طبلنا كثيرا فلنحاسب قليلا

أوهمونا طيلة العقود الماضية بل وكادوا يقنعوننا بأننا شعب غير ناضج وظلوا يعاملوننا على هذا الأساس ليلا ونهارا حتى آمنا بما يدَعون وبتنا نشكر الله تعالى الذي أنعم علينا بهكذا مسؤولين ينيرون دربنا ويخرجوننا من الظلمات إلى النور. عقدوا ندوات وحوارات ومؤتمرات أنفقوا عليها أموالا طائلة، شاهدناهم يتمايلون على كراسيهم وهم في أبهى حللهم يُنَظِرون ويبدعون في الترويج لمصطلحات ونظريات تبشرنا ببيت سعيد لكل مواطن ومصدر رزق كريم للجميع.

أكثر من أربعين عاما مرت من عمر نهضتنا المباركة ونحن نتلقى يوميا محاضرات و دروسا خصوصية من المسؤولين على مختلف مستوياتهم حول الأمانة والإخلاص وحب الوطن والوفاء له، وذلك على موجات مختلفة مسموعة ومرئية ومقروءة، حتى كدنا من كثرة تكرار عظاتهم المقدسة أن نصدق أننا لصوص وهم الشرفاء وأننا خونة وهم الأوفياء وأننا عبء على هذا الوطن وهم السند والدعامة له وأننا مدمنو الإسراف والتبذير وهم الخزنة لثروات البلد وخيراته والمؤمَنين عليها. تمادوا في سلوكهم هذا حتى بدأنا نتحسس جيوبنا خوفا من أن يكون قد دخل جوفها ريال من حرام دون أن نعي أو ندرك. أسمعونا كثيرا عن الأمانة والشفافية والانتماء والإخلاص، أشبعونا تفسيرا لما تعنيه التجارة الحرة والاقتصاد الحر والتنمية المستدامة والخطط التنموية الخمسية والعشرية والعشرينية حتى انتهى بها الأمر لتصل إلى الخمسينية.
أوهمونا طيلة العقود الماضية بل وكادوا يقنعوننا بأننا شعب غير ناضج وظلوا يعاملوننا على هذا الأساس ليلا ونهارا حتى آمنا بما يدَعون وبتنا نشكر الله تعالى الذي أنعم علينا بهكذا مسؤولين ينيرون دربنا ويخرجوننا من الظلمات إلى النور. عقدوا ندوات وحوارات ومؤتمرات أنفقوا عليها أموالا طائلة، شاهدناهم يتمايلون على كراسيهم وهم في أبهى حللهم يُنَظِرون ويبدعون في الترويج لمصطلحات ونظريات تبشرنا ببيت سعيد لكل مواطن ومصدر رزق كريم للجميع. استعانوا بفطاحل الاقتصاد والمال واللغة أيضا للترويج لنظرياتهم ولتليين عقول من صعب إقناعهم بمزاياها أو تبسيطها لمن لم يفهمها.
أصروا على إقناعنا بأنه من خلال النظريات والأفكار التي يتبنونها ويطبقونها سوف تمطر السماء ذهبا وفضة وجواهر. وحيث أن منطق الحوار كان مرفوضا أو مغيبا بقصد أو غير قصد كان لزاما على من لم يقتنع أن يقتنع وعلى من لم يفهم أن يفهم. استسلمنا كما يستسلم المريض للجراح ليبتر أجزاء من جسمه كانت حتى الأمس القريب عزيزة عليه ويخاف عليها من نسمة باردة أو ساخنة. طبلنا لهم حتى صم صوت طبولنا الآذان اعتقادا منا – كما تعتقد بعض القبائل في بعض أنحاء العالم – بأن صوت طبولنا العالي قد يولد حركة في سحب الخير المتجمعة دوما في سماء بلادنا ببركات دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها، فتمطر ماء وذهبا وفضة وربما جواهر أيضا كما وعدنا المروجون.
