حقيقة علمية لم تعد تخفى على كثيرين، مؤداها العام أن أفكارنا وتصوراتنا المعرفية، واللغة التي تشكلت من خلالها هذه الأفكار، تتشكل وتنطبع داخل جهازنا العصبي، لتظهر على شكل ردود فعل متباينة، تتراوح بين السلاسة والهدؤ، ومحاولة الفهم، وبين الشدة والاستخفاف، وبناء سور يحجب الأفكار ويمنعها من التلاقي.، ناهيك عن محاولات قهر الآخر والإساءة اليه. إضافة بالطبع تباين اللغة على نحو حاد بين النموذجين.
التفاوت في ردود الأفعال، وطبيعة اللغة التي يستخدمها الإنسان، نجدها ماثلة وعلى نحو مخصوص عندما تبرز أمامه اشكالية معرفية ما، أو يدخل في معترك جدالي أو حواري مع طرف آخر. عندها نجد كل شخص يحرص على اثبات صحة مقولته أو طرحه، غير أن تفاوتات تبرز على نحو واضح في أساليب الانحياز الفكري، لهذه المقولة أو تلك، فهناك من يستخد لغة تتسم بالتواضع والتسامح، تنأى قدر الإمكان عن مواطن التوتر والتشاحن، تهتم بالفكرة والمحتوى أكثر من الآخر المتحاور معه. وهناك من يستخدم لغة تتسم بالانفعال والانحياز المتشدد، اضافة الى النيل والتعرض لشخص الطرف المقابل، العامل الحاسم الذي تؤكده المقولة العلمية، أن اللغة، طبيعتها مفرداتها المطبوعة داخل جهازنا العصبي، هي التي تحدد شكل الحوارية، ومفرداتها المستخدمة، فاما لغة تحليلية تحاول الفهم، وإما لغة متشددة متصلبة، تعبر عن إنسان توافقت التقسيمات السيكولوجية على تسميته بـ”الإنسان العصبي”. وهو بالمناسبة عنوان كتاب صدر باللغة الفرنسية أواسط سبعينيات القرن الماضي، تناولت تأثيرات مفردات وطبيعة اللغة المخزنة بالنسيج العصبي، وانعكاساتها الظاهرة في ردود فعل تجنح الى الهيجانية.
في المجال الفكري والعلوم الإنسانية، فإن تطبيقات فكرة “الإنسان العصبي” والانعكاس السلوكي للغة والأفكار المطبوعة على النسيج العصبي، تجد مجالا رحبا على نحو خاص للملتزمين بأيديولوجيا معينة، المنافحين عن أفكار يعتبروها تقدم رؤية متماسكة وشاملة لمعالجة كافة الشؤون الحياتية والانسانية، ويرفضوا ادخال تعديلات عليها أو الانفتاح على سواها بهدف الإضافة أو التعلم أو التأثر، نجدهم وقد أحكموا الإغلاق على منظومتهم الفكرية، ومفرداتهم ومصطلحاتهم، سواء كان آفاق هذه المنظومة علمانيا جافة، أو فكرا دينيا متشددا، أو اتجاها يساريا جامدا منغلقا على ذاته.
أخطر سمات هذه العقلية، وأضعفها في الوقت ذاته، أنها تعتبر منظومتها ومنهجيتها تتسم بالأبدية، ترفض فكرة التولد والنمو ومن ثم الإنهدام والفناء ليتشكل على هذا الركام المنهدم معنى جديد، فالمعاني والدلالات ثابتة لا تتغير، بل هي وفقا لهذه العقلية في صعود مستمر وعلى نحو خالد، تتجاوز التاريخ واشتراطاته، واللحظة الزمانية وحتمياتها.
يبقى أسيرا للغة اختفت وتلاشت منذ قرون، وحلت محلها لغة أكثر عملانية وعلمية، وحتى إنسانية؛ الحدث الزمني يمضي باتجاه، وهو ماض باتجاه مغاير، يقرؤه من خلال اسقاطاته هو، أو من خلال تفسيرات وتبريرات عقول عاشت في زمان غير زمنه، عقول عتيقة واجهت مستوى من المشاكل وتعقيداتها، غير الذي نواجه، ومع ذلك يبقى هناك اصرار على اسباغ سمة القداسة، وهالات التعظيم لهذه العقول والتأويلات.
