جمعيّةُ الحطّابة(1)

كتب بواسطة يحيى الرواحي

قال كليلة: عجبتُ أن يتصدّرَ في كلّ فنٍّ غيرُ أهلِه، و يختطفّه كلّ غارقٍ في غيّه و جهلِه! ثمّ استبدّ بي العجبُ أن رأيتُهم ينشؤون جماعاتٍ و جمعيّات، يزعمون جمعَ الكفاءات و الخبرات، كي تتوحّدَ الجهود، و يُحفظَ لكلّ فنٍّ سبيلُه المعهود، فلا يكون فيها إلا كلّ مدّعٍ متطفّل، لا نسبَ له بذاك الفنّ و لا سبب، ثم لم يكتفوا بذلك حتى صاروا يحجرون على أرباب الفنّ و يُقصونَهم، و يحاربونَ عملَهم و ينبذونهم!! فهل سمعتَ بمثلِ هذا من قبل؟!!

قالَ كليلةُ العصر لدمنةِ عصره: إنّ عصرَنا لعجيب، و إنّ بعضَ ما يجري في مصرِنا لغريب!
قال دمنةُ: و هل يخلو زمنٌ من بعض العجائب، أو مِصرٌ من نوازلَ و غرائب؟! فما الذي أنكرتَه، و طفقتَ تُبدي استهجانه؟
قال كليلة: عجبتُ أن يتصدّرَ في كلّ فنٍّ غيرُ أهلِه، و يختطفّه كلّ غارقٍ في غيّه و جهلِه! ثمّ استبدّ بي العجبُ أن رأيتُهم ينشؤون جماعاتٍ و جمعيّات، يزعمون جمعَ الكفاءات و الخبرات، كي تتوحّدَ الجهود، و يُحفظَ لكلّ فنٍّ سبيلُه المعهود، فلا يكون فيها إلا كلّ مدّعٍ متطفّل، لا نسبَ له بذاك الفنّ و لا سبب، ثم لم يكتفوا بذلك حتى صاروا يحجرون على أرباب الفنّ و يُقصونَهم، و يحاربونَ عملَهم و ينبذونهم!! فهل سمعتَ بمثلِ هذا من قبل؟!!
قال دمنة: قد بلغني خبرُ جماعةٍ كتلك و عصابة، أنشأت قديماً جمعيةَ الحطّابة
قال كليلة: و ما جمعيّةُ الحطّابة؟!
قال دمنة: يُروى أنّ بلاداً في غابر الزمان كان قوامُ عيشها على الحطب، تستخدمُه بناءً لبيوتها، و وقوداً لطبخها و تدفئتها، و منه تصنعُ سفنَها و آلاتها، و لا يكادُ يخلو نشاطٌ من أنشطتها، أو عملٌ من أعمالها من الحطب و مشتقّاته، فلذا أصبحت الحطابةُ عملاً ذا شأنٍ خطير؛ لا يتصدّى له إلاّ كلّ خبيرٍ بالأشجارِ و أنواعِها، و الأخشابِ و أصنافها، و لا يُقبلُ فيه إلا من يُبتلى و يُختبر، و يُنقد و يُمتحن و يُمحّص، وصارت الحطابةُ شرفاً يرومُه كل طالب، و هدفاً ينشدُه كلّ راغب؛ لكن لا ينالُه إلا المجدّون المجيدون، فيما يقصرُ عن بلوغِه الأغبياءُ الخاملون، و يكبو دون مراتبه المفترون المدّعون.
ثمّ طال العهدُ بالبلاد، و تناقصَ الحطّابةُ المجيدون؛ إذ كان المؤهّلون لها يُحجمون عنها استشعاراً لعِظَمِ خطرِها، و كبيرِ أثرِها، فوجدَها الطامعون من غير أهلِها فرصةً سانحةً لينالوا شرفاً ما حلموا به، و منزلةً عاليةً قصروا عن أن يبلغوها، فتسوّروها، و تسنّموا –شيئاً فشيئاً- صهوتَها!
قال كليلة: لا غرو! فإنّ تقاصُرَ المؤهّلين؛ دعوةٌ للمدّعين، و انكفاءَ المصلحين؛ ظهورٌ للمفسدين، و إذا تأخّرَ الكبار؛ تقدّمَ الصّغار، و إن لم يشغل العارفون ساحتَها؛ ملأ الهارفون عاصمتَها! فماذا حدثَ بعد؟
