احتكار التفسير الديني .. إلى زوال

كتب بواسطة نبال خماش

في الماضي، وحتى القريب منه، كانت مجالات التفسير الديني بتشعباته وتنوعاته كافة، مجالا محتكرا لفئة أو طبقة محددة، وهنا أتكلم عن التفسير الديني على المستوى العالمي، إذ كانت التصورات والأفكار التي ينهل منها المؤمنون في كافة أنحاء الأرض، وعلى امتداد التاريخ الإنساني، خاصة التفسيرات المرتبطة بصميم الشأن الديني أو في جوانب متعلقة به، تصدر كلها عن جهة واحدة ومنبع محدد، يحتكر النص الديني ويتعهد تفسيره أو تأويله، والناس تتغذى من هذا النبع أو ذاك، تنهل منه وتروي ظمأها في المعرفة والوقوف على اجابات حياتية أو أخروية لأسئلة شغلت أذهانهم.

من جوانب فكرية متنوعة يمكن تناول مقالة د. زكريا المحرمي، المنشورة على صفحة الفلق الألكترونية، تحت عنوان” الرجم.. مراجعات حضارية”، وبسبب تنوع الطروحات والاستخلاصات التي خرجت بها المادة المنشورة، كان من الطبيعي أن يبرز هذا التنوع في المواقف تجاه مضامينها، فهناك المؤيد للفكرة والطرح، وهناك الرافض بالجملة لكل ما حوته، وهناك من فاجأه الطرح الذي تقدم به د. المحرمي من جهة جدية الطرح وجديده.
غير أن القضية التي كانت مثار اهتمامي وانتباهي معا غير متصلة بموضوع المقال أو مدى منطقتيه وصلابة حجاجه العقلي، وهي كلها عناصر متوفرة في المادة المنشورة، وإنما نظر إلى المادة باعتبارها ممثلة ونموذجا عملانيا لهذه التأثيرات الفكرية التي يحدثها المفكرون المعاصرون في الشأن المرتبط بالتفسير الديني على وجه الخصوص، فهم من خارج الفئة أو الطبقة التي اعتاد الناس أن يأخذوا آراءهم وتفسيراتهم في العديد من القضايا ذات الصلة بالتفسير التاريخي لحدث له دلالات دينية واضحة، ، ناهيك بالطبع عن الأخذ بالرأي الفقهي أو التشريعي القانوني في مسألة من مسائل الدين أو الدنيا، فهذه التفسيرات والاجتهادات، وحق اعلان الآراء في هذه المجالات هي من اختصاص الطبقة العالمة بالأمور الدينية، المتخصصة بالعلوم الشرعية، أو ما يعرف لدى الأديان السماوية، اليهودية والمسيحية برجال الدين.
في الماضي، وحتى القريب منه، كانت مجالات التفسير الديني بتشعباته وتنوعاته كافة، مجالا محتكرا لفئة أو طبقة محددة، وهنا أتكلم عن التفسير الديني على المستوى العالمي، إذ كانت التصورات والأفكار التي ينهل منها المؤمنون في كافة أنحاء الأرض، وعلى امتداد التاريخ الإنساني، خاصة التفسيرات المرتبطة بصميم الشأن الديني أو في جوانب متعلقة به، تصدر كلها عن جهة واحدة ومنبع محدد، يحتكر النص الديني ويتعهد تفسيره أو تأويله، والناس تتغذى من هذا النبع أو ذاك، تنهل منه وتروي ظمأها في المعرفة والوقوف على اجابات حياتية أو أخروية لأسئلة شغلت أذهانهم.
عالميا أخذت علوم البحث الإنسانية، لغوية وتاريخية واجتماعية ومعرفية نقدية تنافس وبقوة الفهم التقليدي لقراءة النصوص الدينية، ذات الصلة بالجانب التاريخي على وجه الخصوص، هذا التفسير الذي كان يصدر تاريخيا عن طبقة شكلت نسيجا متجانسا ومتماسكا، وان اختلفت فيما بينها في عدد من التفسيرات والاجتهادات، قلة أو كثرة، تقاربت أو تباعدت، الا أنها في نهاية المطاف طبقة متجانسة في أساليب البحث واصدار الأحكام، وفوق ذلك كله، هي طبقة احتكرت التفسيرات الدينية بكافة أطياف هذه التفسيرات ومجالاتها المتنوعة. وكان يبرز في مواجهة هذه الطبقة المهيمنة على النص والتفسير الدينيين، طبقة مفكرة شكلت كذلك نسيجا متجانسا ومتماسكا، لها أساليبها وأدواتها في الاستدلال واستخلاص النتائج بغية الفهم أو محاولة الفهم. والأغلب الأعم في تاريخية هذه العلاقة هو التوتر والانفعال والرفض.
على مستوى التجربة الإسلامية، يمكن القول إن بدايات هذه العلاقة الرافضة والمتوترة أخذت بالتشكل في بدايات القرن الثالث الهجري لسبب أن العلوم الفلسفية بدأت تشق طريقها، وتعمل على رسوخ قدمها في مجالات العلوم السائدة في تلك الآونة، والتي كان يتصدرها بالطبع العلوم الفقهية والدينية، وأخذ العقل الإسلامي، أو بعض نماذجه تميل الى الأخذ بالنهج العقلي الحديث. الا أن المدرسة المعممة القائمة على التقليد والنقل، وأساتذتها المنظرون، نظموا حملات فكرية متتالية استهدفت العلوم الجديدة المنافسة، ورموزها النشطة والفاعلة.
من الشواهد التي تحضرني في التطبيقات العملية موقف أحد رموز المدرسة الكلاسيكية ازاء حركة التجديد في عصره، إنه الأديب والمؤرخ ابن قتيبة، الذي هاجم وبضراوة العلوم الجديدة المنافسة، لتشهد الساحة الفكرية الإسلامية منذ هذه الفترة مناقشات اختلفت حدتها، وتباينت مجالات انفتاحاتها من وسط ثقافي الى آخر، فكانت هناك مجالات وأوساط ثقافية تقبل الفكر الجديد والمتجدد، وكان أمرا طبيعيا في مثل هذه المناخات أن يتقبل الأستاذ أوالشيخ من تلميذه أو حتى من مخالفه ومعارضه في التفسير، مثل التجربة العمانية التي جرى الاستدلال في مقالات سابقة على عدد وافر من الشواهد والأمثلة الدالة على هذه النزعة المعرفية المؤسسة على التسامح والقبول. فيما سلكت مدارس فكرية أخرى منهجا مغايرا، قوامه الاستبعاد والانغلاق، ورفض أي تجديد واعلاء شأن التقليد والنقل.
توجت هذه التنافسية على نحو بارز وعلني لحظة تدخل الفيلسوف الإسلامي ابن رشد ، الذي هز بقوة وعلى نحو مؤثر بنيان المدرسة الكلاسيكية، وفند بحجاج منطقي وعقلاني متماسكين أركان هذا البنيان، الا أن تجربته المدرسية انتهت بالفشل، ولم تلق رواجا في العالم الاسلامي بسبب الهجمة القوية التي تعرضت لها هذه التجربة من رموز السيادة الأستاذية، في حين تلقف الغرب المتعطش آنذاك للخروج من أزمته الظلامية عبر رحلة بحث عن المعرفة التنويرية، مقولات ابن رشد وتنظيراته، ليؤسس عليها حضارة ونهضة على نحو حداثي وعصري، وهي مسألة أقر مفكرو الغرب على اختلاف أزمانهم وفتراتهم التاريخية، الدور الذي لعبته فلسفة ابن رشد في نهضة العالم الغربي برمته.
