الدينمو

كتب بواسطة هدى حمد

عندما نرى الأمر من مكان آخر، من زاوية مُنفرجة قليلا، فإننا سنتساءل حول المسيرات التي أخرجت الطلبة وعطلت يومهم الدراسي. سنتساءل عن كل المراجعين للوزارات الخدمية الذين عادوا بخيبة الأمل، لأن العاملون فيها يحتفلون. سنتساءل عن كل الذين تأخروا لساعاتٍ قبل العودة إلى بيوتهم، لأنهم علقوا في زحام وفوضى المسيرات.

انتعش الفرح في رئة عُمان وقلبها وأوصالها، لأنّ جملةً من الأخبار الجيدة تتالت وراء بعضها البعض، وكم كان هذا الشعب مُتلهفٌ للفرح. لعلنا بصدق لم نجد فرحةً توازي خطاب جلالته واطلالته الأخيرة، إلا تلك الفرحة التي وصفها لنا الآباء والأجداد لدى تلقيهم خبر توليه مقاليد الحكم 1970م.
فلم تحتفل عمان ولم تتزين بيوتها وسياراتها وأطفالها ومدارسها كما حدث هذا العام. فكأن الشعب قال بصوت واحد: “حتى في غبابك ستلبس عُمان زينتها، لأنك تحضر في قلب كل عُماني”. بل إني تفاجأتُ بالمحلات الصغيرة قبل الكبيرة تتزين بالأعلام. تفاجأتُ بجاليات غير عُمانية تخرجُ في مسيرات لتعبر عن الأمان الذي تنعم به. تفاجأتُ بعدد من الاتصالات الدولية تصلُ إلى عاملة منزلي الفلبينية، لتهنئها بالعيد الوطني. رجل آسيوي في سوق مطرح لفتني وهو يرتدي في عنقه خريطة عُمان مصنوعة من الفضة. كانت جميلة وكنتُ أتساءل عن الدافع الذي أخذه ليبتهج بخريطة ليست لجغرافيا بلده. ثم جاءت الأهداف العُمانية الخمسة في مباراتها مع الكويت، ليزغرد الفرح، حتى لكأنك تسمعُ صوت النشوة من مسندم إلى ظفار في صفقة واحدة وهتافات يُرددها الصغار والكبار معا. بيوت مبتهجة بالرقص وبترديد أغاني صلاح الزدجالي “توكل يا عماني.. وهذا الغاوي”. الشوارع اكتظت بالسيارات. تعالت أصوات أبواق السيارات. انطلق رجالات مكافحة الشغب ليحرسوا المدينة والقرى من الفرح المُبالغ خوفا من عواقبه الوخيمة.
كل هذا الفرح الجميل مشروع وكل هذه المشاعر الدافئة لديها ما يُبررها بالتأكيد، فكل شيء في حدوده المعقولة مقبول، ولكن عندما نرى الأمر من مكان آخر، من زاوية مُنفرجة قليلا، فإننا سنتساءل حول المسيرات التي أخرجت الطلبة وعطلت يومهم الدراسي. سنتساءل عن كل المراجعين للوزارات الخدمية الذين عادوا بخيبة الأمل، لأن العاملون فيها يحتفلون. سنتساءل عن كل الذين تأخروا لساعاتٍ قبل العودة إلى بيوتهم، لأنهم علقوا في زحام وفوضى المسيرات.
ماذا أيضا عن الاستعراض الآخر الذي تفشى بين المؤسسات والشركات، حتى تحوّل بعضه لنوع من المباهاة المجانية. فهذا يحتفل بطريقة مبتكرة، وذاك يبحث عن طريقة أخرى يتغلب بها، وسيناريو من الاحتفالات والمسيرات لم ينتهِ بعد.
من منّا لا يحب الفرح، من منّا لا يبحث عنه ؟؟.. ولكن أظن أنه آن الأوان لأن نعبر عن حبنا لقائدنا ووطننا بطريقة مختلفة. بطريقة تعود بالفائدة على المجتمع. فبدلا من أن يخرج طلبة المدارس إلى الشوارع، فلتتنافس المدارس فيما بينها لتطوير أسلوب تعليمي مُتقدم، لتتباهى مؤسسات التعليم العالي بفتح أفرع دراسية جديدة، لتفتتح المستشفيات أفرع ومشاريع صحية مُنتظرة، ليُبتعث شباب لتخصصات نادرة. ليُعطي القطاع الخاص امتيازات جديدة لموظفيه لتتغير وجهة نظر الشباب حوله. لتطالعنا مشاريع سياحية طال انتظارها. نريد شيئا من هذا القبيل، يجعل عُمان تذهب بخطوتها إلى الأمام، ولكي لا نظلم الجميع فهذه الأفكار ربما تكون موجودة أصلا، ولكن على استحياء وهي تظلم أمام ضجيج الاحتفالات على الجهة الأخرى.
لكن أليس جميلا أن تكون هذه الأفكار هي صيغة الاحتفال الأساسية ومحطة تفكير الأجيال المُقبلة، بدلا من الأفكار العقيمة التي تشتغل على فعل التفضيل “أفعل”، كأكبر بطاقة تهنئة، وأدسم كبسة، وأطول علم، وأضخم سلّة حلويات، وأعرض لائحة تواقيع وغيرها من الأفكار العجيبة والغريبة التي لا تُسمن ولا تُغنى من جوع.
القارئ الجيد لعُمان وتاريخها سيعرف أن لها تاريخ يجعلها فوق هذا النوع من المنافسة الرخيصة، خصوصا وأنها من أكثر الدول الآن عربيا وعالميا، مُطاردةً بالفضول والأسئلة بسبب فرادة مواقفها السياسية خصوصا، وكأنها استيقظت للتو وفتحت أبواب قلاعها وحصونها على العالم بعد أن مكثت طويلا بعيدا عن الأضواء. لسنا ضد الاحتفال. لسنا ضد الفرح. ولكن نريد أن لا يكون “الدينمو” المحرك الفاعل والحقيقي في هذا البلد متمثلا في شخص جلالته وحسب، وإنما أن يكون كل فرد في عُمان هو “دينمو” رديف ليرتقي بالبلد.
فكما يبدو من جهة أخرى أن سيناريو انخفاض سعر النفط، بدأ يبث بعض الخوف والقلق، لأننا للأسف الشديد، وطوال أعوام نهضتنا الماضية كنا نعتمد عليه كأهم مُشغل لكل أشكال الحياة، مُتجاهلين تطوير صناعاتنا بالشكل الذي يُمكننا من الاعتماد عليها. متجاهلين السياحة التي تمتلك امكانيات ضخمة لتكون مصدر دخل ممتاز لكل ما تحظى به عُمان من فتنة وأمان وموقع استراتيجي. متجاهلين فكّ قبضة الاحتكار، ليُسمح لهذا البلد أن يتنفس الاستثمار فيه لا أن يبقى بيد القلة القليلة. نعم نريد لبدائل النفط أن تصحو من سباتها، ونريد أن نحتفل بكثير من العمل الجاد .

الرابع والخمسون سياسة

عن الكاتب

هدى حمد

كاتبة عمانية