قالَ دمنة: امتلأ سوقُ المدينة حطباً فاسدا، و خشباً أعطبا(2)، إذ كان هؤلاء المقتحمون مجال الحطابة جاهلين بالحطب و أنواعه، عاجزين عن التفريق بين صحيحه و سقيمه، و جيّده و رديئه، ثمّ لعظيمِ جهلِهم، و فسادِ نظرهم؛ كانوا لا يحتطبون إلاّ بليل! فلا يجمعون من الحطبِ إلا أردأه، ثمّ إنهم تركوا غابةَ بلادهم الكبيرة، و أشجارَها الكثيرة الوفيرة، و ولّوا وجوهَهم شطرَ غاباتٍ ليس فيها إلا صغير الشجر، و ردئَ السّمُر، ثمّ لم يكتفوا بذلك حتّى خرقوا قوانين الحطابة التي صاغَتها فحولُ الرجال، و توارثتها من بعدهم عهودُ الأجيال، فاحتطبوا كلَّ محظورٍ من الشجر، و أفسدوا كل يانعٍ من الثمر، و سمّوا فعلَهم ذاك “حطابةً حرّة”، و الواحدَ منهم “حطّاباً حرا”، و فاسدَ بضاعتهم “حطباً حرا”!!
قال كليلة: عجباً! و هل جعلوا موافقةَ الحطب لمعايير جودته، و انتقاءَه من أجودِ شجرته، و اقتفاءَ نهجِ المتقدّمين من الحطّابةِ العارفين بمسالكها، و الخابرين لمناهجها، عبوديّة، فيما التفلّتُ من كلّ ذلك، و خبطَهمُ العشواءَ حرّية؟!! يا لسفاهتهم، و عظيمِ جهلِهم!
قال دمنة: نعم، و لأنّهم كذلك، فقد علموا أنّه إن ظهرَ خبيرٌ بالحطابة، أو توفّرَ جيّدُ الحطب، فإنّ حقيقتَهم ستظهر، و جهلَهم سيُفضحُ و يُقهر، و سينفضّ عنهم الناس و ينبذونهم، لذا عمدوا إلى محاربة الحاطبين
سواهم، و إقصاءِ كلّ حطبٍ إلا حطبهم، و سلكوا في سبيل ذلك أساليبَ شتّى، و طرائقَ قِددا، و أنشأوا جمعيّةً سمّوها “جمعيّةَ الحطّابة”.
قال كليلة: فما كان من شأنهم و شأنها؟
قال دمنة: جمعوا في جمعيّتِهم كلّ مدّعٍ متطفل، و مغرورٍ متكبّر، و أقاموا المهرجانات و الندوات للاحتفاء بكلّ حطبٍ جديدٍ يأتي به أحدُ المنتمين إليهم، و بالغوا في مديحه و التنويه به، و لو كان أردأَ من الرديء، و أشبهَ بالرماد منه بالحطب!
قال كليلة: فما كان حال العوامّ و الخواصّ من أهل البلاد حيالَهم؟
قال دمنة: كانوا مذاهبَ شتّى، و طرائقَ قدِدا، فمن العوامّ من ظهر له فسادُ الحطب فزهدَ فيه بالكلّية، و طفقَ يستبدلُ شتّى المنتجات المستوردة من خارج البلاد به، و منهم مَن خُدعَ بدعاياتهم، و اختُلب بتدليسهم، فلم يعد يتصوّرُ حطباً إلا ذلك المعروض، و لا حطّابةً إلا أولئك السفهاءُ المدلّسون، و أمّا الخواصّ فقد كان فيهم مَن رأى أن السيلَ عارم، و التيّارَ جارف، و أنّه لا سبيلَ للوقوف أمامَه و السباحة عكسَه، و رأوا السلامةَ في متابعته و اقتحام لجّته، و السير على ركابِ الجمهور فيه، لكي يضمنوا لأنفسِهم موطئَ قدمٍ في سوق الحطب، و ينالوا من القَبول و الشّهرةِ منتهى الأرب! و أمّا الفريقُ الآخرُ من الخواصّ فقد بقيَ مناوئاً و مخاصما، رافعاً عقيرتَه بذمّ الحطّابةِ المدّعين، و منبهاً الناسَ إلى فساد حطبهم
قال كليلةُ: و ما يُجدي الحديثُ و الكلامُ في مجابهةِ الظّلم و الظلام؟! و هل تُدرَكُ حلكةُ السوادِ إلا ببريقِ ناصعِ البياض، و هل يبينُ قبحُ الشّين إلا باتّضاح جمالِ الزّينِ إزاءَه؟! و هل يتركُ الناسُ ما يجدونه أمامَهم حتّى يجدوا بديلاً أحسن منه؟!
قال دمنة: صدقتَ و أحسنت، لكن –للأسف- لم يبادر العارفون لتقديمِ البديل إلا بعدَ أن تطاولَ الحطّابةُ الجاهلون فاقتحموا كلّ محظور، و دنّسوا كلّ شرفٍ مشهور، حتّى سوّلوا لإحدى سفيهاتهم أن تحتطب شجرَ “الفُحش”
قال كليلةُ: و هل كان فيهم من ربّات الخدور، و مُرخيات الستور؟!
قال دمنة: نعم كنّ فيهم، لكنّهنّ اطّرحْنَ الخدور و مزّقنَ السّتور! فقد عمدَ هؤلاءِ إلى محبّات الحطبِ و فنونِه، ممّن يحاولْنَه لكنّهن قصُرْنَ عن إدراكه، و فشلْن في الإحاطةِ بمذاهبِه و طرائقِه، فداعبوا عاطفتَهنّ الغريرة بالكلام المعسول و الثناءِ المدخول، حتّى صدّقْنَ أنّهنّ من الحطّابةِ المجيدات، و لم يزالوا بهنّ حتّى أقنعوهنّ أن النجاحَ في الحطابة لا يكون إلا باقتحام كلّ محظور، و احتقارِ كلّ عُرفٍ مشهور
قال كليلة: حسنا، و ما شجرُ “الفُحش”؟!
قال دمنة: ذاك شجرٌ له أثرٌ عجيبٌ في إفساد الروح، و قتل الطّموح، لا سيّما عند الشباب! فما استعملَه شابٌ و أدمنَ عليه إلا ضعفت همّتُه، و فترت قوّتُه، و أصبح مُخلداً إلى الأرض، لا ينظرُ إلى السماءِ بَلْهَ أن يحلّق إليها، آلفاً السفاسفَ و القشور، و عاجزاً عن القيام لمعالي الأمور.
و كان هؤلاء يحتطبونه خلسة، و يدسونه بين الحطب دسّ السمّ في العسل، فينطلي على العوام و لا ينتبهون له، فيما يفطنُ له العارفون، فلا يؤبَهُ لهم حين ينقدونه، حتى أتت تلك الساذجةُ التي غرّها ثناءُ المدلّسين، و تشجيعُ المطبّلين، فصدّقت –لجهلِها- الشانئَ الكذوب، و قدّمت السمّ صراحاً غيرَ مشوب، فثار النّاسُ لفعلها مندّدين، و لحطبِها لافظين و رافضين، و أُخذَ أولئك الحطّابةُ بذلك، فلم يكونوا يتصوّرون أنّ النّاس ما زالوا يسطيعون كشفَ عوارهم، و اكتشافَ خُبثِ ضمائرِهم، فصبّوا جامّ غضبهم على الناس فاتّهموهم بالسذاجة تارة، و بالجهل بالحطب تارةً أخرى، و بسوء الأخلاق و بذاءةِ الطباعِ أحياناً كثيرة!! و كان أقومهم طريقةً مَن أخذَ ينادي بأنّ في السوقِ من أنواع الحطب الكثير، فلا معنى للثورةِ ضدّ ذلك الحطب، إذ ليس أحدٌ ملزماً أن يأخذَ منه!!!