تقرحت أيادينا من كثرة التطبيل وتمزقت جلود طبولنا، وما أن انجلى الغبار الذي أثاره الربيع العربي الكاذب هنا وهناك حتى انكشف المستور، مسحنا الغبار عن أعيننا، نظرنا حولنا فلم نجد للذهب والفضة بل وحتى للماء أثرا. أخذنا نبحث عن السبب وأين يكون الخطأ قد وقع، أَجلنا ببصرنا حولنا، وكانت المفاجأة، فالمطر قد نزل وبغزارة والفضة سقطت والذهب أيضا ولكن أصاب قوما وأخطأ أقواما. وإيمانا منا بعدالة السماء، قلنا لعلنا اختلفنا في استخدام مفردات الدعاء فنال كل منا بما دعا لأجله. بحثنا وتحرينا، ولكن وجدنا أننا جميعا استخدمنا المفردات نفسها فماذا جرى يا ترى….؟
بحثنا عن معاني تلك المفردات، الأمانة والإخلاص والانتماء والولاء والوطنية، بحثنا عنها في جميع القواميس، وجدنا أنها كلمات تحمل جميعها معاني سامية وكان هذا سبب حبنا وعشقنا لها ولذا ادرجناها في دعواتنا وابتهالاتنا. ولكن يبدو أن من كان يتحفنا بهذه المصطلحات والمروجين لها لجأوا عن قصد أو غير قصد، إلى قواميس تختلف عن قواميسنا، لذا كان فهمهم لمعاني هذه المصطلحات مختلفا عن فهمنا لها. فمثلا، نحن فهمنا أن حرية التجارة تعني تحقيق الازدهار للبلاد والرفاهية للعباد، أما هم فكانت الحرية بالنسبة لهم تعني تكديس أرصدة في البنوك وأراض تشرعها الصكوك وعمارات تكاد من علوها تميل إلى الركوع. نحن فهمنا من الخصخصة توزيع الثروة على أكبر عدد ممكن من المواطنين وتقديم أفضل الخدمات لهم، أما هم فكانت الخصخصة تعني لهم بناء إمبراطوريات اقتصادية خاصة وعائلية. ليس هذا فحسب بل وجدنا أنهم لتحقيق مآربهم من النظريات التي كانوا يروجون لها فقد اختاروا قواميس تحمل معنيين لأغلب المصطلحات التي كانوا يروجون لها ليل نهار، تفسير يطبق على المواطن العادي وآخر على المواطن غير العادي أو المسؤول. فالممنوع على المواطن العادي مرخص للمسؤول بل إذا تتطلب الأمر، فلا مانع من إصدار قوانين تسهل وتشرعن مرور واعتماد طلباتهم. من هنا، وفي ضوء تطبيقهم للتفسير الذي ورد في قواميسهم، فقد جادت عليهم السماء غيثا وفضة وذهبا ولؤلؤا أيضا.
كان هذا المشهد هو السائد في البلاد حتى قبل ثلاث أو أربع سنوات مضت وإن لم يكن قد تغير تماما. سُحبت اللقمة من فم المواطن البسيط ووضعت بين فكي حيتان محلية وأجنبية، تحت شعارات رنانة وسياسات وخطط اقتصادية واجتماعية وتربوية تمت حياكتها بمقاسات تتلاءم مع مصالح فئة معينة من الخراف السمان بل قل أصحاب القرار أنفسهم فقط ودون أدنى مراعاة لمصلحة الشريحة الواسعة من المواطنين أو مصلحة هذا الوطن المعطاء الذي لم يبخل عليهم أبدا. ليس هذا فحسب بل تم تفصيل التشريعات والقوانين أيضا بطريقة توفر الحماية والحصانة للمستفيدين من تلكم السياسات والخطط من المساءلة والمحاسبة.
والنتيجة، وبعد انقضاء أكثر من أربعين عاما من عمر ما أرادها قائدها – أطال الله في عمره المديد – أن تكون نهضة مباركة للوطن والمواطن، وأرادها البعض أن تكون حفلة ووليمة خاصة بهم، ما زالت كثير من إنجازاتنا من نسج خيال مطابخ العلاقات العامة الموجودة في أغلب المؤسسات الحكومية والغريب أنها تنال إشادات عالمية من مؤسسات فقدت مصداقيتها وأصبحت توزع إشاداتها وشهاداتها لمن يدفع أكثر.
وإلا، فلماذا يضطر المواطن وبعد أكثر من أربعين عاما من عمر النهضة المباركة للانتظار أشهرا طويلة لعمل أشعة مقطعية أو عملية فتح شرايين ناهيك عن العمليات الكبيرة التي قد تسبق سيارات نقل الموتى لا قدر الله المواعيد التي تحدد لإجرائها. علما بأن تكلفة تزويد جميع المستشفيات والمراكز الصحية الرئيسية في البلاد بالأجهزة اللازمة لتقديم مثل هذه الخدمات لن تتجاوز عدة ملايين من الريالات يمكن توفيرها من قيمة بيع الأراضي التجارية والصناعية والسياحية لمن يرغب بدلا من منحها لهم مجانا بحيث يكونون من بيعها ثروات ضخمة.
