عن رحيل البروفيسور علي المزروعي

ali

” 1 ”
كلمةٌ ترددت في وسائل الإعلام العمانية خاصة والعربية عامة، عندما تناولت خبر رحيل البروفيسور “علي بن الأمين المزروعي” الذي رحل عن عالمنا يوم 13 أكتوبر 2014، عن عمر ناهز 81 عاما، وهي صفة “العماني الأصل” متبوعة باسم البروفيسور علي، مما استوقفتني هذه الصفة كثيراً، لأنها حقيقة قد تكون مجهولة عند الكثيرين، ومعروفة لدى البعض فقط من المتابعين، فوالده “الأمين بن علي المزروعي” كان أحد مؤسسي الجمعية العربية في زنجبار، وكان أحد أعضائها الأساسيين، وعمل رئيساً لقضاة كينيا، أما جد البروفيسور علي، فهو الشيخ “علي بن عبد الله المزروعي”، الذي ولّاه السلطان ماجد بن سعيد (1856-1870م)، القضاء في مومباسا، التي ولد فيها البروفيسور علي، وهي منطقةٌ في الساحل الشرقي لإفريقيا التي كانت أولى المناطق التي دخلها الإسلام.
لقد كان تأثير الشيخ الأمين المزروعي على نجله واضحاً منذ البداية؛ عندما اهتم بتدريسه وتعليمه المباديء الأولية للدين من خلال مدارس تحفيظ القرآن الكريم على أيدي معلمين عمانيين؛ وهي المدارس التي كانت منتشرة في الشرق الأفريقي حينها – وما تزال -، وكان للأب اهتمامات دينية وسياسية وثقافية حيث اهتم بالصحافة والنشر، وأسس دورية باسم “الصحيفة”، والتي ظهرت عام 1930، وكذلك جريدة “الإصلاح” التي صدرت عام 1932م، باللغتين العربية والسواحلية، وفي هذا الجو نشأ علي المزروعي وقد تكونت لديه الاهتمامات الأولى للعلم والبحث، وكان والده يعدّه لكي يكون شيخاً أزهرياً، إذ كان يزمع إرساله إلى القاهرة للدراسة في الأزهر، ولكن ظروفاً طارئة حالت دون ذلك – كما روى هو نفسه – لذا كان فخوراً بهويته الإفريقية والإسلامية في الوقت نفسه، وظل مهتما بما يجري في العالم الإسلامي خاصة في سنواته الأخيرة، وكان له تحليلات عميقة حول الأوضاع في هذا العالم.
عندما كنت أبحث عن مادة هذا المقال، وجدت عدداً من الكتاب والأكاديميين العرب الذين كتبوا عن لقاءاتهم مع البروفيسور المزروعي، حتى وإن كانت لقاءات عابرة في ندوة أو مؤتمر أو محاضرة، ولكني لم أجد من العمانيين من كتب عن ذكرياته معه، بل إنّ الزميل “سليمان المعمري” عندما أراد أن يخصص حلقة من برنامجه “المشهد الثقافي” الذي يُبث من إذاعة سلطنة عمان، لم يجد شخصاً عرف البروفيسور عن قرب، وإنّما اعتمد فقط على من اعتقد أنهم قادرون على الحديث عنه، وهذا ما فعلتُه وأنا أكتب هذا المقال؛ بمعنى أنّ العلاقة بين البروفيسور علي المزروعي وبين بلاده الأصلية كانت شبه معدومة، رغم زياراته للسلطنة أكثر من مرة، وإلقائه محاضرات في النادي الثقافي والجامع الأكبر.
صحيح أنّ المزروعي ولد في كينيا ويحمل جنسيتها؛ إلا أنّ ذلك لم يكن يمنع أن تهتم به الدولة في عمان خاصة وأنّ أصوله عمانية، وكان أبوه وجده من قضاة الحكام البوسعيديين، فشخصيةٌ كشخصية المزروعي بما حققه في العالم من سمعة طيبة؛ يُعتبر مكسباً كبيراً لسمعة أي دولة، وفي ظني أنه لو كانت أصوله من إحدى دول الجوار، ربما كان له وضع خاص!، وهذا يفتح بابا للنقاش عن أيّ عماني تبوأ مكاناً مرموقاً خارج السلطنة، إذ أن الوطن أولى به حتى وإن كان لا يحمل الجواز العماني.
” 2 ”
درس المزروعي في جامعة مانشستر البريطانية، وحصل على درجة الدكتوراة من جامعة أكسفورد، وقام بعد ذلك بالتدريس في جامعة ماكريري في أوغندا، وهي الجامعة التي كان يُشار إليها بالبنان والتي أنشئت لكي تكون شبيهة بجامعتي أكسفورد وكمبريدج، وكانت لمدة طويلة ذات مستوى عال جدا ومتميز، ودرس فيها كل قادة دول شرق إفريقيا، ومن العمانيين الذين تخرجوا منها الشيخ علي بن محسن البرواني، الذي شغل منصب وزير خارجية سلطنة زنجبار قبل الانقلاب على الوجود العماني. لقد اصطدم البروفيسور علي المزروعي مع الرئيس الأوغندي “عيدي أمين”، ممّا اضطر إلى السفر للمنفى الاختياري، متجولاً بين دول العالم حتى استقر به المقام في أمريكا التي ظل فيها حتى وفاته، ولم يمكث المزروعي في كينيا إلا فترات قصيرة، إذ اختلف مع نظام الحكم فيها، برئاسة الرئيس دانيال آراپ موي، حيث كان كثير الانتقاد لأسلوب حكمه، ولذلك فضّل الإقامة في الخارج؛ وقد قادته ثقافته إلى أن يجوب العالم، وألقى محاضرات في دول عديدة في القارات الخمس، وخاصة في جامعات الولايات المتحدة التي رأس فيها معهد “دراسات الثقافة الدولية” في نيويورك.
لم ينس البروفيسور علي في أمريكا هويته الإسلامية؛ حيث كان عضوا في مجلس إدارة “المجلس الإسلامي الأمريكي” في واشنطن، وكذلك كان رئيس مجلس إدارة مركز “دراسات الإسلام والديمقراطية”، كما شارك في فعاليات مركز التفاهم الإسلامي المسيحي في جامعة جورج تاون في واشنطن.
لقد كان البروفيسور علي المزروعي أبرز من كتب وتحدث عن الوجود العماني في الشرق الأفريقي وعن الدولة البوسعيدية، وألّف أكثر من عشرين كتابا أبرزها “نحو تحالف إفريقي” في العام 1967، وذلك في خضم الحرب الباردة وبزوغ أهمية العالم الثالث الذي اتجه جزء كبير منه نحو الاتجاهات الاشتراكية، وله مقالات عديدة في مجلات وجرائد عالمية من “النيويورك تايمز” إلى “التايم” إلى “الجارديان”، وفي عام 1986، أعدّ سلسلة حلقات عن أفريقيا للتليفزيون البريطاني لاقت نجاحا كبيرا، كما شارك في إعداد الموسوعة التي أصدرتها اليونسكو تحت عنوان “تاريخ إفريقيا”.
يذكر د. حمدي عبد الرحمن، في مقال كتبه في جريدة الأهرام، أنه يمكن التمييز في مسيرة علي المزروعي الفكرية بين مرحلتين؛ أولاهما استغرقت النصف الأول من حياته، حيث ركز على أيديولوجية الجامعة الافريقية ومناصرة قضايا الجنوب بشكل عام، في مواجهة النظام الرأسمالي العالمي غير العادل؛ أما المرحلة الثانية والتى لازمته حتى وفاته، فقد انشغل فيها بدفاعه عن الإسلام، خاصة بعد هجمات 11 سبتمبر، حيث نجد على سبيل المثال كتابه الصادر عام 2004، “الاسلام بين محاربة الارهاب والعولمة”، ويقول د. حمدي إنّ المزروعي “طرح رؤى تجديدية مهمة فى تفسيراته للإسلام، حيث رأى أنّ الشريعة لا تتعارض مع الديمقراطية.. وهو الأمر الذى قوبل بمعارضة شديدة من قبل معارضيه”
” 3 ”
لقد اهتم المزروعي بالقارة الأفريقية، وركّز على أهمية التعاون العربي الأفريقي؛ واستناداً إلى خبرته الشخصية من حيث انتماؤه لأصول عمانية ومن بيت علم حيث عمل أبوه وجده قاضييَن شرعيين؛ فقد توصل إلى مفهوم جديد يحكم إطار التضامن العربي الأفريقي سماه ” أفرابيا Afrabia – “، وهو حسب رأيه تجمع حضاري يؤكد عمق الروابط التاريخة والثقافية والحضارية بين العرب والأفارقة.
