قوة الثقافة العُمانية وإلهامات السلوك الإجتماعي والحسّ السياسي

كتب بواسطة نبال خماش

تاريخية الساحة الثقافية العُمانية اتسعت لهذا المفهوم إلى أبعد مدى منذ البدايات، والمقصود بالبدايات النصف الأول من القرن الثاني الهجري، فمنذ تلك الفترة المبكرة حظيت السلطنة بكوكبة من العلماء عُرفت الطبقة الأولى منها باسم “حمَلة العلم”، الذين بفضل منهجيتهم في التفكير اتسعت الساحة المعرفية إلى أبعد مدى ممكن، ليس في الجانب النظري حسْب، بل وفي تطبيقات هذه العلوم كممارسة يومية أيضاً،

لم يتوقف ذوو الكفاءة والخبرة ممن اطّلعوا عن كثب على الثقافة العُمانية بأوجهها كافة، وكان لهم احتكاك مباشر معها على نحوٍ من الأنحاء، عن إبداء دهشتهم إزاء فعالية المجتمع المحلي وديناميكيته من جهة، وخصوصية الأداء السياسي للسلطنة من جهة أخرى.
ولأن عقل الكفاءة ببنيته وتكوينه هو عقل سؤال أكثر منه عقل إجابة، فإنه في سبيل فهمه لهذه التجربة ما انفكّ عن طرح سلسلة من الأسئلة، مثل: لماذا يقيم البعض علاقات جيدة حتى في ظل وجود منافسين في حين يفشل آخرون؟ لماذا يتسم أداء البعض بالمرونة والإقبال على الآخر، فيما يتشدد آخرون ويُعْرضون إلا عمّن يشبههم؟
هي تساؤلات تمس السلوك المجتمعي في الدرجة الأولى، إلا أن هذا السلوك الثقافي الاجتماعي له تاثيراته وامتداداته على الأداء السياسي، وهي مسألة تستدعي إثارة مزيد من التساؤلات المعرفية، مثل: لماذا هناك عقول سياسية تنحو غالباً، وتفضّل على نحو تلقائي، استخدامَ أدوات الإكراه في مواجهة أيٍّ من المشاكل المعترضة، ونجدها راغبة دائماً في اللجوء للقوة؟ وعلى النقيض من هذه المعالجة السياسية التي تنحو للقوة والإكراه، يبرز عقل يدعو إلى السلام، تحفزه فكرة مؤداها أن القوة مشكوك بنتائجها، والأهم من ذلك أنها مهما تعاظمت فإن لها حدوداً، حتى إذا بلغتها فإن مسار الأحداث سرعان ما يأخذ بالانقلاب والتراجع، وأحياناً يبلغ درجة الانهيار بسبب ظهور نتائج لم تكن في الحسبان، لذا فإن هذا العقل يفضّل الحل السلمي، ويرى أن هناك فرصاً للحوار.
إنها ببساطة، الثقافة أو الفروقات في المكون الثقافي للطرفين، فهناك سلوك تأسس على التقريب والإقبال على الناس وبث الكلمة الطيبة السمحة، وهناك سلوك تأسس على الاستبعاد والإقصاء والرغبة في بسط نفوذه. وللتفسير الثقافي لأيٍّ من المظاهر السابقة تاريخ طويل.
إنها الثقافة التي لم يعد يُنظر اليها في علومنا المعاصرة بوصفها مجموعة من الأفكار أو الفنون على اختلاف تصنيفاتها، بل بات يُنظر إليها بوصفها مصدراً للقيم السلوكية، والإلهامات الأخلاقية والمدرسية التي تحدد هوية الأداء الفردي والجمعي، وكذا السياسي، إنها المركّب الذي يخترق الوسط الإنساني ليشكل من ثم “الرأسمال المعرفي والخلقي”. إنها ببساطة المكون الذي يصنع من الإنسان والمجتمع والدولة ما هي عليه.
تاريخية الساحة الثقافية العُمانية اتسعت لهذا المفهوم إلى أبعد مدى منذ البدايات، والمقصود بالبدايات النصف الأول من القرن الثاني الهجري، فمنذ تلك الفترة المبكرة حظيت السلطنة بكوكبة من العلماء عُرفت الطبقة الأولى منها باسم “حمَلة العلم”، الذين بفضل منهجيتهم في التفكير اتسعت الساحة المعرفية إلى أبعد مدى ممكن، ليس في الجانب النظري حسْب، بل وفي تطبيقات هذه العلوم كممارسة يومية أيضاً، فما من قضية إلا وكانت مطروحة للنقاش، يتداولها العلماء وذوو الاختصاص من أهل الحكم، لذا لم يكن مستغرباً ممن توافق العُمانيون على مبايعته بوصفه الإمام الأول، وهو الجلندي بن مسعود الجلندي، أن يمتد نشاطه ليتجاوز مسألة تنظيم الدولة وتعيين الولاة والمرشدين والقادة وتنظيم الجند والشؤون المالية، لتتسع هذه المداخلات الإدارية إلى تنظيم المجتمع وتشكيل هوية الإنسان العُماني وفقاً للمعطى الثقافي الإسلامي المنفتح.
