هناك أنماط من الناس كتب لها الحياة، حتى وإن غادروا عالمهم الدنيوي، فإن أثرهم يبقى حاضرا كأنهم لا زالوا بيننا. ووفقا لشهادات تاريخية تتسم بالغزارة والتنوع، فإن حياة هذا النمط من الناس يتسم بجملة من العناصر المشتركة، في مقدمتها وعلى رأسها أن محطات حياتهم يغلب عليها سمة الشقاء، غير أن المدهش والغريب في المسألة أن أسباب هذا الشقاء ومولداته، هي ذاتها أسباب ديمومتهم وبقاء ذكرهم، والممثلة بهذا المسعى الحثيث والشغف الذي لا حدود له في رحلة مضنية من أجل الفهم، فمجمل حياة هؤلاء من مبتدئها الى منتهاها مجرد محاولة للفهم والاستكشاف، والاجابة عن أسئلة وجودية لا زال العقل البشري عالقا في محاولاته لتقديم ولو تصورات أو ملامح إجابة تكون مقدمة وتهيئة لتوضيحات أكبر.
يحمل الهم المعرفي حتى وإن تهيأت له كل مظاهر النعيم وأسبابه، غير أن روحه الحية تبقى تتطلع الى ما هو أسمى وأكثر نبلا من هذا الترف المتاح. حالة عبر عنها بكثافة وقوة الشاعر الحيّ، المتنبي، حيث يقول:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
إنه الانسان الذي يتطلع أبدا الى فضاءات أكثر اتساعا وآفاق أكثر رحابة، غير أنه في رحلة الاستكشاف هذه لا يتقيد بشروط الفحص والاختبار التي اعتمدها سواه، وتآلفوا عليها باعتبارها شروطا لا تقبل التعديل أو المراجعة، إنه يتلمس نواميس الخلق التي أقرها الخالق ولكن بطريقته، يحنّ دائما كي يعبر جسر الآنية واللحظية، وكذا جسر الأفكار المعممة والمفروضة باعتبارها حقائق مطلقة لا تقبل المراجعة أو النقد، ليلاقي أو حتى يلامس الحقيقة الحقيقية. وفي رحلة البحث هذه لا يدعي الاحاطة، بل نجده لا يزال يكرر حتى آخر لحظاته:”أنا أحاول أن أفهم..”.
يمعن النظر فيما اجترح الأقدمون من تفسيرات ورؤى واجتهادات، يتفحصها، يقرؤها بعين الناقد والمدقق، لم لا، وهو الذي يتحلى بروح مستقلة محبة للاستكشاف والتحري، يؤججها مشعل وقوده الروح والعقل معا. وهو عندما يقرأ هذه النصوص الموروثة فانه لا يحاول زحزحتها عن موقعها وفترتها الزمانية، ولا يستحضرها لزمانه، بل يعود هو الى فترة التفسير والاجتهاد القديم، فالنص ابن بيئته وابن زمانه، ومن خلال هذه القاعدة في الفحص يقرأ النصوص، فمن الخطأ البحثي وفقا لقناعته اجراء اسقاطات معاصرة على النص التاريخي، ومحاكمته وفقا للمعاير والمنهجيات المعاصرة، فالنصوص والمعاني كالإنسان، تتوالد وتكبر ثم تنهار، وعند لحظة الإنهيار ينبني على ذات المعنى القديم وعلى أنقاضه معنى جديد يجسده نص جديد، وهذه الحركة في النص والمعنى إنما هي امتداد لحركة كونية ثابتة ومنسجمة، ابتداء من أكبر مجراته الى أصغر أجزائه، ناموس يقضي أن ينهض جديد على أنقاض القديم.
هذا في قراءته للموروث، أما لسواه فإنه يعرض عقله لرياح الأفكار الآتية من خارج مجاله الثقافي، ومع المراس يغدو متمكنا وقادرا على صهر ودمج أفضل هذه الأفكار في بيئته على نحو مدهش، ليزيد من عظمة هذا التراث، ويجعله أكثر إنسانية من خلال تجدده والبناء عليه.
هذا النمط يحترم الإنسان بكل اختلافاته ومجالاته، يحترم أسلوبه وفرادته، يحترم نمط تفكيره ورؤاه الخاصة بالحياة. كما إنه نموذج للإنسان الذي يعيش حالة من التصالح مع ذاته على نحو عملي وواقعي. غير مدع ولا يلعب أدوارا ينقض بعضها بعضا. ورغم نبالة مقاصد هذا الإنسان، وشرف غايته في التنوير، فإنه غالبا ما يكون موضع اتهام، توجه له اتهامات شتى، تعصف به بين أضداد التهم ومتناقضاتها. يغدو هدفا متقصدا لاساءة الفهم وتحميله ما لا يحتمل، ويقفون منه هذا الموقف لأنهم لا يملكون الأدوات التي تمكنهم من معرفة حقيقة الإنسان ومعنى الحياة بكل أبعادها، معرفة حقيقية وليس شكلانية.
يفهم مجتمعه وحقيقة المشاكل التي يعانيها، والمأزق الذي هي فيه، هذا المأزق الذي يعمقه الاجابات والحلول غير المناسبة التي ما انفك من يدعون الاحاطة تقديمها وتعميمها، كما يعممون تفسيراتهم واجتهاداتهم، فتمعن المجتمعات أكثر وأكثر في التقهقر الى الوراء، وهي تظن أنها تسير الى الأمام.
إن الأحياء لم يكونوا متفوقين على عصرهم فحسب، بل وسابقين له أيضا، فلا زالت كثير من تنظيرات الفارابي وابن سينا والكندي وابن رشد وابو حيان التوحيدي وابن مسكويه وغيرهم كثير صالحة وتنبض بالحياة وتولد حياة الى يومنا هذا، كما لا زالت تأثيرات من ناصبوهم العداء، وأساءوا لهم ووجهوا لهم اتهامات مريرة وزائفة، ماثلة الى يومنا، لكنها لا زالت تعمل نفس عملها القديم، لا تولد الا تقهقرا ودمارا وانقساما بين الناس.
رحم الله أديب الفلاسفة، وفيلسوف الأدباء، أبو حيان التوحيدي، الذي لخص معضلة عدم معرفة الانسان لنفسه، واصراره أن يبقى تائها ليبقى في حالة جهل عن ذاته عن الآخرين، مطلقا عبارته القوية المعبرة عن هذا المازق الإنساني الوجودي بقوله:” الإنسان أشكل عليه الإنسان”.
الإنسان الحي
هناك أنماط من الناس كتب لها الحياة، حتى وإن غادروا عالمهم الدنيوي، فإن أثرهم يبقى حاضرا كأنهم لا زالوا بيننا. ووفقا لشهادات تاريخية تتسم بالغزارة والتنوع، فإن حياة هذا النمط من الناس يتسم بجملة من العناصر المشتركة، في مقدمتها وعلى رأسها أن محطات حياتهم يغلب عليها سمة الشقاء، غير أن المدهش والغريب في المسألة أن أسباب هذا الشقاء ومولداته، هي ذاتها أسباب ديمومتهم وبقاء ذكرهم