غزة تفكك حصارها

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

من بعيد استقبلتني التلفزيونات المجردة في الصحراء بصوت الحرب، الصور كلها صرخات مصمتة، عواء القذائف المدفعية، نياح المتفجرات، مختلطة في الموجة الصوتية للصرخة المكتومة، التحطم والتهدم والانفجار والاستغاثات وأنين الاحتضار، أصوات كما في أودية انخلاع الصدر الموحشة حيث يسكن جن الكآبات..

نهر الحياة يمضي يمضي، ما بعد الدماء،
كان لابد أن أسير أبعد لأصل ضاحية الخسارات،
لأرى حقول التضحيات الممتدة التي لا يجف زهرها..

بين الأصوات كان صوتُ صراخ فاطمة يعاودُ الظهور ويقتادني.

بعد مسيرة طويلة من خطوات الألم والحزن الذي يعرقل الخطى،
دخلت سوق الموت،
أقرضني مرابون معاصرون الموت بالقوة، وانتظروا وفائي القسري مع الفائدة الفاحشة..
الفائدة ضغائن سنوية، حقدٌ متفجر، غطرسة قوة بقذائف، أضحيات بشرية، الكذب على الذات، على الأبناء والأهل، وخيانة الأجداد..
رأيت الحياة من ثقب ماسورة الرشاش المصوب نحوي وهي مجرد فائدة لقرضٍ إلزاميٍّ خاسر..

ازدحم حولي رجال بوجوه مظلمة يخفونها بالملابس الغالية والماكياج، كانوا يطنّون في أزيز الشاشات ويحومون كالذباب:
انت بضاعة
تموت او تشتري الموت.. سنجعلُ من موتك المجانيّ حياةً لها معنى مناسب لعصر الصورة..

في سوق الموت رأيتني معروضاً في شاشة اعلانية ضخمة لبنك الموت..
عن قروض القتل:
اقتل أو مت.
وكان في أسفل الشاشة شريطُ اخباري يلاحقُ الضحايا ويتركُ المجرمين.

عاد ذوو الوجوه المظلمة وفردوا أمامي خريطة العالم، وضعوا اصابعهم الرخوة على شاطئ غزة وقالوا انظر انظر هذا اكبر سجون العالم
ليس سجنا بل مدينة،
هنا تجارة ممتازة
وفوائد ضخمة
مدينة محاصرة مرعى لوحوش الموت، الوحوش آلات حديثة فتاكة.. دليلاً لرغبة القوة ..

سمعت صراخ فاطمة مجدداً..

وسط الضوضاء الحربية كنت أسمعُ صوتاً داخل كل الأذهان يردد اسماً، في نداءات قريبة ونائية، لأرض في المستقبل
تسيل نحوها الدماء
اسمها نفسه الاسم السريّ للأمل المعاصر
اسم الوطن الوطين: فلسطين..

الوجوه المظلمة تحوم حولنا
ضع أحبتك في أمانٍ المدن المحاصرة المؤقت،
خض بجسمك
اللحظة القوية من الدماء،
وسط الحياة التي لها شفرات جارحة وبارود ونيران،
المجازر التي هي الشر المستطير تحوم حول رقبة أحبابك..
وأهلك..

أحلامك التي تستمد منها قوتك الحيوية، ملاحقة،
وقود طاقاتك، مستنفذ،
نشاط شعبك، رحم أمتك، النهر العكر لتاريخك المعاصر،
جبل الآلام والأحزان الذي تبنيه الحروب ضدكم أنتم؟
لا شك أنك تعرف من أنتم..
ألست تسمع صوت صراخِ فاطمة؟!

في عرصات الأسواق ناحية المطاحن كانت تدور حجر الرحى الكهربائية للأحزان واليأس
تجار الموت بوجوههم المظلمة يعتبروننا قمحهم المعتاد وشعيرهم..
علف حيواناتهم المفترسة،
دمنا زيت دباباتهم ومطهر تنظيف مدافعهم،
ووقود طائراتهم..

وجدت نفسي تموت في كل مكان،
شبحي ثابتٌ في مناظير الرشاشات، جسدي في شاشات الرادار، صورتي في خريطة الأهداف،
وصورةُ فاطمة تصرخ دائماً في كل الشاشات والإذاعات..
تغني بلحنِ الحجارة:
أيها الهدف المعاصر للأحزان،
طريقك خطه القدر وأنت لا تدري
ما في بال الأقدار لك..
ما المستقبل الذي يولد من دمائك ومائك هكذا..

كنت أراني،
بجاهليتي العقائدية،
بحروبي الذاتية، بالنار التي تشتعل بسبب قروض الموت في فؤادي وأنا أجهل الأهداف المستقبلية لكل هذه الدماء التي تسيل من جسدي لكنني أذكر قرض الموت..
أهي أهداف حقاً أولم تكن العبثية قد سحرتنا وكسرت تمائمنا وجرار أهلنا وتعاويذهم..

الرجال المظلمون يحررون رواية مغايرة
عن بني إسرائيل الذين لم يرد ذكرهم في القرآن، عن نارٍ مشتعلة اسمها إسرائيل..

ديانة حربية، عقائد مقاتلة، عبادات مدججة بالأسلحة، صلوات صاروخية، حجٌ لمدينة الموت المقدسة، الموتُ أكاديميّ من إسرائيل..
جيش مدجج بالأسلحة يوجه مدافعهُ ونيرانه ليقصف ويهدم المستقبل،
يشعل في القلوب النار التي تزرعُ الكراهية، تخصّبُ الموت المستقبليّ، تعبئ صدور الحاضر بالبارود، تشعلُ الحقدَ بحمم القتل، تستفزّ ماء الأصلاب، تزرعُ كبريتاً في جينات النسل، أفعالاً تسيل كراهية، حتى الرماد الذي يبتلع كل الألوان.. هنا سوق الموت، القتل والعيش والقرض والوفاء بالإكراه..

أتبعُ صوت فاطمة وهي تطلق صراخ الموت، بينما وطاويط تهاجمنا،
في نفق العالم المظلم، هربنا لا يجدي، واستغاثتنا ليست نافعة،
وفي الجهات ليس أمامنا سوى أن نقاوم، ونحرر أنفسنا من الدوامة الجهنمية لسوق الموت..

المظلمون يئزّون وأنا أتبع صوت فاطمة التي ماتت ملايين المرات ولا زالت تموت ولم تتوقف عن النداء:
ها يهدمون فوق رؤوسنا هذه الملاجئ الأخيرة، فلتنهدم إذن فلم يبق لدينا ما نخسره، والرهن زاد، دين المرابي لن ينتهي، فرحنا مستهدف، عرسنا مختطف، يريدون حصارنا في الحزن، يكرهون ضحكاتنا، فرحنا، اعتزازنا، فخرنا، انطلاقتنا الطبيعية، يطربهم صوت بكائنا وآلامنا، فلنتوقف عن البكاء اذن ولنقاتل الآن.. صوت أفراحنا يجننهم، يسقطُ أسهمهم البنكية، فلنزغرد إذن ونحنُ نموت، لنغني ونحن نندفن حتى نختطف معنى حياتنا من وجودنا ذاته، نخرس حلوقهم الكذابة.. متجهين صوب المستقبل بسرعة النار التي تريد قتلنا.. فنحيا بها.

أدب الحادي والخمسون

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد