خَرَس

كتب بواسطة هدى حمد

في هذا البيت الفخم. لا تسمعُ صوتا. أي صوت. فقط صوت النقر المستمر للهواتف والألعاب الالكترونية. لم يعد ثمة ما يختلف عليه الزوجان، أو ما يتفقا عليه. لم تعد ثمة مواضيع مشتركة تقال، انتفت كل بهارات الحياة فجأة. لم يعد ثمة ما يتعلمه الأبناء منهما سوى “الخرس” الذي تراضيا عليه وأتقناه بمهارة عالية.

البيت فخمٌ وملفتٌ للأنظار، السيارات الثلاث التي تصطفُ أمامه أنيقة ونظيفة. العاملتان المرتبتان تدعكان البيت وتلمعانه منذ الخامسة صباحا. الحديقة مُقلمة بفضل العامل الهندي الذي يأتي مرتين في الأسبوع ليطمئن على حالها. النافورة التي تضيء في الليل تُعطي البيت رونقا إضافيا. الزوج الذي يخرجُ يوميا مُكتمل الهندام إلى عمله يبدو أقل ابتهاجا مما نتوقع. الزوجة التي تخرجُ من نفس الباب إلى السيارة المجاورة له تبدو هي الأخرى متجهمة. لكن المفارقة أنّ أحدهما لم يُلقي التحية على الآخر ولم يبتسم. بدا وكأن الأمر عاديا ومعتادا في ربكة الصباح الأولى.
الأبناء الأنيقين جدا داخل قمصانهم وبنطلوناتهم وربطات العنق التي اختارتها لهم العاملة الفلبينية بذوق رفيع، أنهوا إفطارهم فحملوا حقائبهم على ظهورهم. تأكدت العاملة السيريلانكية أكثر من مرة من أنهم أخذوا “الساندويشات” معهم وعلب الماء، فهي لن تحتمل مشاجرة جديدة مع المدام ما أن تتصل بها المدرسة لتعلمها أنّهم جاؤوا بدون “ساندويشات”. ثلاثتهم “الأبناء” وقفوا في انتظار الباص الذي يقلهم إلى المدرسة والتي يدفع لها الزوج كما قال أكثر من مرّة “دم قلبه”.
شرب الزوج قهوته الساخنة من يد السكرتيرة ومن ضحكتها العذبة. شربت الزوجة الشاي وكتمت غيضها عندما حدثتها صديقتها عن رحلتها مع زوجها في عطلة نهاية الأسبوع الماضي. لكنها لم تُعلق، غطّست البسكويت في الشاي مجددا.

حضّرت العاملة السيريلانكية غداءً شهيا ومقبلات. جلس خمستهم الأبناء مضافٌ إليهم الزوج والزوجة إلى المائدة. لم يكن هنالك صوت. فقط صوت المضغ، وملاعق ترتطم بالصحون. أضف إلى ذلك صوت هاتف الزوج الذي يأكل بيد وبالأخرى يفتح الرسائل. لم يتمالك نفسه، يبدو أنه تلقى “نكتةً” سمجة، فاخترق الصمت بضحكة عالية. لكن ما أن صوبوا أنظارهم إليه حتى عاد للصمت مجددا. تلاحق نهوضهم عن الطاولة واحدا بعد الآخر. انشغل الأولاد بتلقي أوامر الأم بضرورة إنهاء الواجبات. انهمكت بتقليم ظفرها المكسور. انهمك الزوج بمتابعة فيلم على التلفاز. وما أن يظهر إعلان على الشاشة حتى يغتنمُ الفرصة ليطالع هاتفه مجددا.
تجاور الزوجان لأكثر من ثلاث ساعات بدون كلمة. ما أن انتهى الفيلم حتى تمدد الزوج على الكنبة وغطّ في قيلولته اليومية. تابعت الأم سير فروض أولادها المدرسية، لكنها شعرت بالقرف بسرعة فطلبت من عاملتها الفلبينية التي تجيد الانجليزية أن تُكمل المهمة. بينما العاملة السيريلانكية منهمكة بتحضير العشاء.
بعد المغرب صحى الزوج. انهى الصغار واجباتهم. أنهت الزوجة طلاء أظافرها بعد تعديلها بلون قاني الحُمرة. لم تصب بخيبة أمل عندما لم ينتبه له أحد، رغم أنّه كان لونا مُلفتا على غير العادة.
جلس خمستهم قرب حلقات الدونات الشهية ودلّة الشاي. أوشكت البنتُ الصغيرة ثلاث مرات أن تُوقع الشاي على رجلها. لأن عينها كانت على الشاي وعين أخرى كانت على اللعبة الالكترونية الجديدة التي ظل أخوها الكبير يتفوق فيها يوما بعد يوم. لم تنتبه الأم أصلا إلى المرّات التي أوشك الشاي أن يندلقُ فيها على ركبة ابنتها لأنّ مجموعةً جديدةً من الملابس الأنيقة نزلت حديثا في “الانستجرام”، وكانت مشغولة في اختيار إحداها. فيما كان الولد الأوسط يلحُ بطلب السكر الإضافي على قطعة الدونت، ولكن لم يكن ثمة هناك من يصغي إليه أو يلتفت.
كانت تلك هي الفسحة الأجمل للعاملة الفلبينية لتدّعي أنه وقت استحمامها اليومي. لتفتح هاتفها السري في دورة المياه، وتنظر هي الأخرى إلى كم الرسائل مؤجلة القراءة منذ الأمس. منذ وقت الاستحمام الفائت. بينما كانت الفرصة هي الأكثر جدوى للعاملة السريلانكية، لتفتح باب المطبخ الخلفي لصديقها الهندي الذي يأتي مرتين في الأسبوع لتقليم الحديقة، تُعطيه ما تبقى من وجبة الغداء وبعض الفواكه. وبعض الكلمات المعسولة. تخبره أنها ستفتح هاتفها ليلا وستقرأ كل الرسائل التي بعثها لها.
في هذا البيت الفخم. لا تسمعُ صوتا. أي صوت. فقط صوت النقر المستمر للهواتف والألعاب الالكترونية. لم يعد ثمة ما يختلف عليه الزوجان، أو ما يتفقا عليه. لم تعد ثمة مواضيع مشتركة تقال، انتفت كل بهارات الحياة فجأة. لم يعد ثمة ما يتعلمه الأبناء منهما سوى “الخرس” الذي تراضيا عليه وأتقناه بمهارة عالية.

أدب الرابع والخمسون

عن الكاتب

هدى حمد

كاتبة عمانية