لم يكن البرد وحده يحفر في عظامهما ، بل إن معول الجوع مذ يومين متتاليين لم يهدأ عن ثقب معدتهما الفارغتين اللتين طفقتا مذ الصبيحة تعزفان أنينا تصاعديا يعلو ويخبو في تسابق غريب من نوعه ، عزمت جدته العجوز أن تنهي هذا الإعياء مستسلمة رغما عنها للنوم ..
بينما تقلّب هو على جنبيه ، فما يزال سياط جلد الشرطي على ظهره يحرقه ، كثيرا ما كانت أمه تبكي حين تبصر خطوطا حمراء كأسياخ مجمرة تنحت جلده الهزيل بعشوائية ، فتضمد تجاويفها بسائل لزج كريه الرائحة تعجنه من أعشاب عديدة تلم بقاياها من هنا وهناك في البرية ، بينما لسانها يقذف لعانه على اليد التي خلفتها : ” سحقا لهم أولئك الملاعين ، أي بغايا أنجبتهم ” ..!
يظل لسانها يلوك لعناته حتى تندمل جراحه تدريجيا بفعل سحر أعشابها كريهة الرائحة .. وحينئذ يعود إلى سابق عهده ولكن بحذر أكبر ؛ كي لا يقع في أيدي أولئك الملاعين مرة أخرى كما كانت أمه تلعنهم ، ولكن حين كثفت الشرطة من حراستها في الشوارع ، ارتأى أن يتحصل لقمته من طريقة أخرى ، فكان في بعض الليالي يتسلل بخفة قط إلى بيوت يعرف أن أصحابها ذوي كروش كبيرة ويستولي على ما غلا ثمنه ، وعلى الرغم من محاولاته الناجحة إلا أنها لم تفرز سوى تشددا للحراسة من قبل أصحاب البيوت حين تناهى إلى بعض منهم خبر تلك السرقات التي تقع في آخر الليل ، بل بالغ بعضهم في حرصه باستقدام كلاب ضارية تلتقط رائحة اللص من على أبعاد ..
رغم أن ذلك أسعد والده ، فجرّه إلى عمله ، بعدما لم تجد أمه عذرها المعتاد كي تمنعه ، كانت تخشى عليه ، خاصة في الليل ، فعادة السكارى أولئك الذين كان والده ينتشل أموالهم في أثناء فقدهم للوعي ، لم يكونوا أقل خطورة من الشرطة التي تلهث وراءهم ، فلا يكاد ينسى تلك الحادثة التي أفزعته وهو ابن السابعة ، حين دنا من سكير بعدما استلم والده آخر ، هذا السكير توجه مترنحا إلى سيارته ، وحين فتح الباب لم يجد بدا كي يسرق ما بحوزته سوى أن يصعد إلى رديفه ، وحين اقترب منه حاول أن يمد يده إلى جيبه ، لكن سرعان ما امسك ذاك السكير بيده ، وقادها في وسط الظلمة إلى مكان لزج كابسا بقبضته القوية على يده الصغيرة ، أردف مع هذا الضغط يئن بصوت عال يتبعها بعبارات وقحة ثم أطلق لهاثا حادا مثيرا ، فجمدت الدم في عروقه ولم تهرب يده الصغيرة من قبضة يده القوية ، إلا بعد أن تراخت قوته من أثر القيء الذي اجتاحه دفعة واحدة ..!
مذ يومها بغض السكارى ولم تقبل أمه بالعودة إلا حينما أقنعها والده بأغلظ الإيمان بأنه سيلصقه به كظله .. وحين صرع والده في حادثة سير لم تقبل والدته بعودته مطلقا ..
و حينما غادرته هي الأخرى بعد أن نهش الجذام لحمها ، ظل يواظب على عادة التسول أحيانا حسبما تقتضي الظروف والسرقة في أحايين أخرى ..
“ آه ، آه ، آآآآه ” لم تكف جدته العجوز عن الأنين ، فمذ يومين لم يسقط في جوفها سوى الماء ، تحامل على نفسه رغم الإعياء الذي استطاله ، تسلل إلى الخارج ببطء ؛ كي لا يوقظ جدته المسكينة ، لم تكن السماء المظلمة أسعد حظا معه ، فها هي الغيمات المتشحات بالسواد تنذر عن عاصفة ، قطعا حينئذ سوف يتراخى الصندوق الخشبي المرقع كثوب بال الذي يحتميان فيه هو وجدته عن العالم الخارجي..!
اندفع بنزق يفتش ككلب ضال عن شيء ما يملأ معدته الخاوية ، توجه صوب القمامات ، زفر بحنق على الجوعى الملاعين الذين ينظفون القمامات والشوارع من كل شيء ، سرعان ما تناهى إليه أصوات نباح ، حاول أن يدنو من مصدر الصوت دون أن يغادره قلق من نوع ما غرسته جدته فيه حين كان صغيرا لكن جوعه الكافر قاده إلى مصدر النباح ، سرعان ما رأى ثلة من الكلاب متجمهرة في زاوية مظلمة من المقبرة ، وحين اقترب لم يشعروا به ، كانوا يتصارعون على قطعة لحم مثخنة بالدم يتسابقون في التهامها بشراسة .. ولما تراءت له رأس مشعثة بتقاطيع حادة ، كاد أن يفرغ ما في جوفه ، لكنه كان على جلد بطنه فلم يجد ما يلفظه .. !
استيقظ على جلبة جدته ، وهي تواصل أنينها الذي اعتاد على فراشها اليابس ، بينما يدها تضغط حجرا على معدتها بقوة ، حاول النهوض إلا أن الأشياء أخذت تدور من حواليه وكأنه على أرجوحة تعبث بها الريح ، سرعان ما تراءت له في زغللة وعيه دجاجة كبيرة يسيح منها الزيت ، وحين أحكم قبضته عليها كانت أطرافه الهزيلة تقبض على عنق جدته التي كادت أن تختنق لولا أن عاجلها بقطرات من الماء في فمها ، جاهد الوقوف رغم أوصاله اللاهثة من التعب وهو يشق خطى متثاقلة إلى الخارج ..
قادته خطواته المترنحة إلى أرض المقبرة ، حين تراءت له بقايا العظام التي أهملتها الكلاب بعد وليمتهم البارحة ، تأكد أن ما شاهده لم يكن حلما ، فقفل راجعا لكن قدمه علقت بشيء بارد ، نكّس رأسه كانت قطعة مشرئبة بالطين بفعل الأمطار ، تملاّها مليا بين يديه ، ثم أطبق عينيه وهمّ يمضغها بأسنانه الشرهة دون أن يبالي بذرات التراب التي استقرت في معدته ..
عزم أن يرابط قرب المقبرة كي لا يخدشه مخلب الجوع في الأيام القادمة ، خاصة تلك الكلاب الضارية أضحت مع القحط المتفشي تلتهم عادة الوليمة كلها ، ولا تبقي سوى على بقايا عظام ..
بعد مرور يومين لمح موكبا منتصبا على رأس المقبرة ، بينما معاول تردم فجوة عميقة في جزء منها ، حفظ في سره المكان جيدا ، تريث حتى انتصاف الليل فتسلل بهدوء إلى حيث الفجوة ، تحسس البقعة بيده ، كان التراب رطبا على نقيض المساحات الأخرى ..
استغنى عن المرابطة خلال الأيام التالية ، فالتجربة السابقة أوحت له أن التربة الرطبة تخبئ في جوفها وليمة طازجة ، وحينئذ يطفق في تقطيعها بسكينه الحاد ، يضعها في كيس أسود كبير ثم يواري تراب القبر ..
كان هذا اللحم يكفيهم لسبعة ليال ، وفي الليلة الثامنة يوسع خطواته الحذرة كما يفعل في كل مرة ، يحرر وليمته من التراب ، ولكن حين غدت يده تتحسس أكثر من موضع رطب ، كان لا يتوانى بإخراج تلك الولائم وتقطيعها وترك جزء منها لسد جوعهم ، والجزء الآخر طفق يعرضه على الباعة في السوق ..
مع الأيام أضحى أهم بائع لحم في الأرجاء ، غدت جيوبه ثقيلة ، استبدل تلك القطعة المرقعة التي ضمته وجدته إلى بيت واسع ، سهل عمله أكثر حينما استعان ببرادات لتخزين اللحوم التي كان يضطر أحيانا إلى حفظها لأيام عديدة حتى يبيع ما تحت يديه ..
ووحدها جدته غاض إحساسها بكل ما كان محيطا بهما ، فكانت صحتها تتردى رغم جمهرة الأطباء الداخلين والخارجين ، وفي أصبوحة أحد الأيام رأى نفسه أمام جسد بارد كقطعة جليد ..
مذ رحيلها شعر بيتمه الحقيقي ، ووحدها تجارة اللحوم سدت ثغرات ليالي الوحدة ، لكنها لم تخلو من مرارة الثقل ، وفي ليلة شعر بيد تجس كتفه الأيمن ، وحينما شرع عينيه شاهد بالقرب منه جدته تطلق صرخات مفزعة ما لبثت أن دنت منه وهم ّ كفاها تلطمانه بعنف سرعان ما أحكمت قبضتها على عنقه ، لكنه استطاع أن يقفز من فراشه مرعوبا وحين عاد إليه وعيه أدرك أنه تقلّب في كابوس بشع ، بينما جسده متفصدا بالعرق يرتعش..!
لم تكف تلك الكوابيس عن ثقب صمام لياليه التي أضحت تسيل فجاعة يوما بعد يوم ، فعزم في إحدى الليالي أن يذرع الطريق باستقامة ، إلى المقبرة التي دفنت فيها ، تناول معوله وهمّ بحفر البقعة التي ضمت بقاياها ، كانت ليلة مظلمة ، استغرق الحفر عدة دقائق ، ضاعفها .. وحين لم تسعفه الظلمة في أن تسفر عن شيء ، ظل يحفر أعمق ، لكن المعول كان يلتهم ترابا ، اشتد حنقه ، قفز إلى الفجوة الفارغة ، أخذ ينثر التراب بيديه ولا شيء سوى عواء يدمي حنجرته..!
طفق حزنه يغذي نفسه ، كان يلتهم كل الولائم التي يتصيدها من تلك المقابر ، يلتهم حتى آخر نتفة منها ، ظل يقضم بشراهة كبيرة حتى نما جسده فغدا أشبه بديناصور ضخم ، وحين ثقلت حركته ، غذّ سيره إلى حيث دفنت جدته ، هناك في تلك الفجوة العميقة استطال ، في الليلة الأولى كلاب ضارية بشراهة اقتطعت أوصاله ، ورغم أعدادها الغفيرة لم تستطع أن تلتهم سوى ساقيه ، وفي الليلة التالية لمح يدا هزيلة تحاول جهدها أن تسحبه من الحفرة التي بعثر الكلاب رملها وحين أعياه الثقل ، غاب هنيهة قبل أن يعود مع أيد كثيرة تراكمت تجره بكل قوتها ، رُفع بعد عناء كبير تدارك أنفاسهم ، تناول صاحب اليد الأولى ساطورا حادا ، بينما الأيدي الأخرى قبضت بإحكام على أجزائه التي أبقتها الكلاب ، أخذ جسده المتكتل باللحم يتراخى قطعة قطعة ، الفخذ الأيمن ، الأيسر ، اليد اليمنى ، اليسرى ، الكبد ، الطحال …. ق. ل ..