نحو خيار خامس من أجل الوطن

كتب بواسطة بسمة مبارك سعيد

توطئة:

أكتب هذا المقال، وأسلمه للنشر وأنا أغالب شعوراً ملحاً بعدم الجدوى، و خيبات عديدة متراكمة. أكتبه وأنا أعرف أن قطاعاً عريضاً من رجال السلطة، لن يرى فيه سوى مزيد من “التحريض” عليها، لكنني أراهن أن فيها عقلاء يدركون تماماً ما أعنيه، ويقدرون اللحظة الحرجة التي تمر بها عمان.

أصاب رهاني أم خسر، أجدني ملزمةً بأن أقول ما قلته، لله وللوطن وللتاريخ.

حين تحيا في ظل نظام تسلطي، لا يعترف بحقك في المشاركة السياسية، فعلاقتك بالسلطة ستتخذ واحداً من أربعة أنماط، إما أن:

1-     تصمت، وتلتزم “الحياد” وقت الأزمات، وفي أي وقت آخر، وتراقب الشأن العام محجماً عن المشاركة فيه؛

2-     تتحرك بإيجابية في حدود المتاح لك، متجنباً الصدام المباشر مع السلطة؛

3-     تتحالف مع السلطة وتجد لك فيها موطئ قدم، ظاهراً كان أم خفياً؛

4-     تصطدم بالسلطة وتتحداها عندما يتطلب الأمر.

ولست هنا بصدد ترجيح خيار على آخر أو محاكمة أصحابها، بقدر ما هي محاولة لفهم هذه الخيارات والتفكير فيها بصوت عالٍ، في وقت تزداد فيه الأسئلة الحاحاً. فأنا، كغيري من العمانيين، نراقب بلادنا وهي تقف أمام منعطف تاريخي حرج. نراقبها ونحن نشعر بالعجز، أيدينا مكبلة، حقوقنا السياسية منتقصة، ومجردون من أدوات الفعل والحراك العام.

في ظل وضع كهذا، وأمام لحظة تاريخية كهذه، ما هو دوري؟ ما هو واجبي؟ وكيف تكون علاقتي بسلطة تستمر في تهميشي وإقصائي؟

أمامي وأمامك، كما أرى، أربعة خيارات:

الخيار الأول:

تبني هذا الخيار يعني أن تفصل تماماً بين شأنك الخاص، وبين الشأن العام. فما دمت بخير، تحيا حياة ترضيك، أو تكفيك، فـ “للبيت رب يحميه”. أن تنتهك حرية، أو يفشل مشروع، أو يعين وزير، أو تتخبط مؤسسة، أمورٌ لا تعنيك بشكل مباشر، ولا تجد نفسك ملزماً أو محتاجاً لأن تبدي رأياً فيها.

مشكلة هذا الخيار، من وجهة نظري، أن أصحابه لا يرون الصورة الأكبر. لا يدركون أنهم، في الحقيقة، يتشاركون المركب مع الجميع، وأن أي ثقب في أي ركن من أركان السفينة مهما بعد، قد يتسبب بغرق الجميع إن لم يتم تلافيه. كما أن الحياد لا يكون دائماً حياداً، فصمتك حين يظلم شخصٌ أمامك، حماية للظالم وعون له. لهذا وصف الرسول عليه الصلاة والسلام، الساكت عن الحق بأنه شيطانٌ أخرس. ولهذا قال مارتن لوثر كينغ، أن أسوأ مكان في الجحيم محجوز لأولئك الذين يلتزمون الحياد في أوقات الأزمات الأخلاقية.

ومن ناحية أخرى، فمن يتبنى الخيار الأول حمايةً لذاته، يرتكب خطأ جوهرياً، لأنه يفترض أن بإمكانه العيش في محيط يعج بالفساد والظلم، دون أن يناله منه شيء! لذا، كثيرا ما يجد أصحاب الخيار الأول أنفسهم ضحية النظام الذي صمتوا عنه واعتقدوا أنه لن يطالهم، وحينها يصبح غضبهم مضاعفاً. فبالإضافة إلى ما تعرضوا له من ظلم، يشعرون بالإجحاف لأن صمتهم الطويل لم يقابل بالامتنان ولم يؤمن لهم الحماية الحقيقية التي كانوا يفترضونها.

الخيار الثاني:

من يتبنى الخيار الثاني، يحاول التعاطي مع واقعه بإيجابية، على اعتبار أن إيقاد شمعة مهما ضئلت، أجدى وأنفع من أن تلعن الظلام. أصحاب هذا الخيار يؤمنون أن ما لا يدرك كله، لا يترك جله، وأنك ملزمٌ مهما كان السياق الذي تتواجد فيه قاحل وصعب، بأن تتحايل عليه وتجد منافذ للنور والهواء والخضرة. يؤمنون أن النحت الصبور المستمر في الصخور من حولك، سيعيد تشكيلها حتما مهما طال الزمن.

إلا أن مشكلة هذا الخيار أنه ضيق الأفق نوعاً ما، لأنه أيضاً لا يأخذ الصورة الأكبر بعين الاعتبار. فصاحبه يفترض أنه يستطيع أن يبني قلعة من رمل على شاطئ هائج، ويعتقد أن جهده سيبقى مشكورا حتى وإن قررت موجة أن تضرب قلعته الرملية وتسوي بها الأرض. صاحب هذا الخيار، مستعد لأن يعود إلى مربع الصفر ألف مرة، باعتبار أنه يوقد شمعة، وهو غير مسؤول عن مزاج الريح إن قررت إطفاءها.

أصحاب هذا الخيار أيضاً، سيصطدمون عاجلاً أم آجلاً بجدار فولاذي صلد لا يجدي فيه النحت، وستبقى مشاريعهم مؤطرة بحدود الممكن الذي قد يضيق وقد يتسع اعتباطاً وتعسفاً. كما أن العمل العام بطبيعته، معتمد على بعضه، كأحجار الدومينو. فلا يمكنك أن تؤسس جمعية فاعلة، مالم يكن قانون الجمعيات مناسباً، ولا يمكنك أن تطالب بإصلاح قانون الجمعيات، مالم تكن حرية التعبير عن رأيك مكفولة، ولن تكون حرية التعبير عن رأيك مكفولة مالم تكن السلطة مقيدة بحكم القانون، ولن تكون السلطة مقيدة بلا دستور. وهكذا.

لذا أن تمسك بآخر الحبل وتصر عليه وتتصور أنك قد أديت واجبك، بينما باقي الحبل تعبث به الريح، ليس تصرفاً حكيما، ولا مجدياً على المدى الطويل. لكنه سيدغدغ حتماً شعور الرضا الذاتي عندك ولو لبرهة من الوقت.

الخيار الثالث:

لا يمكن لأي تحالف أن يكون مفيداً لطرفيه، إلا إن اعترف كل منهما بالآخر والتقت مصالحهما ولو جزئياً. أما أن تتحالف مع نظام تسلطي، لا يعترف أصلاً بحقك في المشاركة والعمل السياسي، فهذا يعني أنك تعقد حلفاً مع طرف لا يرى هذا التحالف إلا من منظور مصلحته، لأنك بالنسبة له لست بندا ولا شريكا حقيقيا، ولا تمتلك ركيزة قانونية أو مبدئية أو واقعية، تتكئ عليها في تحالفك معه, وبالتالي فهو ليس مضطراً إلى القبول بك إلا بمقدار ما تكون مفيداً بالنسبة له. أي أن مصدر استحقاقك لأن تكون طرفاً في هذه العلاقة، ليس دائماً ومستقلاً ومتيناً، وإنما آني وذاتي خاضع لتقديرات السلطة واعتباراتها المصلحية. واستمرار التحالف هذا يبقى أيضا منوطاً باستمرار الفائدة التي يستخلصها النظام منك، فإذا انعدمت الفائدة لم يعد للتحالف مبرر أو سبب.

كل هذا يعني أنك بحاجة دائمة ومستمرة إلى أن تثبت أنك مفيد للسلطة؛ عبء استمرار العلاقة يقع كله على عاتقك. والسؤال هو: في نظام تسلطي، ماذا يعني أن تكون مفيداً للسلطة؟ أن تعينها على تسلطها؟ تسهله؟ تبرره؟ تجمله؟ تصمت عنه؟

والمبرر الأكثر قبولاً لأصحاب هذا الخيار، أن الإصلاح من داخل السلطة أجدى من البقاء والانتقاد خارجها. إلا أنهم يغفلون أن ميزان القوة لا يرجح كفتهم، وأن الاعتبارات التي تحكم العلاقة لا تسمح لهم بأن يملوا على السلطة ما تفعل، بل هم مطالبون باستمرار لإثبات استحقاقهم لأن يكونوا جزءا منها. كما أنهم يفترضون أيضاً أن السلطة متفقة معهم فيما يخططون له من إصلاح؛ متفقة معهم في الغاية والوسيلة. وهو أمر لا يراهن عليه من يعرف طبيعة الأنظمة التسلطية والأمراض التي تعاني منها.

لذا حتى وإن اقتحمت الأمر مسلحاً بحسن النية، سرعان ما سيتكشف لك أنك تسير في اتجاه، وهمك الوطني في اتجاه آخر، مرتهنا لإرادة السلطة ومزاجها. البعض يستطيع احتمال هذا التمزق ويتصالح معه، والبعض الآخر يتحول إلى درس للبقية.

الخيار الرابع:

أصحاب هذا الخيار يشعرون أن أي ثقب في السفينة يهدد وجودهم الشخصي، وأنهم معنيون بحله و مسؤولون عن إصلاحه، مهما كان الثقب صغيرا أو بعيدا عنهم. ما داموا يركبون السفينة، فكل ما يتعلق بها، وبسلامة إبحارها، يعنيهم. ولا يحجمون عن الصدام مع السلطة إن كان إصلاح الثقب يتطلب ذلك.[1]

مشكلة هذا الخيار أن أدواته، في ظل نظام تسلطي، محدودة جداً، وأثمانه باهظة. كيف تتصادم مع سلطة بيدها كل أدوات القوة، وأنت فرد أعزل، لا تملك سوى لسانك؟ وماذا إن قطع؟

نعم تستطيع أن تراهن على الزمن، أن تراهن على الوعي ، أن تراهن على أن ذبابتك الصغيرة تدمي مقلة الأسد، وأن ما تقوله وتفعله على ضآلته، يهز الأرض الرخوة التي تقف عليها السلطة، يعري ضعفها، ويكشف هزالها. لكنك بين معركة ومعركة تحتاج إلى أن تضمد جراحك، ومن السهل جرك إلى معارك منهكة تستنزف قواك دون أن تحقق انتصارات حقيقية. بل وتنسى الهدف الأساسي، الصورة الأكبر، وتنشغل بأهداف فرعية ثانوية. وبينما أنت مشغول بمعاركك الجانبية، يتسع الثقب، وتقترب السفينة من الغرق.

صاحب هذا الخيار أيضاً ضيق الأفق، لأن نظرته للأمور تظل محكومةً ب (أنا وأنتم)، ولا يستطيع أن يرى أفقاً ل (نحن). لا يستطيع أن يتصور أن قبطان السفينة “قد” يستمع و “قد” يقتنع و “قد” يتعاون معه في إصلاح الثقب. وهو سوء فهم وأزمة ثقة لا يتحمل مسؤوليتها وحده وإنما تتحمل السلطة الجزء الأكبر منها، لأنها غذت خبراته التراكمية بالكثير من الخيبات.

هل من خيار آخر؟

عندما أفكر في هذه الأنماط، فأنا لا أفعل ذلك من باب الترف الفكري، وإنما كحاجة وجودية أحدد بها دوري في هذه الحياة. فأنا، كغيري، أركب سفينة أتقاسمها مع آخرين، أرى ثقوبها تتسع، مهددةً حياتي، ولا بد لي من أن اتخذ موقفاً إزاء هذه الثقوب.

