتاً عن مجتمعه، منفصماً عن واقعه، ثمّ إن العجب ليبلغُ مداه حين يجدُ هؤلاء يرفعون عقيرتَهم بمحاربة “التقليد”، ثمّ لا تكون أسلحتَهم في محاربته إلا ترديد كلامٍ قيلَ من أناسٍ مختلفين في مجتمعٍ مختلفٍ و لواقعٍ مختلف، فصاروا كمن حفظَ نشيدَ رثاءٍ و ترح فجاء ينشده في حفلِ عرسٍ و فرح، أو كذلك الرجل الذي قرأ كثيراً عن تكيّس “المبايض” حتى أصبح مؤمناً أنّه مصابٌ به؛ و غفلَ ألا “مبايض” للرجال!!
ثمّ هناك من يرى أنّ “الثقافةَ” و “التنوّر” تستدعي مخالفةَ المجتمع و قيمه، و أنّه لا يمكنُ أن يعدّ من “النخبة” إلا من كان ذلك حالُه، فلا يجدُ من سبيلٍ لإثبات “ثقافته” و “تحرّره” إلا بمخالفة المجتمع و مسلّماته؛ و مهاجمةِ عاداته و تقاليده، هكذا إطلاقاً دون تفصيلٍ أو تمحيص! و لا يُنكرُ أنّه ينبغي للكاتب أن ينقدَ مجتمعَه و يعالجَ المظاهرَ السلبيّةَ فيه، لكن ينبغي أن يكون ذلك عن نظرٍ و تفكّرٍ و تمحيص، إذ ليس كلّ عادة ذميمة و لا كلّ تقليدٍ مذموم ، و إنّما الحاكمُ في ذلك الشرعُ و الخلق.
و قريبٌ من هذا الصنف الأخير؛ ذاك الذي يرى أنّه لكي يكون كاتباً “حراً” و “مثقفاً” و “متنوّرا”، فإنّه ينبغي له أن يكتبَ عن مواضيعَ ذاتها، و لو تجاوزها الزمن و لم يعد لها أثر، أو أنّها ليست بذاتِ أثرٍ خطيرٍ أو كبير، و هي قضايا لها علاقةٌ بالمرأة غالباً، و لعلّ قضيةَ استخدام كلمة “الأهل” في الحديث كنايةً عن الزوج تصلحُ أن تكون مثالاً هنا، فهذه القضيّةُ كانت موضوعَ مقالات عديدة، اطّلعتُ بنفسي على ثلاثةٍ منها لثلاثة “كتّاب” مختلفين في غضون مدةٍ يسيرة! فهل هي حقاً بتلك الخطورة التي تستدعي كمّ الكتابات الكثيرَ عنها؟ هذا طبعاً على افتراض أن استخدام كلمة “أهل” يشي بانتقاص المرأة -كما زعم “الكتّاب”- و إلاّ فإنّ اللغةَ و العُرفَ يقولان خلافَ ذلك؛ كما لا يخفى على من له إلمامٌ بشئٍ من مسائل اللغة و قضايا العُرف!
ثمّ هناك نوعٌ آخر و هو خاصٌ بالمهاجمين للتديّن و المتدّينين، فمعظمُ هؤلاءِ أناسٌ كانوا يوماً ما يعدّون “متدينين”؛ إلا أنّ تديّنَهم كان مبنياً على مجرّد عاطفةٍ لا يسندها علم، و لأنّ ما بُنيَ على جهلٍ لا بدّ له يوماً أن ينهار، فإنّ هؤلاء جنحوا إلى التطرّفِ و التشدّدِ فترةَ تديّنهم حتى انقطع حبلُ تديّنهم و انفرطَ عقدُه، فانقلبوا إلى الضدّ! و أصبحوا يرون في كلّ متديّنٍ صورةً لما كانوا هم عليه! و قذفوا المتديّنين بما اتصفوا هم به حالَ “تديّنهم”، فاتّخذوا مهاجمةَ التديّن و المتدينين سبيلاً للبراءةِ مما كانوا هم فيه، و طريقاً لإسكاتِ صوت ضميرهم في فترات صحوه؛ و أوغلوا في ذلك حتى تجاوزوه إلى القدح في الدين نفسه! و رغمَ أنّهم نجحوا في اكتشاف أنّ الجهلَ كان قرينَهم حال تديّنهم الماضي؛ فإنّهم فشلوا في إدراك أنّه لا زالَ خدينَهم حال تفلّتهم الحاضر! و أجدُ نفسي هنا مضطراً للتنبيه أننا لا نقولُ بعصمة المتديّنين أو ببراءتهم من النقد، فكلّ البشر –عدا الأنبياء المعصومين- يؤخذُ منهم و يردّ، و يصيبون و يخطؤون، لكن ننبّه أنّ النقدَ ليس إلقاءَ تهمٍ جزافا، أو تحقيراً لفئةٍ كبيرة، و لا يجوزُ أن تؤاخذَ جماعةٌ بجريرةِ أفرادٍ معدودين، كما أنّه ينبغي التفريقُ بين “المتديّن” و “الدين”، فالأولُ يُحاكمُ بالثاني و لا يُحاكمُ الثاني بأفعال الأول.
تلك فئاتٌ نزعمُ وجودَها غِبّ استقرائنا لكثيرٍ من الكتابات و “الكتّاب” بين ظهرانينا، و هي فئاتٌ قليلةٌ مقارنةً بغيرهم من الكتّاب الرصينين، و المثقّفين الحقّين، غيرَ أنّه -للأسف الشديد- يُقدَّمُ هؤلاء؛ أو بالأحرى يقدِّمُ هؤلاء أنفسهم على أنّهم هم أهلُ الكتابةِ و أربابُها، و أولياء الثقافةِ و حجّابُها، و دعاةُ التنوير و صنّاعُه!
يبقى أن نوجّهَ التحيّةَ لأولئك الكتّاب الذين لم يُنزلوا أنفسَهم برجاً عاجياً يطلّون منه من علٍ على مجتمعِهم و قومهم، بل كانوا أفراداً منهم، يعبّرون عن همومِ مجتمعهم و تطلّعاته بمدادِ أقلامهم، و يعالجون أدواءَه و عللَه بمشرطِ الطبيب الخبير، و المشفق الناصح، الذي يبذلُ جهدَه أن يستأصلَ الداءَ دون أن يصيبَ –تعمّداً أو جهلا- أعضاءَه الصحيحة، و ينسجونَ أفكارَهم على أساسٍ متينٍ من العلم و التأصيل لكي لا يقعون في تسفيه ما تسفيهُهُ ينادي بسفاهتهم و عظيمِ جهلهم!