حتى الأمس القريب كان أكثر من نصف عدد أبنائنا الذين ينهون الدبلوم العام لا يجدون فرصة الالتحاق بالتعليم العالي لولا مكرمة حضرة صاحب الجلالة المعظم الذي تفضل بتوفير فرص كثيرة على حسابه الخاص ما سمح لعدد أكبر من أبنائنا بمواصلة دراستهم.
التخبط في تخطيط مدننا دليل آخر على تهاون المسؤولين وعدم حرصهم على الاستفادة أو التعلم من تجارب الأربعين عاما الماضية أو حتى تجارب الآخرين. فنجد مثلا أن منطقة مثل العذيبة والغبرة الشمالية أو الموالح وهي أحدث مناطق تم التخطيط لها ونُفذت فيها المشاريع العمرانية، لا يختلف الوضع فيها من حيث الازدحام وندرة مواقف السيارات عن منطقتي مطرح وروي اللتين وضعت مخططاتها ونفذت في العقد الأول من النهضة. فنجد مباني ارتفاعها سبعة أو ثمانية أدوار خصص لها مواقف سيارات لا تتجاوز العشر. بعض هذه المباني مخصص لاستعمالات تحتاج إلى أكثر من 50 موقف على الأقل مثل الشقق الفندقية أو المستشفيات الخاصة أو المدارس.
فلل سكنية جميلة تحولت إلى استخدام تجاري أو حولت إلى مدارس أو عيادات خاصة أو اختفت بقدرة قادر بين مباني شاهقة لم يكن مخططا لها في المخططات التي وضعت لهذه المناطق الأمر الذي اضطر أصحاب الفلل المجاورة إلى بيعها أو تغيير غرض استخدامها والانتقال إلى مناطق أخرى. كل ذلك تم في تجاوز فاضح لجميع القوانين والشروط التي وضعت لمراعاتها في مثل هذه الحالات من خلال المحسوبيات والواسطات التي أفسدت أغلب المشاريع التي تم تنفيذها خلال العقود الماضية.
أربعون عاما ونيف من المسيرة والمواطن لا يزال يبحلق بعينيه في قائمة الانتظار مستجديا على بوابة وزارة الإسكان عله يرى اسمه يتحرك إلى أعلى قائمة المستحقين لقطعة أرض منتظرا فرجا عاجلا قبل أن يختاره خالقه حيث كرمه سبحانه وتعالى يسع كل شيء، في حين أن كرم وزارة الإسكان لا يسع إلا من القلم بيديه والملعقة الذهبية في فمه، فهؤلاء إن لم تسعهم الأراضي المستوية فعشرات الآلاف من الأمتار من الأراضي الجبلية أيضا بين أيديهم ولا بأس لو تحملت عنهم الوزارة تكاليف تسويتها. أربعون عاما وحال كثير من مدننا الصغيرة وقرانا يذكرنا بأيام ما قبل عهد النهضة وهي تنتظر وصول أبسط الخدمات إليها.
أربعون عاما ولا يزال الليمون يأتينا من البرازيل والفلفل من الهند، ولا يزال البقر الهندي والغنم الأسترالي والصومالي والدجاج الدنماركي مصدر لحومنا. أربعون عاما وأسماكنا التي نُحسد عليها تزين موائد سكان العالم في الشرق والغرب بعد أن تجرفها أساطيل أصحاب القرار، في حين ينتظر أرباب آلاف الأسر العمانية تحويل الرواتب إلى حساباتهم لشراء قطع من السمك قبل أن تستولي البنوك وشركات التمويل على هذه الرواتب.
أربعون عاما ولم نتمكن حتى الآن من توحيد عطلات المدارس والجامعات فالمدارس الحكومية تختلف مواعيد عطلاتها النصف سنوية والصيفية عن المدارس الخاصة بل أن كل مدرسة خاصة لها مواعيدها الخاصة بها والجامعات على موعد آخر والكليات أول المجازين وهكذا، في حين أن الدول الأخرى مواعيد الإجازات فيها موحدة للجميع ليس في الوطن فحسب بل حتى في المدارس التابعة لرعاياها والموجودة في بلاد المهجر.