هل أتجاهلها وأستمتع بمنظر البحر، مديرةً ظهري لبقية الركاب؟

هل أحاول سد الثقب بأدوات أنا أعرف أنها غير مجدية؟

هل أتحالف مع القبطان وأتبنى رأيه الذي أعرف أنه قاصر؟

أم أتصادم معه وأظل أصرخ مشيرة للثقوب وهي تتسع على أمل أن يستفيق بقية الركاب؟

كلما أمعنت التفكير في هذه الخيارات، بدت لي كلها غير كافية ولا مجدية. هل يعقل أنني محكومة بها وحدها؟ أليس من بديل خامس؟ ألا يمكن أن تتخذ علاقتي بالسلطة شكلاً أكثر نضجاً؟ أكثر جدوى؟

أفكر في هذا، وأفكر في سفينتي، أفكر في عمان التي تمر الآن بظرف دقيق للغاية ومنعطف حرج في تاريخها الحديث. بلادي التي أنهكها الفساد، تسير كسفينة تملأها الثقوب بلا وجهة واضحة.

هل أحتاج أن أشرح؟!

سلطاننا مريض خارج البلاد منذ سبعة أشهر، ولا أحد يعلم متى سيعود. اقتصادنا، كما أظهرت الأزمة تلو الأخرى، لا يعول عليه كريشة في مهب الصراعات الدولية والأسواق العالمية. مؤسسات الدولة ضعيفة وغير متجذرة. الفساد مستشر كوباء ينخر في أجهزة السلطة. الشعب غاضب ومحتقن، اعترفت السلطة بذلك أم استمرت في تجاهلها. مستقبل الحكم في البلاد غير واضح. ونحن في اقليم مشتعل من جميع زواياه، الطامعون بنا فيه أكثر من الأصدقاء.

فإذا لم نبحث الآن عن مخرج آمن للبلاد من مأزقها، متى سنفعل؟ إذا لم نجد الآن بديلاً خامساً للعلاقة بيننا وبين السلطة، فمتى نفعل؟

نحن بحاجة إلى بديل خامس للأنماط التي اعتدنا عليها، إلى علاقة أكثر نضجاً، بعيداً عن الخصام أو الصدام. عمان بحاجة إلى شراكة حقيقية متكافئة بين السلطة والشعب، إلى حوار وطني صريح وطويل ومفتوح تطرح فيه جميع أسئلة الحاضر الصعبة والمؤلمة، ونرسم فيه معاً خارطة طريق نحو المستقبل بخطى واثقة مطمئنة.

وفي خلق هذا الخيار الخامس، تتحمل السلطة العبء الأكبر.

لا يمكن للسلطة أن تستمر في انفرادها باتخاذ القرار والتعامل مع الوطن كأنه ملك خاص، تديره كما تشاء، واعتبار من فيه وكأنهم مجموعة من القصر أو فاقدي الأهلية المحتاجين للوصاية. لا يمكنها أن تستمر في العمل منفردة وتطالبنا بأن نتفرج صامتين مسلمين بحكمتها ومقدرتها. لا يمكنها الاستمرار في التشكيك في وطنية كل من يقف في وجهها، واتهام من ينتقدها بالتحريض. لا بد للسلطة أن تفهم أن الوطن لا يختزل فيها، وأنه أكبر منها، موجود قبلها وسيبقى طويلا بعدها. وأننا جميعاً لنا فيه على قدم المساواة. من حقنا أن نحبه ونخاف عليه ونحلم به وله، وليس من حق السلطة أن تصادر أحلامنا أو تفرض وصايتها على أفكارنا.

على السلطة أن تدرك أن قوتها الآنية ليست مستمدة من ذاتها وإنما من روافد موضوعية نعرفها جميعاً، وأن هذه الروافد مهددة جميعها بالنضوب، ولا يعول إلا على النبع الأصيل، على الشعب الذي يمنحها بحبه وثقته شرعيتها وقوتها في الداخل والخارج.

على السلطة أن تتفهم غضب الشارع وتعترف بأسبابه وتتحمل مسؤوليتها في تراكمه، عوضاً عن الانتقاص من هيبة الدولة بملاحقة الكتاب والنشطاء والمغردين، وترك رموز الفساد تنخر في شرعيتها الأخلاقية. فما تفعله السلطة من تجريم لمخالفيها وتهميشهم والتشكيك في وطنيتهم واتهامهم بالتحريض، مؤشر واضح على خلل منهجي عميق في تفكير السلطة. فهي من ناحية، لا تستطيع الفصل بين ذاتها وبين الوطن؛ لذا تعتبر كل من ينتقدها، محرضاً ضد الوطن. ومن ناحية أخرى، لا تستطيع أن تقبل أن المواطن يمتلك حقاً أصيلاً، بحكم مواطنته، في مساءلة السلطة وانتقادها وإصلاحها والمشاركة فعلياً في حكم بلاده وتقرير مصيره.

أما حدة الانتقادات وقساوة الغضب الموجه نحو السلطة، فليس سوى نتيجة طبيعية للتهميش الذي يعاني منه المواطن، فعندما تجرده السلطة من جميع أدوات الفعل والحراك المجتمعي، وتغلق في وجهه المنابر، من الطبيعي أن يتضاعف غضبه ويزداد حدة. أي أن السلطة بتجاهلها وتهميشها للحراك الشعبي وتجريده من أدواته، تصنع هؤلاء “المحرضين” وتغذي غضبهم.

وفي نفس الوقت الذي تقسو فيه على معارضيها، تتساهل مع المحرضين الحقيقيين الذين ينهبون ثروات البلد ويسرقون أحلام شعبه ويتاجرون بمقدارت الوطن واستحقاقات المواطنين. كل مشروع فاشل، كل خطة قاصرة، كل تصريح غير مسؤول، كل مؤسسة مترهلة، كل مسؤول فاسد، تحريض وتهديد لأمن الدولة. هذه هي الأخطار الحقيقية التي لا بد من مواجهتها، أما ملاحقة الكتاب العزل ومطاردة كلماتهم وخنق أصواتهم، وتصويرهم وكأنهم الخطر الأكبر الذي يهدد أمن الدولة، فهذا لا يدل إلا على اختلال كبير في أولويات السلطة وفي فهمها لما يعنيه أمن الوطن وأمن شعبه، خصوصا في هذا التوقيت.

وهي حين تجرد من يعارضها من الوطنية، وتعمل على تهميشه وإقصائه، تشجع وتعزز نموذجاً مقابلاً رديئاً يفترض أن حب الوطن يعني السكوت عن أخطاء السلطة، والتصفيق لها أصابت أم أخطأت. هذا النموذج الرديء للوطنية قد آن الأوان لتجاوزه. فعُمان ليست بحاجة للجوقة الرديئة التي تدعي أن “الأمور طيبة” وأن السلطة تعرف تماماً ماذا تفعل، وإنما بحاجة إلى أصوات وطنية شجاعة قادرة على تشخيص المشكلة وتوصيف الحلول والمضي في تطبيقها بحزم واقتدار.

والسلطان في مرضه الآن ليس بحاجة لمن يضع صوره على السيارات ومواقع التواصل الاجتماعي، وإنما هو بحاجة لمن يحافظ على منجزاته، لمن يضمن لعمان انتقالاً آمناً للمستقبل به ومن بعده. وهذا لا يمكن أن يتأتى دون حوار وطني، تنزل فيه السلطة من برجها العاجي، لتحاور الشعب، وتصغي له وتعيد إليه حقه في المشاركة السياسية وصياغة مستقبل وطنه. تعترف به كشريك حقيقي وصاحب حق أصيل، لا كمصدر إزعاج تسكته بالعصا أو الجزرة. وتحديدا، عليها أن تتخلى عن ثلاث عقبات رئيسية تقف في وجه هذا الحوار، وهي:

١- الاسطوانة المشروخة التي تتحدث عن عدم نضج الشعب وعدم جاهزيته، فالسلطة ومن فيها ليسوا سوى جزء من هذا الشعب، ولا يوجد في عقليات رجالها -بدليل الحال التي آلت إليها البلاد- ما يبرر تعاليها عليه.

٢- ثقافة الخوف التي تثيرها لدى الناس وجعلهم يشعرون بأنهم مضطرون للاختيار بين الحرية والأمن، وكآن الاثنين ضدان لا يلتقيان.

٣- التصرف كمن يمتلك الحقيقة المطلقة والمعرفة الكاملة والقدرة الكلية، فليس في واقعها ما يسند هذه القناعة.

من جهة أخرى، على الشارع، والفاعلين فيه، أن لا يسمح للخيبات السابقة بأن تقف حجر عثرة، عليه أن يبقي قلبه مفتوحاً ويده ممدودة من أجل عُمان. عليه أن يتجاوز العاطفية والمثالية المفرطة وأن يفصل بين الخاص والعام. وأن يتوقف عن اللعبة الطفولية التي يتظاهر فيها أن الآخر غير موجود.

حتى من تحالف مع السلطة وداهنها، عليه أن يدرك أن مصلحة هذه السلطة ليست في الصمت أو المداهنة وإنما في النصيحة الصادقة المخلصة، في أن يهدي إليها عيوبها ويعينها على أن ترى الصورة الأكبر.

فلنبدأ بالاعتراف ببعضنا، بالثقة في أننا جميعاً نتحدث ونفعل مدفوعين بحب الوطن، فلندع التشكيك والتخوين والمزايدات جانباً، فلا أجندات خفية ولا أصابع خارجية. ولنعمل معاً، لا كخصوم أو أقطاب متنافرة، وإنما كركاب سفينة واحدة إن غرقت فسيغرق الجميع معها. فلنرتق إلى مستوى اللحظة واستحقاقاتها، ولحجم مسؤوليتنا الوطنية. فليس هناك أكثر حمقاِ من شخصين يعملان لنفس الغاية يهدم أحدهما ما يحاول الآخر بناءه.

ليكن هذا الحوار الوطني الجامع خطوةً استباقية لما قد يحمله لنا المستقبل القادم، عوضاً عن أن يأتي متأخرا جدا كما تنبئنا تجارب الآخرين. ولنبدأ الآن، فالأجندة طويلة. وليكن حواراً حقيقياً منتجاً يخرج ببرنامج إصلاحي عملي، تبدأ به عمان مرحلة جديدة في تاريخها السياسي، يكون قوامها الحرية والعدالة والمساواة وحكم القانون. ليس بالضرورة أن يكون برنامجاً ثوريا راديكالياً، نقفز فيه على اعتبارات الواقع، وإنما لا بد أن يكون واضحا، ممنهجاً وفي اتجاه ثابت.

ليكن والسلطان معنا وبين ظهرانينا، لنكمل معه ما بدأه، فوجوده صمام أمان، يضمن لنا بحكمته واجتماع القلوب عليه ما افتقدته تجارب عديدة فاشلة من حولنا.

قلتها وأقولها مراراً وتكراراً: أمامنا فرصة ذهبية لنحول هذا المنعطف الحرج إلي جسر عبور نحو المستقبل، قيادة وشعباً، إلا أن النافذة تضيق في كل يوم يمر ونحن نراوح مكاننا. فلنعبر ببلادنا نحو شط الأمان ولنصنع نموذجاً مشرقاً يهتدي به الآخرون في هذه اللجة المظلمة.

[1] هناك طبعاً من ينتهج الصدام لأسباب ذاتية بعيدة كل البعد عن الشأن العام وهمومه، وهذا الصنف ، في هذا السياق، لا يعنينا.

 

السادس والخمسون سياسة

عن الكاتب

بسمة مبارك سعيد

كاتبة ومحامية عمانية