تحت حكم الوردة السلطانية، في البستان العماني..

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

لم نصل هنا لفرط معرفتنا ولا اكتمال حكمتنا، لا بالانتصارات العسكرية ولا بنهب بلاد الغير ولا بسرقتها، ليس بالأساليب الشائعة المعروفة، بل بسحر المحبة وصلنا، ببساطة الثقة وحسن الطيبة، بكل الأساليب الخفية السحرية التي لم تُعرف وتُكتشف بعد. فلنلتزم إذن بتلك الرهافة لشعرة الميزان، ولنمكث في عطر أخلاقنا بيننا قبل أن نزكم به، متفاخرين، أنوف الآخرين.

1.
كنت رهين التحقيق حين قلت للمحقق أنني لا أحب الصورة الضخمة للسلطان الموضوعة على شارع مسقط السريع، لأنها تحيلني للبلدان الديكتاتورية، تلك البلدان التي تملأها الصور الضخمة للرئيس والقائد، وأنا لا أحب أن أشعر أنني في بلاد تحيا بها الديكتاتورية.
مرت سنة، وأضيفت صورة أخرى من الجانب الآخر للشارع، أصغر من الأولى..
مرت سنة أخرى واختفت الصورتان..
لتلك الرمزية البسيطة. هذا كله..

2.
حين كان الحكام يشنّون حروبهم، الصريحة والمكتومة، كان هو يربي السلام..
قصص كثيرة بلا عدد تناسلت حكايات، على أفواه الناس، عن الزمن والوطن والسلطان. ما يبدو أنيقاً اليوم ومرتباً وعظيماً بدأ هشاً وحالماً وقابلاً للانكسار في كل لحظة.. أيادٍ كثيرة ساهمت في بنائه وتنميته وتقويته، ليس بمساندته فقط بل حتى بمقاومته..
أجيال ولدت من جديد، أجيالٌ ذهبت، بشرٌ أزهروا بشرٌ انطفأوا..

3.
أخطاء كثيرة حدثت، بعضها قاتل، لكن إن لم نغفر للوطن فلمن سنغفر؟
وصواب كثير وبركة، وفي زمن شديد الأذى، في دهر خطر ومؤذٍ ولدت بالعكس أزمنتنا الرخية، وفي الزمن الخانق المعتم، ولد زمننا البهيّ.
ربما طمعنا لأن الزمن أطمعنا وأغرانا وأغوانا.
تعالوا لنذاكر الزمن.

4.
بدا السلطان أيقونة زمنية، روح حظ، وتحولنا في ظلها من بلد منكوب يحتاج أبسط شروط الحياة، يحلم أن ينجو من التمزق، إلى بلدٍ يطلب أن يكون في مصاف العالم.
أمكننا الحلم وكان ذلك أجمل ما أمكننا.
والبلاد التي كانت فقيرة غبراء كالحة، جائعة وجاهلة، صارت بستاناً جمالياً نخاف عليه.

5.
كتبنا كثيراً لكن لم نكتب كل ما يجب أن يقال.
وآمنا بالغد نحن الكفار به من قبل.
الأخطاء الفادحة أخطائنا أيضاً، مثلما أن الصواب صوابنا أيضاً.

6.
صار للعماني كيان موحد، أصبح العماني يستطيع أن يقول للعماني أحبك، ويغار على العمانية كأن كل عمانية أخته وزوجته، والعمانية تخجل من خطأ العماني كأن كل عماني أخاها وزوجها، ونخاف على سمعة بلادنا من جهل أبنائها كأن كل عماني وزير خارجية وإعلام.

7.
عادت الخيول، عادت المها، عادت الغزلان، عادت الثقة..
تزينت الأفلاج والجبال أظهرت أسرارها والأشجار نبتت في كل شبر، هل وافق ذلك صعود العالم؟ هل نعتقد أنها كانت صدفة عالمية؟ شرجة وافقت مهباطاً؟ ربما.. لكن يحق لنا أن نؤمن أننا أحسنّا اغتنام الصدفة، ولم نفرط في الفرصة.. أننا كنا بمستوى اللحظة والزمن أنضجنا، خلصنا من ترسباتنا وكلسنا وأملاحنا وأوساخنا وقذارتنا، جعلنا مؤمنين أكثر بأنفسنا بقدرتنا وقدرنا.
المهرة صارت فرساً مدهشة، والبكرة أصبحت ناقةً رائعة، وكثرٌ يريدون أن يمتطوها لحسابهم، أن يشاركوا بها في السباقات باسمهم فقط، ولأجل أنانيتهم، ونحن نريدها حرة كما ولدت، حرةً كما تريد، فبحريتها نستطيع التحرر من آثامنا وأخطائنا وسجون أفهامنا الضيقة.