اللافت في هذه المرحلة التدشينية، أنها عظّمت وبدرجة كبيرة من شأن السلوك العام وحسن المظهر، في الشارع في السوق وفي أماكن التجمع كافة، وأكدت على كل ما من شأنه أن يعزز من قيم احترام الإنسان، والتي من أبرزها عفة اللسان، وتهذيب القول، وحسن المعاملة وسماحة الوجه وبشاشته، وصدرت في ذلك تشريعات وتدوينات تاريخية. كما عظّمت هذه المرحلة من شأن المرأة وأبدت حرصاً بالغاً تجاهها، حتى إن بعض إرشادات هذه الإمامة منعت المرأة الخروج من بيتها في الأيام العاصفة والماطرة، وفيما بعد أصبح هذا الإرشاد بمثابة أصل تداولته المدونات الفقهية العُمانية كافة، إضافة إلى العناية التي أولتها الإمامة الأولى تجاه الملل والأجناس الأخرى المقيمة في عُمان.
في هذا الجو المشبَع بالمعرفة والقانون وُلد مناخ خاص وعقلية ثقافية سلوكية ارتهنت منذ البدايات إلى الانفتاح واحترام الكرامة الإنسانية. إضافة إلى التنوع وقبول الآخر، والأهم هذا التأصيل السلوكي في قبول النقد برضى وطيبة خاطر. الكل تربّى على التنوع وقبول الآخر، لذا لم يكن هجيناً في هذا المناخ أن تجد فقيهاً كبيراً مثل محمد بن روح الكندي يخالف أستاذه وشيخه ابن بركة في عدد من المسائل والآراء، وينحاز لآراء مدرسة لها طرحٌ مغاير مثل مدرسة أبي سعيد الكدمي. التلميذ يعبّر عن رأيه واجتهاده بثقة، والشيخ يتقبل مخالفة التلميذ له دونما حرج. ففي هذا المجتمع لا يلغي الإنسان ذاته ولا يلغي الآخرين أيضاً، الكل يؤدي دوره في الحياة ضمن انسيابية العيش وجمالية التنوع، الاتصال قائم على الأفكار لا على الانفعالات، لذا يبقى المناخ العام يتسم بالهدوء والبساطة، وليس الانفعال أو التشنج، لتبقى هذه الرؤية والفلسفة السلوكية حاضرة وممتدة إلى يومنا هذا.
هذا عن الوعي الثقافي وانعكساته السلوكية المجتمعية، فماذا عن التأثير الثقافي على السياسة والحسّ والأداء السياسيين؟! ابتداء، ونتيجة موقعها الجغرافي المحوري والاستراتيجي، فإن عُمان كانت محط أنظار القوى العالمية الراغبة في التمدد والسيطرة على المنافذ الحيوية في العالم، غير أنها وعبر تاريخها الممتد، لم تُحكَم إلا من قبل أبنائها، إلا في فترات قليلة لا تقارَن مع تاريخها الطويل، وهذه ميزة تكاد السلطنة تتفرد بها مقارنة بالدول التي تتميز بأنها تحوز موقعاً استراتيجياً.
نتيجة لهذه الفرادة التاريخية رغم تأثيرات الجغرافيا ومخاطرها، فإن شعوراً عميقاً استقر داخل الوجدان العُماني وعقله السياسي، بُنيت نقطة ارتكازه منذ القدم على مفاهيم السيادة والاستقلالية، فالقرار العُماني أولاً وأخيراً نابع من صميم الحس الوطني.
ونتيجة لموقعها المهم ومركزها الاستراتيجي، وفي سبيل مواجهة التهديدات والدفاع عن السيادة والمصالح الوطنية، فإن الضرورة استدعت أن يتشكل عقل سياسي على نحو خاص، من خصائصه ومزاياه الرئيسة، قدرته على التعامل مع القوى المؤثرة والفاعلة على الساحة الدولية، وهذا بالضرورة استدعى أن تنأى الدبلوماسية العُمانية عن ردات الفعل، إضافة إلى خاصية التحرك بحذر، وكذا المحاولة دائماً في سبيل فهم طبائع وخصائص العصر الذي تعيشه، فأفرز هذا النمط من الأداء السياسي خطاباً يحاكي العقل ويخاطبه.
فمنذ القرن السابع عشر حين برزت فرنسا وبريطانيا بوصفهما القوتين العظمَيين دولياً، فقد تنافستا في سبيل إقامة علاقات متطورة مع الجانب العُماني وحاولت كل منهما الانفراد أو الاستئثار بعلاقة قوية تمتاز بالخصوصية مع السلطنة، إلا أنه وبفضل المرونة التي اكتسبها العقل السياسي من ثقافته، فإنه استطاع المواءمة في علاقاته مع تلكما الدولتين الأبرز والأهم عالمياً، وفقاً للمعطى والمصلحة الوطنية.
