سيبقى السادس و العشرون من مارس 2015 لحظة فاصلة في مسيرة الصراع الإقليمي، و سيذكر التاريخ تلك اللحظة بحسبانها يوماً له ما بعده. لم يكن يسيراً على السعودية وحلفاءها الإقدام على هكذا خطوة استراتيجية يدركون جيداً عواقبها. غير أن المشروع الحوثي في اليمن تحول من مجرد كيان عقائدي يصارع من أجل انتزاع بعض المكاسب السياسية، إلى امتداد عضوي لمشروع إقليمي تقوده إيران. فمنذ سقوط العاصمة صنعاء بيد الآلة العسكرية الحوثية و حلفاءها، في الحادي و العشرين من سبتمبر 2014، و المشروع الحوثي ينجز اختراقات عميقة في البنى السياسية للدولة اليمنية، و يتمدد على الأرض بآلة عسكرية أخفقت القوى القبلية و الحزبية في التصدي لها، حتى كاد أن يبتلع الدولة بشقيها الشمالي و الجنوبي.
أحدث ذلك كله انقلابا في مرئيات الأمن القومي الخليجي، إذ لم يعد المشروع الحوثي بعد هذه الاجتياحات مجرد كيان عقائدي يصارع من أجل الفوز بمكاسب سياسية تضمن له البقاء في المشهد السياسي اليمني، بل غدا تجسيداً حياً لانتصار المشروع الإيراني، و بهذا صار الأمن القومي السعودي في مواجهة تهديد مباشر “مرتفع الحدة”. فلجأت السعودية إلى السحب من مخزون النفوذ الذي شيدته عبر سنين، و طفقت تقرع أبواب الحلفاء الخليجيين و بعض العرب (مصر، الأردن، السودان، المغرب)، إضافة الى باكستان، لبناء تحالف عسكري سياسي يقود حملة إجهاض للمشروع الحوثي في اليمن، و يلجم تطلعات المشروع الإقليمي الإيراني. و لكن سلطنة عمان لم تكن ضمن “مخزون النفوذ” الذي شيدته الدبلوماسية السعودية بأدوات الاقتصاد و السياسية، فجاء الخروج العماني عن الإجماع الخليجي هذه المرة ليعبر عن عمق الشرخ الاستراتيجي الذي تعاني منه منظومة التعاون، و ليعكس بجلاء حجم الافتراق المفاهيمي بين الفرقاء الخليجيين حول مفهوم “الأمن القومي الخليجي”، و ليضع المسكوت عنه في مواجهة مباشرة مع الحقائق على الأرض.
كما أشرنا آنفاً في فقرة “قواعد الصراع: سؤال الهوية و إكراهات السياسة” من هذه الورقة، فإن العقل الرسمي العماني، في مقارباته الاستراتيجية، محكوم بالعناصر الخمسة التي تناولناها، و التي تمتزج على نحو معقد لتنتج النسخة النهائية للخيار الاستراتيجي. لم يكن الموقف العماني إزاء “عاصفة الحزم” انقلابا على الذات، بل جاء اتساقا مع محددات التفكير التي ضبطت إيقاعات العقل السياسي الرسمي. يتموضع اليمن، أو ينبغي أن يتموضع، في قلب الرؤية الإقليمية العمانية. فهناك التماس الجغرافي، و التداخل الثقافي، و الامتدادات القبلية مع الجزء الجنوبي من عمان. و لهذه الاعتبارات و غيرها، لا تملك الدولة العمانية رفاهية الإعراض عن الشأن اليمني، أو حتى التعاطي معه عن بعد. و بعبارة موجزة، فإن تداعيات الحالة اليمنية بخيرها و شرها، هي في مرمى الأمن القومي العماني. لذان فإن الدبلوماسية العمانية لم تلزم نهج “الحياد السلبي” هذه المرة، بل طفقت تشرب من الكأس اليمني حتى الثمالة.
تكثف الحضور العماني في المشهد اليمني غداة سقوط صنعاء، و انخرطت الدبلوماسية العمانية منذئذ في سلسلة من المبادرات السياسية، استهلتها بمسعى للوساطة بين الرئيس هادي و الحوثيين4. غير أن انهيار مؤسسات الدولة، و تجريد هادي من عناصر القوة التفاوضية، من جهة، و حالة الخفة و الخيلاء التي استبدت بالمشروع الحوثي إثر انتصاراته العسكرية المتلاحقة، من جهة أخرى، أحبطا ذلك المسعى العماني المبكر. لكن النقلة الكبرى في سلسلة المبادرات تلك كان الحوار الأمريكي – الحوثي الذي استضافته مسقط في مايو 2015، و الذي بدأ سرياً، ثم كشفته صحيفة Wall Street Journal، في عددها الصادر بتاريخ 1 يونيو، 2015. و في اليوم التالي 2 يونيو 2015، و أثناء الإيجاز الصحفي اليومي، أكدت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، Marie Harf، تلك اللقاءات5.
و قد جاء في مقال Wall Street Journal، الذي كتبه كل من جاي سولومون، و آسا فيتش، أنّ Ann Paterson، مساعدة وزير الخارجية لشؤن الشرق الأوسط، هي من قاد الوفد الأمريكي في المفاوضات، التي جرت برعاية من المكتب السلطاني. كما ذكرت الصحيفة نقلاً عن مصادر رسمية أمريكية، أن الخارجية الأمريكية قد أعلمت السعودية بلقاء مسقط قبل الشروع فيه.6 كان ذلك هو اللقاء المباشر الأول بين الطرفين، و لكن سبقة عدد من الاتصالات غير المباشرة تمت عبر الوسطاء العمانيين: “درج الطرفان في السابق على الحديث عبر الوسطاء العمانيين”7. و لاعتبارات متصلة بأدوارها السياسية، أقدمت السلطنة على استقبال الجرحى الحوثيين، الذين حُفّوا بكرم باذخ، و تلقوا العلاج في أرقى المشافي العمانية، الأمر الذي يثير تساءلا حول البعد الأخلاقي في السياسة الخارجية العمانية. أما حكومة الرئيس هادي في المنفى، فقد أعلنت أنها ليست طرفاً في ذلك الحوار، و أنّ مواقفها محكومة بقرار مجلس الأمن: 2216، الذي صدر بموجب البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، و الذي نص على ضرورة تسليم السلاح، و الانسحاب التام من المدن التي اجتاحتها الآلة العسكرية الحوثية.
يبدو جلياً أنّ الأدوار المركزية في لعبة الصراع اليمني يضطلع بها كل من: الولايات المتحدة، إيران، و المملكة العربية السعودية، و أن الدور العماني يقع في غالبه في المربع اللوجستي، التسهيلي:”Facilitator”، رغم أن الحالة اليمنية بتداعياتها الحرجة، تتموضع في مدارات الأمن القومي العماني، و تشكل مصدراً محتملاً لمهددات استراتيجية عالية الكلفة. لم تعلن السلطنة رسمياً عن مبادرة مستقلة تستبطن المصالح العمانية العليا، و تفتح أفقاً لتوافقات موضوعية عادلة، بعيداً عن حسابات مشروعي الهيمنة الأمريكي و الإيراني. و لم تبدِ موقفاً رادعاً إزاء العدوان الحوثي على مؤسسات الدولة اليمنية، و لم تستثمر دالتها على إيران، التي كانت حاضرة في جولات التفاوض تلك8، للدفع باتجاه عقلنة المشروع الحوثي، و تخليصه من جاهليته السياسية.
المأساة اليمنية تتجه إلى مزيد من التأزم، ذلك ما ترهص إليه الوقائع العسكرية و السياسية. و اليقين أن المرجح الجوهري لما ستستقر عليه الصورة النهائية هو “ميزان القوى” الذي سيفرزه الصراع. غير أن مرجحات ميزان القوى ذاك ليست كلها بيد القوى اليمنية، بل إن أعظمها تأثيراً تستحوذ عليه أقطاب الصراع الثلاثة: واشنطن، طهران، و الرياض. أما واشنطن فلا تسعى إلى تفكيك القوة الحوثية، فضلاً عن إبادتها، بل إلى إعطاب بعض مفاصلها، ثم إعادة إنتاجها لتكون فاعلاً سياسياً بقوة عسكرية قادرة على الإزعاج، و لكن عاجزة عن إسقاط الدولة مرة أخرى. و أما طهران، فإن المشروع الحوثي هو ذراعها الضاربة في الخاصرة السعودية، و لكنه في لحظة التدافع هذه لا يتمركز في قلب مشروعها الإقليمي، خاصة و أن الموارد الإيرانية مستنزفة على الجبهتين العراقية و السورية. و قد تبدي إيران تراجعاً في الملف اليمني، يفضي إلى تقليص القوة الحوثية جزئياً، مع الإبقاء عليها كفاعل سياسي، و قوة استراتيجية كامنة “potential power”.
و مؤدى ذلك أن توافقاً أمريكيا – إيرانياً قد يُنجز برعاية عمانية، ثم تُسحب إليه السعودية و حلفاءها، طوعاً أو كرهاً. ذلك أن العلاقات الأمريكية – الإيرانية تعبر مرحلة حرجة، و تتشابك حساباتها في عدد من مواطن الصراع، و تتوزع أحمالها على غير جبهة، و اليمن إحدى تلك الجبهات، و لكنه ليس أهمها. فلن يجد قطبا الصراع هذان حرجاً من إنجاز توافق، تكتيكي على أقل تقدير، ثم إملاءه على سائر الفرقاء. و يشهد لهذا الاستنتاج مخرجات قمة كامب ديفيد التي عقدها الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع قادة الدول الخليجية الست في 14 مايو 2015، و التي عززت المخاوف الخليجية من تنصل الشريك الأمريكي من التزاماته الدفاعية9. و حسبك من تلك المخرجات ما جاء على لسان الرئيس نفسه، إذ قال ما ترجمته: “أود أن أكون واضحاً جداً. إنّ الغرض من أي تعاون أمني ليس إدامة مواجهة طويلة المدى مع إيران، و لا حتى تهميش إيران”10.
و أما المعسكر الخليجي الذي تقوده السعودية فإنه يواجه مهددات غير مسبوقة في تاريخ الصراع الإقليمي، و رغم ذلك فهو يستخدم أدوات تقليدية في مواجهة تحولات غير تقليدية. و من تلك الأدوات التقليدية الإفراط في الاعتماد على الحليف الأمريكي، و توظيف التناقضات الأمريكية – الإيرانية، التي تتقلص بفعل تشابك المصالح الأمريكية – الإيرانية في غير موطن من مواطن الصراع. التعاطي الخليجي مع الحالة اليمنية يستبد به غير قليل من الارتباك و غياب الرؤية. و تلك معضلة مزمنة بدأت منذ مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، حينما انحازت المنظومة الخليجية إلى خيار الانفصال في العام 1994. ثم سعت إلى إجهاض مفاعيل الثورة الشعبية في العام 2011، و رمت بثقلها السياسي لإنقاذ النظام، فكانت القوة الحوثية إحدى مخرجات المناورات السياسية التي قادتها دول الخليج. و كلمة السر في كل تلك المقاربات الخليجية هي “حزب التجمع اليمني للإصلاح”.
الرؤية الخليجية للمشهد العربي في الجملة محكومة بخوف مفرط من المشروع الإسلامي الذي ينتمي إليه التجمع اليمني للإصلاح، و قد ازدادت حالة الخوف تلك تجذراً مع انبعاث الثورات العربية في مطلع العام 2011. فطفقت بعض الدول الخليجية تخوض حروباً ضارية ضد القوى الثورية بغية إعطاب مشاريع التحول الديمقراطي في المنطقة العربية، حتى غدا السلوك السياسي للدولة الخليجية (عدا قطر، و بدرجة أقل عُمان)، محكوما بالحول السياسي و التفكير الرغائبي، مجانباً للنهج البراجماتي، و الصرامة الاستراتيجية، و حسابات المصالح. و المفارقة، أنّ “عاصفة الحزم” ستقف على بوابة التجمع اليمني للإصلاح، فهو القوة الوحيدة القادرة على الحشد العسكري، و التعبئة السياسية المنظمة. لن تؤتي العاصفة أكلها ما لم تتكئ على قوة عسكرية على الأرض، و شريك سياسي قادر على إدارة مرحلة ما بعد الحرب، و لا يحوز تلك الخصائص إلّا “التجمع اليمني للإصلاح”.
و نقطة التحول في مسار الحدث اليمني تبدأ بحدوث تحول جوهري في أنماط التفكير الاستراتيجي الخليجي، يتمثل في مغادرة مرحلة “يحسبون كل صيحة عليهم”، و الانتقال إلى مرحلة “قل تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم”. ليست الرغائب و الأمنيات هي ما يحكم التدافع على الارض، و لكنها الوقائع و عناصر القوة التي يمتلكها فرقاء الصراع. يمكن للمشروع السياسي الإسلامي المعتدل أن يكون حليفاً تكتيكياً في التصدي للمشروع الإيراني ذي الصبغة المذهبية، غير أن ذلك يقتضي تحولاً في الرؤية الخليجية.
خلاصة
السياسة الخارجية العربية على وجه الإجمال، و الخليجية على وجه التخصيص، ليست محكومة بفكرة مركزية متماسكة تنبثق عنها الأفكار الفرعية، و تذعن لمقتضياتها الممارسات العملية. فانفعالات صانع القرار و ردود الأفعال المبعثرة هي القوالب التي غالباً ما تُصاغ فيها سياسات الدولة العربية و تُرسم على هديها توجهاتها الكلية. و السياسة الخارجية العمانية ليست بدعاً من ذلك. و مع ذلك فإن لهذه السياسة العمانية ما يميزها عما سواها في المحيطين العربي و الخليجي. و قد حرصت هي على تكريس صورتها الذهنية الشاردة عن المجموع، محتفظة لنفسها بمكان بعيد عن زحمة التهارش العربي. لعب التاريخ و الجغرافيا أدواراً محورية في تشكيل الوعي السياسي العماني: الوعي بالذات، و الوعي بالآخر. و هما يلعبان اليوم أدواراً مركزية أيضاً في صياغة الخيار الاستراتيجي. عوامل عدة تفاعلت لتشكل الصورة الذاتية، و لتحدد بالتبعية ملامح الآخر في المحيط الإقليمي، و طرائق التعاطي معه.
و اللافت في المقاربة العمانية للأزمة اليمنية هو أنها لا ترى في المشروع الحوثي مصدر تهديد للأمن القومي العماني، و كان حريٌ بها أن تلتفت إلى حجم المخاطر الهاجعة في جوف ذلك المشروع الذي يتحرك على الأرض بنَفَس عقائدي طائفي لا تخطئه العين. هل العلاقة مع إيران تشكل مصدر تسكين للمخاوف العمانية المفترضة؟. و بقطع النظر عن انخراط السلطنة في العملية العسكرية ضد الحوثيين، فإن مقارباتها الاستراتيجية و الدبلوماسية ينبغي أن تستبطن مهددات الأمن القومي العماني، و لست أشك أن المشروع الحوثي هو أحد تلك المهددات إذا استقر له الأمر في اليمن.
ربما يستثمر التحالف الحياد العماني، و لكنه سيبقى استثمارا محدود العوائد، ذلك أن الوساطة العمانية تعمل في بيئة جيوسياسية يهمين عليها التجاذب الأمريكي – الإيراني. و ما الساحة اليمنية في المنظور الاستراتيجي لهذين المشروعين إلّا واحدة من محددات الصراع. و كان قمين بالدبلوماسية العمانية أن تقدم مشروعاً مستقلاً، لا أن تبقى صدى لإفرازات التدافع الأمريكي – الإيراني – السعودي. و لكن، يبدو أن الدبلوماسية العمانية قد استعذبت الدور التسهيلي الذي حبست نفسها فيه، و ما لم تخرج من محبسها ذاك، فإن الوساطة العمانية في الأزمة اليمنية لن تتجاوز الحدود اللوجستية، أي خدمات التوصيل.
الهوامش
1. إنظر أحمد الإسماعيلي، “التعددية الإثنية و اللغوية و الدينية في عمان و علاقتها بالاستقرار السياسي”، عمران للعلوم الإجتماعية و الإنسانية، العدد 11، المجلد الثالث، شتاء 2015، ص: 85-105، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات.
2. إنظر: Jeffery A. Lefebvr, “Oman’s Foreign Policy in the Twenty-First Century”, Middle East Policy, Vol. XVII, No. 1, Spring 2010, pp. 100-4.
3. إنظر: Mark Valeri, “Oman’s Mediatory Efforts in Regional Crises”, Norwegian Peacebuilding Resources Centre, March 2014.
4. إنظر عبد الحكيم هلال، “الأزمة اليمنية بين المتغيرات السعودية و الوسيط العماني”، الجزيرة نت، 2 فبراير، 2015.
5. Marie Harf، الإيجاز الصحفي اليومي: htpp://www.state.gov/r/pa/prs/dpb/2015/06/243104.htm
6. إنظر: Jay Solomon and Asa Fitch, “U.S. Met Secretly With Yemen Rebels”, Wall Street Journal, June 1, 2015.
7. المصدر نفسه. الترجمة للكاتب، و النص الإنجليزي هو:
“The two sides had been speaking previously through Omani intermediaries”
8. إنظر عبد الحكيم هلال، “الأزمة اليمنية بين المتغيرات السعودية و الوسيط العماني”، الجزيرة نت، 2 فبراير، 2015.
9. إنظر: “ماذا تحقق في قمة كامب ديفيد الأميريكية – الخليجية ؟”، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، تقدير موقف، مايو 2015.
10. خطاب الرئيس الأميريكي في أعقاب القمة الاميريكية – الخليجية، 14 مايو، 2015. http://www.whitehouse.gov/the-press-office/2015/05/14/remarks-president-obama-press-co.
*قدمت هذه الورقة في مؤتمر “الخليج و التوجهات الإستراتيجية بعد عاصفة الحزم”، الذي نظمه الخليج اونلاين في إسطنبول في الفترة من 11-12 يونيو، 2015.