8.
أصبح لنا سلطان حقيقي، لا إسمي، بل فعليّ، وحقاً أن السلطان أصبح سلطاننا، وتلك في حد ذاتها هبة عظيمة، هكذا استلهمنا كثيراً من سلطاننا، لأجل غايات نبيلة، تحول السلطان فينا إلى أيقونة أحلام. تعلمنا أن نسامح في الأرض كي نكسب الاحترام، أن نعطي من مالنا لغيرنا، أن نؤمن بالسلام كقضية، وأن نتجاوز الاحقاد، ونغفر الهفوات.

9.
ربما ضايقنا أحيانا حجم صورة الأيقونة الهائل، قلِقنا من تضخيمها، لأننا كنا نخاف على الوطن من بطش الواحد، والاستبداد، وحكم الفرد، نحن الذين لم تعرف بلادنا طوال تاريخها سواه.
عارضنا مستلهمين العالم، محاولين أن نكون عمانيين في معارضتنا، أخلاقيين في اختلافنا، حاربنا همجية المعارضة، وخفنا منها كأنها الطاعون، فقد كانت الغوغائية تخيفنا وترعبنا.
والزمن سمح لنا جميعاً، ما أمكن، مادحين مغرمين ونقاداً شجعاناً أن نوجد ونقول.

10.
الحب كان حصننا الوحيد الحقيقي الذي بنيناه طوال هذه العقود، حصننا العصري الذي اخترعناه لهذا الزمن، استلهمناه من كل الحصون القديمة، الحب أصبح حصننا الجديد.
لنا عقود أصبح فيها العفو شيمة الزمن، مرت عقود لم نسمع فيها بإعدام مجرم، كان العفو هو سلطاننا، ديننا، وديدنا الحديث. نحن الذين مزقتنا الحروب الأهلية أكثر من مائة وخمسين سنة. أصبح مذهبنا السماحة ومذاهبنا التي كانت ضيقة حتى بذاتها صارت تدعو للوئام في العالم.

11.
استطعنا أن نغنّي، الفرد أصبح حراً إلى الدرجة التي هُيئ لنا فيها أننا نستطيع أن نختزل تجارب البلاد العريقة الحديثة المتقدمة في بلادنا، وأن لنا حقاً أن نقطف نفس الثمرة التي بلغتها بلدان الآخرين بالدم والحرب والعرق والأخطاء الشنيعة والأفكار العظيمة والعلماء والأخلاق، عبر مئات السنين، أمكننا أن نبني حلمنا كي نرى بلدنا وأنفسنا مثلهم.

12.
كنا نستطيع أن نستصرخ العدل على الأقل.
ربما جعلنا من الحكومة السلطانية شماعة أخطائنا الجمعية، مثلما جعلها آخرون منا ركوبة لمطامعهم، ربما ضخمنا الهفوات، ربما لم نفهم الطبيعة البشرية، ربما استعملنا مكرنا، ربما مارسنا خبثنا، ربما استعنّا بدهائنا، فهذا كله جديد علينا، ولم نكن نستعين بذاكرة واضحة، بل بمجرد قدراتنا الانسانية وقوانا الآدمية، لكن الدرس الأساس الذي تعلمناه بقي، هو الأرضية الصلبة الحقيقية، درس الحب الوطني، حيث الوطني هو أرواحنا الإنسانية.

13.
لم تكن ثروتنا الطبيعية ضخمة كالجيران، لكننا استطعنا الوقوف معهم على مستوى واحد بحسن التوزيع والعدل وعدم الأفضلية. ما استطعنا.

14.
ربما تأولنا الأفعال الحسنة النوايا على أنها سيئة الطوية، ربما قلنا أن الأخطاء متعمدة ضدنا، وأننا عشنا مستهدفين، وأن طائفة تجعل طائفةً مثار الشك، نتهم بعضنا البعض بضعف الولاء الوطني، ربما أصابتنا الغيرة وحاول الحسد أن يخنقنا من غنائم الغرباء من وطننا نحن، وربما يكشف الزمن عن أخطاء فادحة.
لكن هل سنحاسب الطبيعة على طبيعتها؟
ليس عذراً للأخطاء لكن فهماً للطبيعة..

15.
ربما، ربما؛ لكننا الآن في جهلنا وعلمنا هذا، مقتنعين بأن زمناً جميلاً احتضننا واحتضناه، وأننا شعرنا بطعم الحياة، وأمكنتنا الحياة من نفسها، وأنجبنا منها أطفالنا الآتين.
ربما هناك عمل ضخم لا بد من عمله، والقيام به، وأخطاء لا بد من تلافيها وتعديلها وتصحيحها، لكن ذلك مهمة الغد.