قال كليلة: يا لعظيم جهلهم، أو كبير تدليسهم! أما علموا أنّ لكلّ ساقطةٍ لاقطة، و أنّ إفساحَ المجالِ للفاسد من البضاعة كفيلٌ بجعلها مألوفةً ثمّ عن قريبٍ مرغوبة؟! فكيف إذا كانت تداعبُ العواطفَ الرعناء، و تستثير غرائزَ الدهماء؟! و هل مَثَلُ ما ينادون به إلا كالعائل الذي جمع عياله على مأدبةٍ فوضع فيها من أصناف الطعام و دسّ بينها أطباقَ السمَ الزعاف؟ و حين قيلَ له في ذلك؛ أجابَ قائلاً بأن في المأدبةِ من أطايب الطعام الفاخر ما يغني عن أطباق السمّ الزعاف، و أنه لا أحدَ من عيالِه مجبورٌ على تناول ما لا يرغبُ فيه!! أفتراه إلا أحدَ رجلين: إمّا جاهلٌ مجنون، أو قاتلٌ مأفون يريدُ إيراد عياله مهاوي الردى!!
فقلْ لي يا دمنةُ ما صنعَ الخواصّ الذين ذكرتَ أنّه كان لهم شأنٌ بعد تلك الحادثة؟
قال دمنة: رأوا أن السيلَ قد بلغَ الزّبى، و تطاولَ السفهاء قد وصلَ المدى، و آن لأبي حنيفةَ أن يمدّ رجليه، و لكلّ عارفٍ بالحطابة و فنونها أن يبسط يديه، فما بقي للتواضع مكان، و لا للتردّد إمكان، فشمّروا عن ساعدِ الجدّ، و قطعوا على أنفسهم كلّ عهد، و انطلقوا إلى غابة المدينة الكبيرة، و يمّموا أشجارَها الكثيرة الوفيرة، فانتقوا أطيبها، و احتطبوا أحسنها، ملتزمين في كلّ ذلك بقوانين الحطابة التي تضمنُ جودتَها، و مناهج الحطّابة التي ثبتَ نفعُها، ثم انطلقوا ببضاعتهم إلى السوق.
قال كليلة: و ماذا حدث في السوق؟
قال دمنة: كانت “جمعية الحطّابة” مستحوذةً على منافذِ عرضِ الحطب المشهورة، فلم تدع لهم مجالاً أن يعرضوا بضاعتهم فيها، إلا أن تكونَ موافقةً لحطبهم، أو ممزوجةً به!!
قال كليلةُ: فما صنعَ هؤلاء؟
قال دمنة: طرقوا كلّ بابٍ يمكّنهم من عرض حطبهم، فما وجدوا إلا زوايا قاصيةً في السوق حيث لا يرتادُها إلا القليل، فعرضوا بضاعتهم فيها
قال كليلة: فما كان من خبرهم بعد ذاك؟
قال دمنة: لم يبلغني من خبرهم بعد ذلك سوى أنّ من اشترى من حطبهم، طارَ به فرحاً، و أدركَ جودتَه و نقاءَه، و فسادَ المعروض من أولئك المدّعين، و لم يزالوا يلحّون على طلب المزيد من هذا الحطب الجيّد، و المنتج الراقي
قال كليلة: أتُرى أنّهم نجحوا في تقديم البديل للناس حتى تبيّنوا الجيّدَ من الرديء، و الصادقَ من الكاذب، و سحبوا البساطَ من تحت أولئك المدّعين؟
قال دمنة: لا أعلم ذلك حقيقة، لكن ما أحسبُ إلا أنّ شبهةَ الباطل تتضاءَلُ افتضاحا؛ متى ما تبخترت حجّةُ الحقّ اتضاحا، و ما بزوغ مُدى أشعةِ شمسِ النّهار إلا فاريةٌ أديمَ حنادسِ الليل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحطّابةُ: الذين يحتطبون
(2) أعطب: ليّن

أدب الثاني والخمسون

عن الكاتب

يحيى الرواحي

كاتب عماني