وما إن بدأت خريطة القوى الدولية بالتشكل من جديد، وأخذت ملامح أولية بنشوء قوة جديدة صاعدة ممثلة بالولايات المتحدة الأمريكية، كانت السلطنة من أوائل الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع هذه القوة الصاعدة، وكان ذلك أواخر القرن التاسع عشر، فيما لم تلتفت معظم الدول إلى هذه القوة الصاعدة ولم تعمل على تأسيس علاقة معها إلا في وقت متأخر جداً.
وجاءت بدايات التواصل استجابة لطبيعة العقل العُماني، الذي استدعت مقوماته فهم هذه القوة، من حيث مقاصدها وشخصيتها وممارساتها السياسية، وبذا تغدو القدرة على مخاطبتها وفقاً للمصالح المشتركة، بدلاً من محاولة استدرار عطفها وتعاطفها، كما يحدث الآن ممن التفت متأخراً جداً لهذه القوة، وأضاع الفرصة التاريخية نتيجة فقدانه الحسّ السياسي في التعامل مع حركة التاريخ.
التأصيلات الفلسفية والسياسية والتاريخية تؤكد كلها حقيقة أن التاريخ من صنع رجاله، وتحدثت هذه التأصيلات بإسهاب عن “انبثاق القادة العظام”، الذين تتوفر لديهم ملكاتٌ وقدراتٌ شخصية على نحو استثنائي، رجال يمتلكون خاصية التأثير عميقاً بتاريخ النهضة في دولهم ومجتمعاتهم، إضافة إلى تأثيرهم في الأحداث المرتبطة بمجالهم الجيوسياسي. وجلالة السلطان قابوس بن سعيد، حفظه الله وأتم عليه الصحة والعافية، واحد من هؤلاء القادة القلائل الذين يُنظر اليهم بكثير من الاحترام والاجلال، بحيث غدت تجربة جلالته في الحكم منبعاً لاستلهام النجاح السياسي والإنساني.
كُتب الكثير عن السياسة الخارجية للسلطنة التي صاغ أطرَها وأسس قواعدَها، جلالةُ السلطان المعظم، وما زالت هذه التحليلات وهذه الأشكال من التناول قابلة لاستيعاب المزيد من البحث والتعليق، وهنا يمكن التأكيد أن السياسة العُمانية وتطبيقاتها تنطلق أساساً من مدرسية مؤسَّسة على الفهم العميق للمسائل المتشابكة، وينجم عن حسنِ الفهم حسنُ التناول، وأحد أوجه الفهم المناقشةُ والإحاطة، وعدم الاستجابة للنوازع ومواطن الإثارة، للعب أدوار تتعارض مع القيم التاريخية المتجذرة.
هذا الالتزام السياسي جعل الدبلوماسية العُمانية المعاصرة بمنأى عن ممارسة لعبة اللوم، وهي اللعبة الأكثر رواجاً في المشهد السياسي، فاستقلالية القرار المؤسَّس على المعرفة والاستشراف هي إحدى مزايا الدبلوماسية الوطنية، والشواهد التاريخية على هذه الفرادة متنوعة، فالسلطنة من الدول القلائل التي لم تسحب سفيرها من جامعة الدول العربية بعد توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد، ولم تصطف في النزاع الإيراني-العراقي في ثمانينات القرن الماضي مع أيٍّ من الطرفين المتنازعين، بل بقيت صوت العقل الذي يدعو إلى المصالحة، وبذل المساعي في سبيل وقف هذا الاقتتال بوصفه لن يقود المنطقة بأسرها إلا إلى الهاوية، وهذا ما حصل بالفعل.
ولعبت السلطنة أدواراً مهمة في سبيل حفظ التوازن بالإقليم من خلال لعب دور الوسيط بين الأشقاء أو أطراف إقليمية ودولية متنازعة، كما حدث مؤخراً من خلال عقد مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني-الأمريكي. والقائمة تطول بشواهد على هذا السوك السياسي المتفوق.
إن الحدث السياسي إذا انقضى، وانفرط عقدُ المشاركين بصناعته، وجاءت النتائج على عكس المأمول، يبدأ المنخرطون بتوجيه اللوم بعضهم لبعض، إنفاذاً للحكمة السياسية التي تقول: “النصر له مائة أب، لكنّ الهزيمة يتيمة”. هو موقف سياسي ترفّعت السلطنة عن ممارسته، لأنها لم تكن مضطرة لأن تقفه ولو لمرة واحدة.

الثامن والخمسون ثقافة وفكر

عن الكاتب

نبال خماش

كاتب أردني