16.
أما اليوم؟!
أما اليوم فقد فرحنا قليلاً، عبثنا قليلاً، قاومنا قليلاً، أسرفنا على أنفسنا قليلاً،
فلنغني قليلاً ولنرقص قليلاً ما دام ذلك ممكناً ولنمرح.
فقد تاه وطننا كثيراً عنا وتهنا عنه أكثر حتى وصلنا إليه فرأيناه هكذا متضامّاً متحاباً مشرقاً وحالماً وجميلا.
وسيكون من النكران ومن سوء الآداب أن ننكر الفضل على أهله، وأن نكفر النعمة على ربها، منصاعين لجهنم جشعنا، ونار طمعنا التي تقول هل من مزيد.

17.
ربما للآخرين لغة مختلفة وأسلوب آخر مقتنعين بصوابها وصحته، في قول الشكر، كلام غير هذا يقولون فيه ويعبرون عن امتنانهم الوطني، عن فرحتهم بما حدث وصار، قرائح الشعراء لم تتوقف عن ولادة قصائد، ربما بدت للحادين في أحلامهم وإيمانهم والنزهين من قوة آمالهم طمعاً أجلى من الصدق، ونفاقاً أطغى من الإيمان؛ لكن ربما أيضاً كان طلبنا منتهى الصواب ومنتهى العدل هو نفسه منتهى الخطأ ومنتهى الظلم.

18.
وبما أن الزمن قد حان لنقول غير مدفوعين برغبة ولا برهبة، لا بطمع ولا بنفاق، عما نجنّ ونضمر، فلنقل:
أنّ حظاً عظيماً مكننا من نفسه، وأن رحمة أسبغت علينا، وأن عدلاً حاول العدل، وأن روحاً جميلة حلت في المكان..

19.
أشعر في قلوب الناس وفي ضمائرهم بالشك في الغد، من جمال الحاضر، فربما كان الغد قاتماً، وربما طاشت الدفة من يد النوخذة القادم، وأمكن توريط السفينة في الخليج الضحل بين الصخور القاتلة، ربما تمزق الشراع وانكسر صاري العلم، أشعر بهذا في أفئدة الناس البسيطة، وهي تحلم وتتمنى وتطلب من الزمن أن يسمح هذه المرة، هذه المرة فقط، أن يخلف عاداته في التحول والتبدل.

20.
إذن فلتكن ممجدة هذه اللحظة في الزمن، ولتبقَ حية في الذاكرة الجمعية، ولتكن هذه الكلمات علماً على أننا بلغنا هذه الجهة من القمر.

22.
فليكن وطن الجمال في القلوب، ووطن الحب في الأفئدة فبذلك يكون الوطن جميلاً وحبيباً، وليكن وطننا مصدر آمالنا وأحلامنا وفخرنا، ولنفهم بدل أن تسجننا رغباتنا المتطرفة، ومطامعنا المتضخمة، وتجرنا مقيدين نحو هاويتها.

23.
ووطن أصبح بهذا الجمال في اللحظة وهذه اللحظة أمانة اليوم والغد..

24.
انفتحت بوابة الزمن الذهبية فلا نتعثر على العتبة وفي الدهليز، ولنكمل خطواتنا ولنتعلم من كل عثرة، كما يليق بالجمال وبثقة الحب، ولنفسح صدورنا ولا نضق فيضيق بنا الزمن.

25.
لم نصل هنا لفرط معرفتنا ولا اكتمال حكمتنا، لا بالانتصارات العسكرية ولا بنهب بلاد الغير ولا بسرقتها، ليس بالأساليب الشائعة المعروفة، بل بسحر المحبة وصلنا، ببساطة الثقة وحسن الطيبة، بكل الأساليب الخفية السحرية التي لم تُعرف وتُكتشف بعد. فلنلتزم إذن بتلك الرهافة لشعرة الميزان، ولنمكث في عطر أخلاقنا بيننا قبل أن نزكم به، متفاخرين، أنوف الآخرين.

26.
قريباً ما يقلب الزمن صفحته، ولدينا أساس مكين، فلتكن صفحة عمانية أجمل، بنا، بما نحسن فعله، لا بما ننتظره، فالحظ ليس سخياً هكذا على الدوام. بحبنا وفضائلنا وثقتنا نستطيع أن نواصل الطريق ولا ننكفئ، بقدرتنا وروحنا نستطيع أن لا نخشى من الغد، وأن لا نهاب المستقبل. بتكريم قدر اليوم نستطيع أن نكرم قدر الغد، ونرى فيه ساحة أحلام متجددة، ومسرحاً جديداً لكل سيناريوهات فننا وأحلامنا وإبداعنا.

السابع والخمسون سياسة

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد