عوارف معرفية عن الكتابات الصوفية

كتب بواسطة خالد محمد عبده

تناول الكثيرون من الأساتذة في مصر التصوف كموضوع بالكتابة العلمية، منهم من تحوّل الموضوع لديه إلى طريقة للحياة ومنهم من استثمر المعارف الصوفية من أجل نشر مذهب فلسفي أو فكرة اجتماعية معينة ومنهم من قرأ التصوف بداية ثم انتقل من خلاله إلى عوالم أخرى رأى نفسه فيها..

تناول الكثيرون من الأساتذة في مصر التصوف كموضوع بالكتابة العلمية، منهم من تحوّل الموضوع لديه إلى طريقة للحياة ومنهم من استثمر المعارف الصوفية من أجل نشر مذهب فلسفي أو فكرة اجتماعية معينة ومنهم من قرأ التصوف بداية ثم انتقل من خلاله إلى عوالم أخرى رأى نفسه فيها..
1-عبد الرحمن بدوي
أتذكّر من هؤلاء الكتّاب الأستاذ الكبير عبد الرحمن بدوي الذي وفّر لنا نصوصًا من كتابات ماسنيون عن طريق الترجمة وعرّفنا به وبغيره من المستشرقين المهتمين بالإسلاميات والتصوف كجولد تسيهر وبلاسيوس وآربري ونيكلسون وغيرهم، ومن خلال التأليف والتحقيق قدّم لنا الأستاذ شخصيات وأفكار كالبسطامي وابن عربي ورابعة وابن سبعين وابن قضيب البان وابن أدهم وغيرهم .. وطبيعي مع حجم الإنتاج الهائل الذي لا يقوى عليه شخص بمفرده ولن نراه مرة أخرى كما رأيناه مع الأستاذ عبد الرحمن بدوي أن تكون هناك بعض الأخطاء في هذا الإنتاج الذي ما ترك بابا من أبواب الكتابة إلاّ طرقه (ترجمة – تأليفًا – تحقيقًا- رسائل- كتب – موسوعات- بلغات عدّة) فطبيعي أن تجد بعض التصحيفات والتحريفات في نشراته التراثية التي لولاها ما عرفنا هذه النصوص حتى اليوم .. لكن هل قدّم من استدرك عليه مثلما قدّم – حتى اليوم مع سهولة الحصول على المعلومات ووفرتها وسهولة الاتصال وسهولة تكوين فرق للبحث ومساعدين للباحث! قارن مثلاً نقد السامرائي لنشرة بدوي (الإشارات الإلهية) للتوحيدي ونقد قاسم عباس لنص مناقبي يتحدث عن البسطامي..
2- أبو العلا عـفيـفـي
نموذج آخر من أعلام الدرس الصوفي هو الأستاذ أبو العلا عفيفي كان رحمه الله ثاني اثنين كان لهما الفضلُ الأكبر في إحياء العهد الزاهر لمدرسة الإسكندريّة الفلسفيّة، وأوّلهما الأستاذ يوسف كرم… وقد شغفت التجربة الروحيّة أستاذنا الدكتور عفيفي فانطلق مؤيّدًا لها مُعجبًا بها وناطقًا باسم أصحابها شارحًا لمواقفهم في دقّة وعنايةٍ حتّى لا تكاد تحسّ من فرط إخلاصه في العرض بأنّه واحدٌ منهم عاشقٌ لمواجدهم، متلهّفٌ على آثارهم، لما تنطوي جوانب نفسه على قبسات أو نفحات من فيض أنوارهم. اختطفه الموت كما يؤرخ له الأستاذ عبد الرحمن بدوي في السابع عشر من شهر أكتوبر عام 1966 .. ومن المعروف عن بدوي أنه لا يمتدح أحدًا إلا نادرًا، حين توفي الدكتور عفيفي كتب مقالاً في تأبينه ووصفه بالأستاذ النادر ووعد بأنه سيخصص بحثًا في القريب عنه للتعريف بفكره وإنتاجه.