أربعون عاما وتجارتنا فريسة لاحتكار عشر قلاع اقتصادية فقط وليتها كانت جميعها عمانية. أربعون عاما وأكثر واقتصادنا تأبى رائحة النفط مفارقته فنراه ترتعش فرائصه مع أدنى هزة تتعرض له أسعار النفط، والبورصة المغلوبة على أمرها أصلا من قبل بعض اللاعبين الكبار تنهار مع تصريح غير مسؤول من مسؤول ويذهب ضحيتها صغار المتعاملين.
وللأسف فقد لعب إعلامنا – وللحقيقة لم يكن له ناقة ولا جمل – دور الكمبارس في هذا المسلسل، فكان يردد مثل الببغاوات أشرطة الإنجازات الوهمية التي كانت ترد إليه، ينشر ويبث من دون تحقيق كل ما كان يصله من تقارير من مطابخ العلاقات العامة في مختلف الوزارات والهيئات حيث كان التركيز دوما على الجزء الممتلئ من الكأس فقط على الرغم من ضآلة حجمه في حين كان الجزء الفارغ منطقة محظورة يمنع الاقتراب منه على الرغم من كبر حجمه.
لا شك أن مسلسل قضايا الفساد الذي شاهدنا حلقاته خلال الفترة الماضية قد وضع الإصبع على الجرح وكشف الغطاء عن جزء من المستور فعرفنا بعض أبطال المسلسل الذين ساهموا إن لم نقل في تخلفنا فلنقل في بطء تقدمنا. والمطلوب الآن استكمال عرض الحلقات المتبقية من هذا المسلسل حتى تتضح الصورة كاملة بحيث يتم في ضوئها وضع خطة متكاملة لمحاصرة ومحاسبة كل من تسول له نفسه الانخراط في تمثيل وإخراج مثل هذه المسلسلات مهما كانت درجته أو مكانته.
بعد أشهر قليلة سوف نحتفل بإطفاء الشمعة الخامسة والأربعون من عمر نهضتنا المباركة، فحري بنا أن نستعرض شريط الإنجازات التي تحققت خلال الفترة الماضية ولا شك أنها ليست بالبسيطة وناكر للجميل من يدعي ذلك خاصة أولائك الذين عاصروا عصر ما قبل النهضة فهم بلا ريب يدركون حجم التغيير الذي طرأ على مختلف الأصعدة من تعليم وصحة واقتصاد وعمران. ولكن ما تحقق لم يكن بمستوى طموحات المواطن خاصة ذلك المواطن الذي يقارن ما تحقق من إنجازات بتلك التي تحققت لدى المجتمعات الأخرى حوله خصوصا من هم في وضع اقتصادي مماثل لوضعنا، ولا يقارنه بما كان عليه الوضع قبل العهد المبارك.
وللحقيقة فالكل كان يعرف الحقيقة المتمثلة في التجاوزات التي ذكرناها آنفا، ولكن في ظل ظروف التعتيم وانعدام فرصة التعبير عن الرأي كان الجميع لا يرون ولا يسمعون ولا يتكلمون ولكن عندما تمعن في وجوههم ترى ألف علامة استفهام واستغراب حول ما كانوا يشاهدونه ويلمسونه من تجاوزات يشيب من فداحتها شعر الأطفال.
وعلى الرغم من كل ما حدث وما سببه ذلك من تعدٍ على مصالح المواطن العادي وحقوقه، فإن المواطن العماني المعروف بطبعه المحب لبلده والمخلص والمطيع لقائده، لا يزال ينسج آمالا كبار على ورقة الضمان القوية التي بقيت في يديه ألا وهو حكمة عاهل البلاد المفدى ورعايته الكريمة لمصالح وحقوق كافة أفراد المجتمع العماني دون تفرقة أو تمييز. وما الأيدي المخلصة التي رُفعت إلى السماء والقلوب الخاشعة التي ابتهلت بالصلوات والدعاء إلى الله عز وجل لسلامة ربان سفينتها إلا دليلا على ذلك. حقا أننا اليوم في حاجة ماسة لأن نرفع أيدينا إلى السماء ونردد ليل نهار: “ياربنا احفظ لنا جلالة السلطان، وليدم مؤيدا عاهلا ممجدا بالنفوس يفتدى”، فعسى أن تجود السماء علينا غيثا وفضة وذهبا ولؤلؤا وعزة وإباءً، ويتمتع الجميع بخيرات هذا الوطن دون تمييز، اللٌهم آمين.

السابع والخمسون سياسة

عن الكاتب

عيسى عبد الحسين اللواتي