كيف نردم الفجوة بين الأقوال والأفعال؟

هناك الكثير من القوانين والأنظمة مقرة ومدعو إلى ضرورة العمل بها. إلا ان عملية تطبيقها عملية نسبية خاضعة لمزاج المسؤول الذي أمن العقاب من جانب وأيضا تتأثر بطول السنوات التي يقضيها على سدة المسؤولية من جانب آخر. فإذا أجرينا معادلة رياضيه بسيطة نلاحظ ان متوسط وجود الوزير ـوحتى الوكيل على سدة المسؤولية يتعدى العشر سنوات. وخلال هذه العشر سنوات أو أكثر ليس هناك أي تقييم لعمله و إنجازاته أو حتى معرفة باستراتجيته والأهداف التي يسعى لبلوغها.

هناك مصطلحان تتشكل حولهما أفعالنا و أقوالنا أو بالأحرى نختصر بهما تلك الأفعال والأقوال التي تصدر منا على ضوئهما. المصطلح الأو ل يسمى “المفاهيم” وقد يسميه البعض “المثل” و المصطلح الآخر و هو “الممارسات” أو “التطبيقات”. هذان المصطلحان تدور حولهما معظم أحاديثنا وحكايتنا في هذه الحياة. المفاهيم أو المثل هي الإطار الفكري الذي نتحدث عنه و نكتب و ننادي به وندعي التمسك به و قد يتطلع البعض إلى العمل وفقه. لكن تظل كلمة البعض تفيد “التبعيض” و ليس التعميم. و نادرا ما نرى من يتكلم خلافا لتلك المفاهيم أو المثل التي يؤمن بها المجتمع والأ فراد بل الجميع ينادون بضرورة العمل وفقها سواء كانت تلك المفاهيم من الأ مور الدينية أو الاجتماعية أو من جنس السلوك العام. فلن تجد من يقول لك “ليس ضروريا الاهتمام بالكوادر البشرية”، و لن تجد من يخالفك الرأي في “ان للمواطن حقوقا و واجبات” أو “ان الجميع سواسية امام القانون” أو “ان اعطاء المواطن حقوقه من أو لى مهام الدولة” أو “أهمية محاسبة المقصرين” أو “أن التفريط بالمال العام جرم لا يغتفر” أو “أن المناصب هي مسؤولية وطنية” أو “أن كل إنسان في هذا الوطن له حق في التعليم و العلاج ..” إلى ما هنالك من هذه المفاهيم التي ننادي بها أو نتحدث عنها. و هذه المفاهيم التي أخذنا في الآونة الأخيرة نتحدث عنها علنا، كان يتم التداول بها في الخفاء لردح من الدهر. إلا أن ازدياد الحنق الاجتماعي و انزعاج المواطنين من الواقع المحيط بهم أدى إلى بروزها على السطح بالإضافة إلى الازدياد في عددها و اتساع نطاق تداولها لكنها بدأت أيضا تستخدم من قبل البعض كأداة للتخدير أو ما يسمى بالاسترخاء النفسي أو الذهني. و أيضا تلازم مع هذا التغيير في مفردات المفاهيم تغير في الوجوه و المسميات، على امل أمتصاص هذا الحنق الإجتماعي.

هذه هي صورة المفاهيم التي تتحرك أمام أعيننا. إلا أن الممارسات في معظم الميادين مخالفة لتلك المفاهيم. وهذه المخالفات إما أنها نتاج تجاهل أو أنها نتاج عناد و اصرار على المضي في واقع منبوذ. وأمام هذا الواقع المنبوذ الذي يسعى البعض لتقويمه يساهم البعض الآخر من أصحاب القرار أو المسؤولين – ومع الأسف الشديد- في تعميق الحنق الإجتماعي الذي يولد الكثير من الأزمات نتيجة تعميق الفجوة بين المفاهيم والممارسات. و كلما تعمقت تلك الفجوة ازدادت الترددات السلبية التي يعبر من خلالها المواطن عن سخطه وحنقه.. وفي النهاية يقال:إنه تهور الشباب بدلا من أن يقال إنه نقص في حكمة المسؤولين أو عدم اهتمام منهم بمصلحة الوطن و المواطن!
لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المفاهيم والمثل و أشاد بها وحث على التمسك والعمل وفقها. كما أنه من الجهة الأخرى أيضا سلط الضوء على مصير أولئك الذين ساروا عكسها وأغلظوا في القول والفعل مخالفين السنة الإلهية معمقين بذلك الفجوة بين المفاهيم والممارسات فتوعدهم بعذاب شديد. هذا العذاب الإلهي لهم هو نتاج السنة الربانية لأنه سبحانه و تعالى رسم لنا طريقا في الحياة نسلكه و مخالفة ذلك الطريق يعرضنا للحساب والعقاب الالهي. كذلك نحن في هذه الحياة نحتاج إلى تلك الحكمة الالهية لتأمين حياة كريمة لكل مواطن.. و ذلك بإقرار عملية المحاسبة والعقاب “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب” و انعدام المحاسبة أو العقاب يزيد من عمق تلك الفجوة ويولد السخط والحنق الإجتماعي ويزيد من التوترات وعدم الاستقرار النفسي والإجتماعي للإفراد والأمم والأوطان. ففلسفة المحاسبة والعقاب يعقبها الكثير من الرؤى البناءة التي تؤسس لمجتمع ووطن مستقر تنظمه القوانين والأنظمة.
هناك الكثير من القوانين والأنظمة مقرة ومدعو إلى ضرورة العمل بها. إلا ان عملية تطبيقها عملية نسبية خاضعة لمزاج المسؤول الذي أمن العقاب من جانب وأيضا تتأثر بطول السنوات التي يقضيها على سدة المسؤولية من جانب آخر. فإذا أجرينا معادلة رياضيه بسيطة نلاحظ ان متوسط وجود الوزير ـوحتى الوكيل على سدة المسؤولية يتعدى العشر سنوات. وخلال هذه العشر سنوات أو أكثر ليس هناك أي تقييم لعمله و إنجازاته أو حتى معرفة باستراتجيته والأهداف التي يسعى لبلوغها.
وحيث أن التواصل الإنساني أهلنا بأن نتابع ما يجري في الدول المتقدمة، فإننا نجد أن الحكومات الديمقراطية وبغض النظر عن نوعية الحكم المعمول به في دولها (سواء كانت تلك الدول ملكية أو جمهورية) فإن تلك الحكومات تتغير كل أربعة أو خمسة أعوام. والتجديد لدورة ثانية لتلك الحكومات يعتمد على حجم ونوعية الإنجازات التي تحققت خلال دورتها الأولى. وهذه السياسة العالمية المعمول بها تحافظ على الاستقرار الإجتماعي من جهة وتسهم في عملية الانعاش الفكري و الابداعي من جهة اخرى، فتبقى الدول في عنفوانها وشبابها. كما أنها تشكل لها حماية من الترهلات التي قد تصاحب ضعف المسؤول أو عدم قدرته على تحمل المسؤولية. ثم تأتي عملية المحاسبة و العقاب لتلعب دورا حيويا في عملية التوازن والتجديد والحفاظ على المال العام.. فهي الحياة بلبها!
هناك الكثير من المسؤولين الذين عمروا في مؤسساتهم لردح طويل من الزمن سواء على رأس مؤسسات تعليمية أو خدماتيه أو إنتاجية إلى درجة أن الكثير منهم (فقط من باب الدقة) فقدوا القدرة على عملية خلق أي ابداع أو ابتكار في عطائهم، وغدا عطاؤهم مقصورا على تشييد مبان كبيرة محاطة ببرامج أمنيه على الأبواب وكأنك حينما تدخل تلك المؤسسات فإنك تدخل مؤسسة عسكرية، وحين تدخلها فستقف عاجزا عن الالتقاء بمسؤول إلا بعد موافقة رجال الأمن أو بعد تقديم مستنداتك الشخصية لهم، ناهيك عن انحصار وجودك في جزء معين من ذلك المبنى. و السؤال ممن كل هذا الخوف؟ هل هو من التقصير الذي يحنق المواطن أو من مواطن بائس يائس من القوانين ذات الحدين! فأي خير سيجلب لهذا الوطن والمواطن من مؤسسات خدمية من هذا النوع والتي يقودها وزير أو مسؤول فاقد القدرة على الابداع و الابتكار والذي غدت همومه منحصرة في عملية إقصاء المواطن بدلا من سياسية الأبواب المفتوحة التي تمارس في العالم المتقدم (نحن مع الأسف نسير عكس التيار)!
تمضي بنا الأعوام و الأيام و نحن نرى أولئك الوزراء أو المسؤولين الذين يحلم بعض من موظفيهم في مجرد اللقاء بهم لمعرفة المسؤول الذي يقرر مصيرهم لأعوام من غير أن يعرفوا شكله سوى من الجرائد أو المجلات .. و كأنه لا يعيش بينهم و له مكتب تحت نفس السقف الذي يضمهم! ألم يئن الأوان أن نرى تجددا في تلك الوجوه و تحديدا للمدد التي تتناسب مع صلاحيتهم.. علنا بعد ذلك نعيش القليل من الأمل في أن نصادف في حياتنا الباقية وجها يردم تلك الفجوات المتراكمة بين المفاهيم والمثل من جهة و بين الواقع والتطبيق، فيعيش بيننا كواحد منا و ليس كواحد علينا.. فلْنُعِدِ النظر!

الثالث والخمسون ثقافة وفكر

عن الكاتب

د. فاطمة أنور اللواتية