اهتم الدكتور أبو العلا بدرس التصوف وتحدث عن تجربته دونما خجل خاصة في بواكير طلبه للعلم، فتحدث عن صعوبة فهم النص الصوفي نظرًا لطبيعة اللغة الصوفية التي لا تفتح مغاليقها لأي أحد بسهولة، فلا بد من دربة وسلوك طريق الصبر والعيش مع النصوص فترة من الزمان، وتحدث عن فضل أستاذه نيكلسون عليه، ولم يكن عفيفي أول من أشار إلى فضل هذا المستشرق الكبير، بل سبقه أساتذة من الأزهر وكذلك أساتذة اللغات الشرقية كما فعل الأستاذ عبد الوهاب عزّام في التعريف به على صفحات مجلة الرسالة وكما فعل الأستاذ نور الدين شربيه في مجلة الأزهر وكما فعل أقرانهما المهتمين بدرس اللغة والقرآن في كتاباتهم عن هذا الرجل.
كان فضل نيكلسون على تلميذه عظيمًا ولعل جزءًا من ترجمات عفيفي لنيكلسون اعترافًا بفضله على الدارسين لهذا الأدب الصوفي، سبق أبو العلا عفيفي إليه (محمد إقبال اللاهوري) الذي رأى نيكلسون بابًا من أبواب المعرفة كبير.
ترجم عفيفي دراسات عن التصوف لا تزال مرجعية للآن، وكتابه الذي ألفه عن التصوف وكان ثورة روحية في عصره فتن به من درس التصوف وسلك في طريقه من الأساتذة وقتها كأبي الوفا التفتازاني وغيره ، وتأثر عفيفي بالمستشرقين في كتاباته كما تأثر غيره، ولم يقتصر إنتاجه على الدراسات الصوفية بل بحكم تدريسه للفلسفة في الإسكندرية ترجم وألف عدة كتب في المنطق والفلسفة، وكما كتب عن التصوف كتب عن المعتزلة وحقق جزءًا من موسوعة المغني للقاضي عبد الجبار، ومن أهم الدراسات التي كتبها في هذا الباب دراسته عن التصوف والاعتزال التي شارك بها في كتاب الصراط المستقيم، كذلك دراسته عن الكلمة عند الإسلاميين والأعيان الثابتة في مذهب ابن عربي، والمعدومات في مذهب المعتزلة.. وهو بحث في الكتاب التذكاري لمحيي الدين ابن عربي في الذكرى المئوية الثامنة لميلاده. ومن أخبر الناس بكتاباته اليوم الأستاذ مصطفى لبيب عبد الغني، فقبل أن يترجم كتابه عن ابن عربي المنشور مؤخرًا في المركز القومي للترجمة بمصر كان حريصًا على تعريف القرّاء بمؤلفات الأستاذ عفيفي منذ وقت مبكّر فتناول بالعرض والتحليل جزءًا من كتاباته، والفضل الأول لحصر جزء من مؤلفاته يعود إلى العلامة بدوي والتفتازاني.
3-محمد كمال إبراهيم جعفر
نموذج آخر من الكتابات الصوفية الراقية ما نقرأه بقلم الأستاذ الدكتور محمد كمال جعفر، الذي كتب عن التصوف كسالك عاش في بدايات ظهوره وذاق مثلما ذاق أهله ووعى عنهم درس الأخلاق ومعالجة النفس وهداية الحيارى إلى طريق التحقق. درس محمد كمال جعفر في مصر وابتعت إلى الخارج لإتمام دراساته العليا كأقرانه ومعاصريه، وتخصص في درس تراث الصوفية واهتم بتحقيق آثار سهل التستري التي وصلتنا، وتلقّى تكوينه في هذه المرحلة على يد العلامة المستشرق آرثر أربري الإنجليزي الذي كان على دراسة كبيرة بتاريخ التصوف الإسلامي ونصوصه في اللغتين العربية والفارسية واستطاع من خلال إخلاصه وتمكّنه أن يكتب عن التصوف في الشرق والغرب من الهند وإيران إلى بغداد والشام وتركيا من المحاسبي إلى النفري ومن إقبال إلى الرومي وكان خير خلف لنيكلسون في دراساته وأبحاثه.
ومما يرويه الدكتور جعفر عن هذا الأستاذ القدير أنه أطلعه على نسخة من كتاب الفناء للجنيد الذي نشر مرتين وترجم أيضًا من خلال هذه النشرة كانت أولاهما للأستاذ عبد القادر (محقق معراج البسطامي والقشيري) والثانية لمستشرق قرأ نصوص التصوف الإسلامي على أنها مجرد صدى وتكرار للتصوف الهندي، وكلتا النشرتين بسبب الاعتماد على نسخة واحدة ملآى بالأخطاء والتحريفات فأخبره أربري عن اهتمامه بإعداد نشرة إنجليزية لهذا الكتاب منذ فترة وأراده أن يشترك معه في هذه النشرة وتصدر باسمهما معًا وهو سلوك لم نره في بلاد الإسلام (اليوم) إلا (نادرًا)!ثم حالت الظروف دون إتمام أربري للعمل فصدر بعناية الأستاذ جعفر ونشر النصّ مصحوبًا بالترجمة الإنجليزية في مجلة كلية دار العلوم عام 1969. بعد أن أنجز رسالة الدكتوراه عن سهل التستري وحقق تراثه ونشره في مجلدين، ولم تقتصر جهود الأستاذ على التحقيق وإن وفّر لنا نصوصًا نادرة كنصوص ابن مسّرة الأندلسي عن الحروف والاعتبار-وهو من الصوفية المجهولين عند العرب حتى الآن وإن كان محل عناية كبيرة عند أغلب الدارسين الأجانب منذ وقت مبكّر وحتّى اليوم ولا تعدو الكتابات عنه في الدرس العربي عن النقل والتحريف لما كُتب بلغة أعجمية سواء ما يُكتب في مصر اليوم أو المغرب (قارن كتابات العدلوني الذي سطا على جهود سامي النشّار والتفتازاني وغيره من الدارسين الأعاجم ولخصها وأعاد إنتاجها في عدة كتب مطبوعة في دار الثقافة المغربية)!
كتب الأستاذ كمال جعفر كتابًا هامًا في التصوف الإسلامي لا يقلّ أهمية عن كتاب التفتازاني ويعتبر مدخلاً رائعًا للقراءة الصوفية هو كتاب (التصوف: طريقًا وتجربة ومذهبًا) ونشر هذا الكتاب في عام 1970 ناقش فيه ما يتعلّق بالتصوف والدين والمعرفة والتجربة الروحية وعلم النفس، كما ناقش ما يتعلق بالتصوف الهندي والمسيحي، وكعادة الكتب في هذه المرحلة ألحق بعض النصوص المساعدة للتبصر في ختام الكتاب لتفتح للقارئ بابا من الحديث على التراث، وكما ألّف الأستاذ بالعربية ألّف بالإنجليزية، وعرّب بعض البحوث الهامة المتعلقة بالتصوف والأخلاق والفلسفة، كرمزية الألوان في التراث اليهودي والتصوف، وحاول تبسيط ونشر المعارف الروحية في أغلب المجلات التي كتب فيها، ويحيا القارئ بالفعل معه في رحلته بين العقل والوجدان ويرتقي في مدارج السالكين.
4-عثمان إسماعيل يحيى
هو من أبرز الأساتذة السوريين في نشر التراث الصّوفي، تلقّى تعليمه الأساسي في مدينة حلب، وهو دائم الذّكر لها، نظرًا لكبير أثرها في تكوين شخصيته العلمية منذ وقت مبّكر، إذ أيقظت كلمات حكيم الصوفية ابن عطاء الله السكندري، والخواجة عبد الله الأنصاري إحساسه الديني وهو لا يزال في سنّ الرابعة عشرة من عمره، ومن طريف ما يرويه الأستاذ أن الدروس الدينية التي كانت تُلقى على الطلاب وقتئذ كانت تتعلق بتعاليم (ابن عربي)و(ابن تيمية) وكان هذا الأمر يثير غرابة في نفسه لما عُرف بتمام التناقض بين هذين العلمين، حتى التقى يحيى بشاب صوفيّ كان يقرأ النصوص الصوفية والعرفانية جنبا إلى جنب مع نصوص ابن تيمية وابن قيّم الجوزيه، ليبدد دهشته قائلاً: (بالنسبة لنا ابن تيمية إمامٌ في الشريعة وابن عربي إمامٌ في الحقيقة وعلى المسلم الذي يبتغي تمام الإسلام أن يجمع في داخله في تناغم واتّساق لا في تأليف وتلفيق بين الحقيقة والشريعة).
سيحاول الجمع بعد ذلك أحد الأساتذة السوريين المعاصرين (عبد الحكيم أجهر) بين ابن تيمية وابن عربي ليصدر كتابًا يجعل من فكر ابن تيمية مصادقًا على فكر ابن عربي ومستفيدًا منه، ويمكن متابعة ذلك في كتابه الصادر عام 2011 بعنوان: سؤال العالم الشيخان ابن عربي وابن تيمية: من فكر الوحدة إلى فكر الاختلاف.
يدين بالفضل عثمان يحيى إلى أساتذته من المستشرقين الذين ساعدوه في رحلته العلمية، ومنهم المستشرق الفرنسي الشهير ماسنيون الذي عُرف باهتمامه بالآثار والنصوص الصوفية، وبلاشير الذي قرن اسمه بالأدب العربي والدراسات القرآنية، وهنري كوربان، ولاووست، وفي رحلته العلمية الطويلة سيصاحبه كوربان ليعملا سوية في نشر النصوص الصوفية الهامة وبخاصة نصوص ابن عربي وشارحيه الصوفية والعرفاء، منها على سبيل المثال: كتاب نص النصوص في شرح فصوص الحكم – تصنيف سيد حيدر آملي، كما حققا لنفس المؤلف الشيعي كتاب جامع الأسرار ومنبع الأنوار.
ومن أهم الدراسات الصوفية التي قام بها عثمان يحيى ولا تزال مرجعًا هامًا في لغات عدّة لكل من أراد درس ابن عربي، أطروحته للدكتوراه التي ترجمها شيخ الأزهر أحمد الطيب بعد أن تُرجمت إلى عدة لغة (مؤلفات ابن عربي تاريخها وتصنيفها) وهي الرسالة الأساسية التي ناقشها في السربون، وشفعت برسالة أخرى حقق فيها نصّ كتاب التجليات لابن عربي، الذي سطا على تحقيقه (كعادة المبدعين اليوم في عالم التحقيق)! أكثر من شخص ومن عجب أن تُطبع سرقاتهم في أماكن مؤسسات ثقافية رسمية !
حقق عثمان يحيى أيضًا كتاب كشف الغايات في شرح ما اكتنف عليه التجليات لابن عربي، كما حقق نصوصًا تقترب من النصّ الأكبري ككتاب داود القيصري في علم التصوف، ومن الأعمال العلمية العظيمة القدر التي أسداها الأستاذ للثقافة الإسلامية تحقيقه لكتاب (الفتوحات المكّية)الذي وُصف صاحبه بالشارح الأكبر للتصوف والناطق الرسمي باسم الميتافزيقا في الإسلام، كما وُصف الكتاب بأنه لا يُقارن به ولا يدانيه أي مؤلف آخر في كل ما عرفته اللغة العربية من كتابات في علم التصوف، فهو كتاب فريد لم يُعرف له نظير ولم يُنسج على منواله من قبل.
طُبع هذا الكتاب عدة طبعات قبل أن ينبري الأستاذ لتحقيقه وخدمته سنوات طوال، وصدر من تحقيق الأستاذ سبعة عشر مجلدًا من أصل سبعة وثلاثين، كل مجلّد قسّم أسفارًا وكل سفر ذُيّل بالفهارس للمباحث والأفكار والمصطلحات، وبوفاة الأستاذ لم يكتمل العمل على هذا الكتاب الفريد.
لم تقتصر جهود عثمان يحيى على نشر تراث ابن عربي فحسب، بل نشر من تراث الحكيم الترمذي كتابًا ورسائل، وكذلك من نصوص شيخ الإشراق السهروردي، كما نشر رسائل وكتب لصوفية آخرين، ومن جميل ما تقرأ له ما كتبه عن مجابهة المعرفة الإنسانية بروح إسلامیة من خلال كتاب الفتوحات المكية.

السابع والخمسون ثقافة وفكر

عن الكاتب

خالد محمد عبده