مُحزنٌ ومؤسفٌ للغاية أن يتوقف (أو يُوقف) مشروع شبابي واعد مثل مشروع “مكتبة معاصرون” كانت تُعقد عليه آمال، وكان يسدّ فجوة ليست هيّنة في سوق الكتب في عُمان، التي ما تزال تنتظر مكتبة شرائية تليق ببلدٍ في القرن الحادي والعشرين يفخر بنهضةٍ بدأت قبل أربعة وأربعين عاما.
مع هذا الخبر الذي انتشر بالأمس ظهرت تعليقات عديدة، كثير منها يحمل رسالة متشابهة: “إنّهم يخافون من الكتب”، وهي مقولة تتكرر كلّما انتشر خبر عن منع كتاب. على أية حال فهذا المقال سيتجاوز قضية المكتبة الموقوف نشاطها ويتوقف عند هذا التصوّر المذكور، أي “أنهم يخافون من الكتب”، والإشارة هنا بطبيعة الحال ودون مراوغة تتوجّه إلى الأجهزة الأمنية. هل حقًا هذا هو الأمر؟ إنّ وصف المسألة بـ”الخوف من الكتب” له سحرٌ بلاغي أدبي مؤثر، بيد أنه لا يمثّل واقع الأمر بالضرورة، بل إنه قد يسطّحه ويمنع من التعمّق في مدلولاته.
بدايةً، حين نُسقط وصف “الخوف” على كيانٍ ما فإننا نفترض وقوعه في موقف ضعفٍ، أيًا كان نوعه، بيد أنه لا يتوفر لدينا من بين المعطيات الحالية ما يشير ولو من بعيد إلى موقف الضعف هذا (ولا بدّ هنا من التمييز الضروري بين موقف الضعف، والضعف؛ فقد يكون المرء ضعيفا لكنّه ليس بالضرورة واقعًا في موقفٍ ينكشف فيه ضعفُه). لا يمكننا أن نصف مؤسسة بأنها في موقف ضعف في حين أنها تمتلك وسائل الإعلام والقانون والعنف المشروع (بتعبير ماكس فيبر)، مع غياب إعلام مستقل أو مؤسسات مدنية لها خطاب قويّ مؤثر أو مجتمع قد يتعاطف مع طرحٍ يواجه خطاب السلطة. قد يصحّ هذا الوصف في فترات سابقة، حين كان الأمر لمّا يستقر بعد، وحين كانت هناك كتب قد تغذّي نزعةً موجودة للتمرد أو الاعتراض.
ثانيًا، ما الذي قد “تخاف” منه الأجهزة الأمنية لو أنّ الناس قرؤوا كتابا معيّنا؟ هذه المقولة تفترض أنّ الكتاب “ناقل أوتوماتيكي” للوعي، من يقرأه سيتغيّر من فوره وفقا للخطة التي وضعها المؤلف، وهذا كلام غير دقيق. الوعي لا يتأتى بالقراءة وحدها؛ فالكتاب جواز عبور فقط، وما يضمن الوعي هو الاستعداد العقلي للنقد والتفكّر والتحليل، وهذا الاستعداد يستلزم تنشئة تربوية وتعليمية وإعلامية ومجتمعية من نوعٍ خاص. فلئن كان التعليم لدينا على النحو الذي تعلمون، وكانت وسائل الإعلام على النحو الذي تعلمون، وكانت البُنية الاجتماعية على النحو الذي تعلمون، فمن أين للكتب أن تشكّل خطرًا جَمْعيًا؟
ثالثا، إنّ منع كتابٍ أو حتى مكتبة ليس بالضرورة دليلا على “الخوف من الكتب”. الكتب “الممنوعة” لدينا معدودة، وهناك عشرات الكتب المتوفرة التي إن قُرأت بوعيٍ وبصيرة نافذة قد يكون لها تأثير تمرّدي أو احتجاجي أكبر بكثير جدا من كتابٍ صِداميّ أو منتقدٍ للسلطة على نحوٍ مباشر. والأجهزة الأمنية تعلم ذلك جيدا، وليست بالسذاجة التي قد يعتقدها البعض، وهي تعلم حقّ المعرفة أنّ منعها لكتابٍ ما لن يحول دون وصوله للقراء،وتعلم أنّ أي شخصٍ في عُمان يستطيع تحميل الكتب الممنوعة عبر الإنترنت ويستطيع طلب نسختها المطبوعة فتصله إلى مكانه، بل تعلم أيضًا أنّ هذا المنع نفسه يروّج الكتاب أكثر. يعرفون ذلك. إذًا لماذا يمنعون إن لم يكونوا خائفين؟
لو نشرتَ تدوينة تقول فيها إنّك تقرأ أو قرأت الكتاب الفلاني (المحظور/غير المرغوب)، فلن يلاحقك أحد. كاتب هذا المقال نشر ما يربو على الثلاثمائة تغريدة عن كتابٍ مزعج لجميع حكومات الخليج، وانتشرت تلك التغريدات في تويتر انتشارا مدوّيا، لكنّه لم يتلقّ اتصالا أو رسالة أو حتى إشارة بالملاحقة. الأجهزة الأمنية لا يعنيها أن تقرأ كتابا ما أو تكتب عنه (ما لم يتضمن إعابة لجلالة السلطان)، فقراءاتك تخصّك ولا تثير مخاوفها، ولكن أن تؤلّف ذلك الكتاب أو تبيعه أو تروّجه، فهنا قد تبدأ الملاحقة؛ إذ إنّ الأمر خرج من دائرة القراءة إلى دائرة المواجهة (حسب تفسير الأجهزة الأمنية). حين تؤلف كتابا ينتقد السلطة أو يتعرّض لقضايا لا ترغب في تداولها، فإنك هنا تسجّل موقفا “مُخالفا” أو “مُتحديًا” أو “مُعارضا” حسب تفسيرها، وهذا ما لا تستطيع الأجهزة الأمنية أن تتحمّله.
ما ذُكر أعلاه ليس تبريرا أو تأييدا لموقف السلطة، بل على العكس تمامًا؛ إذ إنها دعوة لنبذ هذا التصوّر “الأصولي” الذي لا يحتمل الاختلاف ويرغب دائما في أن تظهر الدولة للخارج بمظهرٍ موحّد، ولا يتصالح مع “المرتدّ” أو المنشقّ عن هذه الوحدة. لا بدّ أن نصل إلى مستوى من الثقة بالنفس بحيث لا يشكّل الرأي (ولا حتى الانشقاق السياسي) تحديًا أو خطرًا على الأمن الوطني، وعُمان التي نريدها أكبر من ذلك. في هذا الوقت تحديدًا من تاريخ البلاد، يحتاج المواطن إلى الثقة أكثر بالأجهزة الأمنية، وبقوّتها، وترفّعها عن وضع رأسها برأس مغرّدٍ، أو كاتبٍ أو بائع كتب.
هل حقًا يخافون الكتب؟
ما الذي قد “تخاف” منه الأجهزة الأمنية لو أنّ الناس قرؤوا كتابا معيّنا؟ هذه المقولة تفترض أنّ الكتاب “ناقل أوتوماتيكي” للوعي، من يقرأه سيتغيّر من فوره وفقا للخطة التي وضعها المؤلف، وهذا كلام غير دقيق. الوعي لا يتأتى بالقراءة وحدها؛ فالكتاب جواز عبور فقط، وما يضمن الوعي هو الاستعداد العقلي للنقد والتفكّر والتحليل، وهذا الاستعداد يستلزم تنشئة تربوية وتعليمية وإعلامية ومجتمعية من نوعٍ خاص.