من سماته الحقيقية، أنه ليس فقط غير ملتزم بقواعد الاشتباك المعرفي وحتى أخلاقياته، بل هو لا يعرفها أصلا، يتخبط في تحديد قواعده، ولا يلبث حين يتعمق البحث، وتتشابك التفرعات، نجده وعلى نحو لا شعوري إما يبدأ بالإنسحاب على نحو تدريجي، واما يقفز من موضوع فرعي الى آخر ومن مسألة ثانوية الى أخرى، مبتعدا عن قصد الاقتراب من الجذور الأساسية لمجال الخلاف، ومرجع هذا التخبط أن التغيرات الطارئة بمجمل الفكر الإنساني قد تجاوزته بقرون، ومهما حاول اخضاع هذه التغيرات لقواعده القديمة، فان محاولاته دائما تبؤ بالفشل.
لا يبالي إطلاقا بالتقنيات المعرفية التي نشأت وتطورت، ونتاجات العلم التي تدرس الوعي الإنساني وادراكاته على نحو تقني متقدم. يهملها ويبقى متمسكا وملتزما بشكل حرفي تأملات وتفسيرات قدمت حلولا وتصورات لوعي الإنسان في مرحلة تاريخية غابرة. ومع ذلك يبقى “العقل العصبي” يرددها باعتبارها قوالب جاهزة قادرة على مسايرة الوعي الإنساني، وتلبي احياجاته، في كل زمان ومكان. إضافة الى أن هذه الحرفية، وهذا التسطيح في التناول المعرفي، يتم في مناخات تسودها معاني التعالي والإحساس الكامل بالمشروعية المطلقة.
المشكلة تزداد تعقيدا، عندما يتم استعراض تأثير هذا الإنسان في وسطه وفضائه المجتمعي والثقافي، فالتجربة التاريخية تنبىء أن هذ الإنسان العصابي، بمبادئه ومنهجيته، استطاع أن يضغط بقوة على قدر المجتمعات الإنسانية، بعضها أمكنه أن يتفلت من هذه السطوة، ليحتفظ لنفسه مكانا حضاريا فاعلا ونشطا، وبعضها لا زال يكابد في سبيل التخلص من هذه القوة الضاغطة بقوة على مصير الأجيال. تمكن لأسباب تاريخية متعددة من فرض أفكاره ورؤاه باعتبارها ليست الأكثر صحة من غيرها، بل باعتبارها هي الصحيحة، وما دونها فهو خاطىء وزائف. بذل في هذا السبيل جهدا تاريخيا، ويجهد الآن في سبيل الغاء العقول الأخرى وعدم الاعتراف بانتاجيتها بأي صيغة، وعلى نحو متشدد صلب، ناهيك عن الأساليب الاتهامية واللغة الجارحة التي تمس الذوات ونبل مقاصدهم.
ضغط على قدر المجتمعات، وقنن السلوك وآلية التفكير بحجة ملاحقة البدع، وكلما ازدادت القدرة على الضغط تعاظمت حالة تلاشي مظاهر الحياة المبدعة الخلاقة، وجفت ينابيع الفرادة والتميز، وتصبح مجالات الخيارات محصورة، أو لا خيارات بمعنى أدق. فاما الاندماج ومسايرة هذه العقلية، أو الإقصاء والتهميش، أو حتى الإفناء كما نشاهد من عمل بعض أوجه هذا العقل في عالمنا العربي.
الإنسان المتصلب
في المجال الفكري والعلوم الإنسانية، فإن تطبيقات فكرة “الإنسان العصبي” والانعكاس السلوكي للغة والأفكار المطبوعة على النسيج العصبي، تجد مجالا رحبا على نحو خاص للملتزمين بأيديولوجيا معينة، المنافحين عن أفكار يعتبروها تقدم رؤية متماسكة وشاملة لمعالجة كافة الشؤون الحياتية والانسانية، ويرفضوا ادخال تعديلات عليها أو الانفتاح على سواها بهدف الإضافة أو التعلم أو التأثر