وقد تساءل المزروعي في إحدى محاضراته: إذا كان العالم يهتم بالعولمة، فهل أصبح هذا العالم بمثابة قرية واحدة؟!، هو يعتقد أنّ الكرة الأرضية لن تصبح أبدا في يوم من الأيام قرية واحدة؛ إلّا إذا صاحب تقريبَ المسافات توزيعٌ عادل للثروات؛ ولن يتأتى ذلك إلّا إذا أصبح الأغنياء أكثر حساسية نحو الفقراء، وعلى الشمال الغني أن يكون أكثر عدلاً نحو الجنوب الفقير، على أنه يرى أنه لا مناص لإفريقيا إلّا أن تعتمد في المدى الطويل على إمكاناتها الذاتية. (وفي الواقع إن هذا ما يجب أن تفعله أي أمة وأي دولة)، ويرى كذلك أنّ إفريقيا أصبحت مهمشة عن النسيج العالمي، ويستشهد على ذلك بوجود جامعات في الولايات المتحدة بها أجهزة كمبيوتر يفوق عددُها كلّ الأجهزة التي توجد في دولة إفريقية بأكملها، يزيد عدد سكانها على عشرين مليون نسمة.
لقد أكد المزروعي أكثر من مرة منهجه الثقافي، ودخل في مناظرة علمية جادة مع “صامويل هنتنجتون” صاحب نظرية “صدام الحضارات”، حيث كتب عام 1997، مقالا في مجلة الشؤون العالمية، رداً على هنتجتون تحت عنوان “القيم الإسلامية والغربية” الذي أثار ضجة كبرى، ومنذ ذلك العام أصبح البروفيسور مدافعاً عن الإسلام الوسطي المعتدل في الغرب، ومع ذلك تم اتهامه بعد أحداث 11 سبتمبر بأنه مساند للتنظيمات الإرهابية، ورغم الضغوط والانتقادات التي مارسها اليمين الأمريكي المتطرف عليه؛ إلا أنه ظل صامدا مدافعا عن مبادئه حتى آخر رمق في حياته.
برحيل البروفيسور “علي بن الأمين المزروعي” تكون أفريقيا قد فقدت أحد أكبر عقولها ومفكريها والمدافعين عن قضاياها وقضايا الأمتين العربية والإسلامية، بعد أن عمل كثيراً على تفنيد ما لحق بالإسلام من تشويه بعد تفجيرات واشنطن ونيويورك، كما فقدت الساحات الأمريكية متحدثاً بارزاً في منتدياتها عن قضايا العالم الثالث، خاصة ما يتعلق بالقارة السوداء، وهي القضايا التي اهتم بها في مؤلفاته وفي الأفلام الوثائقية التي أعدها خاصة لقناة البي بي سي، والتي تم توثيقها في كتاب، ورحيلُ البروفيسور علي، يفتح مجالا للنقاش- كما يحدث في كل مرة عندما ترحل القامات الكبيرة -، كيف يتم تعويض أمثال هؤلاء؟ وهل لو بقي مثله وغيره في أوطانهم الأصلية هل كان يمكن أن يحققوا تلك “العالمية”؟، والسؤال الأهم هو لماذا هذا التجاهل الإعلامي العربي حول قامات كهذه والتي خدمت القضايا العربية والإسلامية في المحافل الدولية؟ ألا يدل ذلك على أنّ هناك هوة سحيقة بين المبدعين ووسائل الإعلام العربية..؟!
” 4 ”
لقد أسدل الموت الستار على حياة البروفيسور علي بن الأمين المزروعي، الذي صنفته العديد من المجلات والصحف الأميركية أنه من بين أبرز 100 مفكر على مستوى العالم، ولقد ترك إرثا حضاريا كبيرا؛ عبارة عن كتبه ومقالاته ومحاضراته وأفلامه، منها ما ركز فيها على الدور الحضاري العماني في الشرق الأفريقي، وهذا الإرث يحتاج إلى من يجمعه ويقدم الدراسات حوله ويترجم كتبه إلى اللغة العربية، وفي ظني أنّ عُمان هي الأولى بالاهتمام بتراث هذا الرجل أكثر من غيرها.

 

الثالث والخمسون سياسة

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com