هذه العلاقة الشائكة والمعقدة بين العلوم الدينية والعلوم العقلية بكافة صورها وأشكالها وتفرعاتها، الفكرية والاجتماعية أيضا، لم تدرس على نحو واف الى الآن، وأقصد هنا تحديدا الروابط المشتركة بين مسألة المفكر فيه واللامفكر فيه، والأبعاد المجتمعية لهذه الروابط في العلاقات والنظرة المتبادلة. فهناك مدرسة تاريخية حاضرة لا زالت تصر على التمسك بذات المفردات التعبيرية والأساليب البحثية في عملية تناول النصوص وقراءاتها، أو إعادة هذه القراءة. إن هذا النهج ما هو في الحقيقة سوى تأكيد على نحو عنيد واصرار ملح على قراءة النصوص القديمة من منظور يعكس مساحة وحالة الوعي السائدة فترة تشكل هذه النصوص وفترة القراءة الأستاذية الأولى لهذه النصوص، ولم يستوعب رموز الأستاذية الجديدة حقيقة أن العقل الإنساني هو في حالة تصاعد وتنام مستمرين، وبالتالي فالنظرة الى المسائل الطارئة تختلف من فترة زمنية الى أخرى، وأن المشاكل الجديدة تحتاج الى حلول جديدة، وهذه بديهيات المسار الطبيعي للتاريخ؛ وبالتالي فان الخروج بتفسيرات جديدة وفق المنظور المدرساني العقلاني، والطرح الذي قدمه د. المحرمي يعد نموذجا لطروحات هذه المدرسة، يعد واجبا دينيا على نحو مباشر، من خلاله تؤدى وعلى نحو ناجح هذه التوأمة بين النصوص الدينية بكافة مجالاتها ومستوياتها التبجيلية، وبين النتائج الكبرى والمذهلة التي تزخر بها العلوم الإنسانية بصورة يومية وفي كافة المجالات.
إن الاستدراك على شروحات الأقدمين والتعديل عليها، واعادة قراءتها قراءة متطورة وفقا للمقتضيات المتجدة، هي مسألة في صميم الوعي الإسلامي التاريخي بصيغته التنويرية، والتجربة التاريخية العمانية إحدى هذه التجارب وفي الصدارة بمجالها، وان لم تعط الى الآن حقها في الدراسة والتناول التحليلي، وهي تجربة يؤكد فحواها أن الإسلام ليس حكرا على طبقة عالمة بعينها، وأنه دين ينزع القداسة والتنزيه والقول الفصل عن أي كان، وأن من حق طبقات عالمة أخرى أن تتناول تفسيرا أو مروية ذات صفة دينية وتعيد قراءتها على نحو مغاير لما جرى تداوله وتناقله عبر الأزمان، استنادا الى منهجيات بحث أكثر تطورا، وهي منهجية أثبتت في كثير من مواطنها وتجاربها تفوقها وقوة تأسيها، وسببت أكثر من مرة ما يمكن تسميته بالحرج المعرفي للمدرسة المنافسة.
إن انبعاث العقل التنويري من جديد، وتعميم خطابه والاسهام في انتشاره هو السبيل الوحيد، وهذا مجرد رأي، لمواجهة خطر انبعاث أسوأ التفسيرات والتبريرات التي اختزنها العقل الاسلامي منذ فترة ليست بالقليلة، والتي بدأت تشتغل شغلها بفضل استلهام هذه التفسيرات المشوهة لجوهر الإسلام ومن ثم التلاعب بعقول الناس العاديين الذين يخلو ذهنهم تماما من وجود حتى ولا أطياف فهم حقيقي لغايات هذا الدين ومقاصده العظيمة. وهذا الذي نراه واقعا ملموسا من تحولات خطرة تعايشها عدد من المجتمعات الإسلامية، إنما يعكس ثمرة هذه القراءات الظلامية للنصوص الدينية. إضافة الى أن المنهج التنويري، وهذا رأي أيضا، هو القادر على استرداد التراث الديني لحيويته وسموه، والقادر على إعادة حالة التوازن النفسي للمجتمعات الإسلامية.

السادس والخمسون ثقافة وفكر

عن الكاتب

نبال خماش

كاتب أردني