إستجرنا من الرمضاء بالنار، اجرمنا “المستتر” القزم و شرعنا “المستتر” العملاق

“التجارة المستترة”، مصطلح يتداول كثيرا في وسائل الإعلام ويتعاظم الهجوم عليه كلما مرت المنطقة بأزمة مالية أو تعرضت لهزة إقتصادية. ويتحول هذا المصطلح إلى شماعة تعلق عليه مسؤولية كل الأزمات والكوارث، وتعلن حالة الطوارئ لمحاصرة هذا “الغول المرعب” من أجل القضاء عليه؛ وكأنه السبب الوحيد أو الرئيس لهذه الأزمة المالية أو تلك الهزة الإقتصادية.

“التجارة المستترة”، مصطلح يتداول كثيرا في وسائل الإعلام ويتعاظم الهجوم عليه كلما مرت المنطقة بأزمة مالية أو تعرضت لهزة إقتصادية. ويتحول هذا المصطلح إلى شماعة تعلق عليه مسؤولية كل الأزمات والكوارث، وتعلن حالة الطوارئ لمحاصرة هذا “الغول المرعب” من أجل القضاء عليه؛ وكأنه السبب الوحيد أو الرئيس لهذه الأزمة المالية أو تلك الهزة الإقتصادية.
يمارس هذا النوع من التجارة في أغلب دول العالم الثالث أو ما يسمى العالم النامي ولكن تحت مسمى الإقتصاد الخفي. ويشكل نسبة لا باس بها من حجم الدخل الإجمالي لهذه الدول. إلا أن السبب الرئيسي لانتشار هذا النوع من التجارة في أغلب هذه الدول هو التهرب من الإستحقاق الضريبي المبالغ فيه من قبل السلطات المالية في هذه الدول أو التستر على أنشطة تجارية مخالفة للقوانين المشرعة في تلك البلدان (أنشطة غير شرعية).
إلا أن ظروف ومسببات ممارسة التجارة المستترة في دول الخليج تختلف تماما عن تلك المذكورة آنفا. فقد تزامن إنتشارها مع بداية الطفرة النفطية وتنفيذ المشاريع التنموية في هذه البلاد، حيث إنخرط معظم السكان في العمل في القطاع الحكومي، وكان من غير الممكن تجنب فتح الباب على مصراعيه للعمالة الوافدة لملئ الفراغ في القطاع الخاص وتسهيل توفير العمالة الوافدة اللازمة لتنفيذ المشاريع التنموية. وكان لا بد من سن قوانين تنظم هذه العملية، وتم ذلك بتبني نظام الكفالة من خلال قوانين العمل في هذه البلدان.
وجد كثير من موظفي القطاع الحكومي وعلى مختلف مستوياتهم فرصة للإستفادة من هذا النظام، فقاموا باستخراج سجلات تجارية سلموا زمام أمورها للوافدين ليمارسوا من خلالها مهناً وتجارات مختلفة مقابل مبالغ مالية رمزية عن العائد من النشاط التجاري أو عن كل عامل تتم كفالته بموجب السجل التجاري. وللأسف شهد القانون تجاوزات رهيبة فسمح للبعض إمتلاك العشرات من السجلات التجارية وللبعض الآخر استقدام مئات الأيدي العاملة دون وجود مبرر لذلك. وتطورت الأمور حتى أصبحت خارج السيطرة، وأصبح الوافدون يتحكمون في نسبة كبيرة من النشاط التجاري في البلاد. إذاً لم يكن التهرب من الإستحقاق الضريبي أو ممارسة أنشطة غير شرعية سببا لتفشي ظاهرة التجارة المستترة في دول الخليج ومنها سلطنة عمان.
وعليه نجد أن مصطلح التجارة المستترة بالمفهوم الذي قدمناه آنفا أصبح بحق ماركة مسجلة تنفرد دول المنطقة (دول الخليج) بالإستمتاع بحق الإستفادة منه حتى الثمالة بحيث أضحت مدمنة عليه، وبالتالي أصبح من الصعوبة بمكان التخلص منه. وفي ضوء هذا المفهوم تمت دراسة الآثارالإجتماعية والإقتصادية والثقافية والدينية وحتى السياسية المترتبة على تفشي هذه الظاهرة. وفي ضوء هذا التفسير أيضا، تم وضع الخطط والقوانين والتشريعات للحد من تفشي هذه الظاهرة والعمل على وقف هذا الزحف البشري على بلدان المنطقة ووقف نزيف الأموال الهاربة، وطبعا لم تكن سلطنة عمان إستثناء.
إعتبر البعض من أصحاب الشأن في السلطنة هذه الظاهرة تحديا يواجه سوق العمل العماني ووصفها البعض الآخر بآفة تنخر التكوين الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. وهي بالفعل كذلك وإلا لما أولت الجهات المسؤولة تلك الأهمية القصوى لمكافحة هذه الظاهرة من خلال وضع وتنفيذ خطط مختلفة بغية الحد من تفشي هذه الظاهرة ومحاصرة آثارها السلبية. ومن بين الإجراءات التي اتخذها المعنيون بالأمر، قرارات تمنع غير المواطنين من ممارسة بعض المناشط التجارية مثل بيع المواد الغذائية والأسماك والفواكه والغاز وتخليص المعاملات. ولا شك أن أي مجهود يبذل من أجل الحفاظ على ثروات البلاد ويفتح آفاقا جديدة من فرص العمل أمام الشباب العماني فهو سعي مشكور مهما كان حجمه.
ولكن المتابع لجهود التعمين في المناشط المتعلقة ببيع المواد الغذائية والمستلزمات المنزلية وبعض الخدمات العامة، يجد أن هذه الجهود أخطأت بوصلتها فلم يحالفها التوفيق بل ربما نجد أنها أتت بنتائج عكسية تماما. حيث أنه في ضوء السيناريو الذي تم تبنيه لتنفيذ خطط التعمين في المناشط المذكورة، يبدو وكأنها كانت من قبيل حق أريد به باطل سواء عن قصد أو دون قصد.
وكمثال على ما تقدم، كلنا نتذكر القوانين التي صدرت قبل عدة سنوات تلزم المواطنين أصحاب محلات البقالة وبيع الفواكه والأسماك، تلزمهم بإدارة محلاتهم بأنفسهم أو من قبل عمانيين. ولم يسمح لهم القرار ولو الإستعانة بعامل معاون أجنبي واحد حتى في حالة تفرغهم لإدارة محلاتهم. لذا وجدنا أن نصف هذه المحلات إختفت بمجرد دخول القرار حيز التنفيذ لأن أصحابها (الكفلاء) لم يكن مجديا بالنسبة لهم التفرغ لمحلاتهم وترك وظائفهم التي تدرعليهم دخلا مضمونا، في حين أقفلت معظم ما تبقى من هذه المحلات التي إستطاع أصحابها التفرغ لإدارتها بأنفسهم، أقفلت أبوابها خلال أشهر من تاريخ تنفيذ القرار، وذلك لتوقف الموردين عن تزويدهم بالبضائع المطلوبة لمحلاتهم على الحساب (أي عن طريق تسهيلات في الدفع) كما كان الحال مع الوافدين، وإصرارهم على سداد قيمتها نقدا نظرا لانعدام الثقة بين أصحاب المحلات الجدد من العمانيين والموردين لحداثة التعامل بينهم، خاصة وأن جميع مسؤولي التسويق في هذه الشركات الموردة هم من الأجانب حيث كان هؤلاء على معرفة وتفاهم تام مع أبناء جلدتهم الذين كانوا يديرون هذه المحلات سابقا. لذا ونظرا لعدم توفر السيولة النقدية لدى صاحب المحل العماني لشراء البضاعة نقدا، فقد إضطر أغلبهم إن لم نقل جميعهم، إضطروا إلى إقفال محلاتهم والعودة إلى وظائفهم.
وفي المقابل وعلى النقيض تماما، إستسلمنا طائعين لبنود الإتفاقيات والمعاهدات الدولية التي أوقعنا أنفسنا في شباكها الغير بريئة، أمثال منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وغيرهما. وما لبثنا أن وجدنا أنفسنا أمام سباق يشتد ويستعر بين كبار المستثمرين (الأجانب) للحصول على تراخيص لفتح مراكز تسوق كبرى (هايبرماركتس). ولوحظ أن الأمور تطورت بوتيرة متسارعة في هذا الإتجاه وأن الأبواب فتحت أمامهم كما لو أن تنسيقا مسبقا قد تم في الخفاء بين أصحاب المصالح المشتركة لتمرير قرارات كهذه لمصلحة طرف على حساب طرف آخر. وإلا كيف يتخذ قرار صارم بتعمين ملكية محلات البقالة وبيع الفواكه والأسماك وتعمين الوظائف فيها حتى لو أدى ذلك إلى إغلاقها كلها، وفي الوقت نفسه يسمح بمنح تصاريح لفتح مراكز تسوق كبرى ويسمح لها باستجلاب عمالة وافدة على مقاسها (بالمئات) مقابل تعهد بتوظيف عدد مماثل من العمانيين ما لبث وأن تسرب أغلبهم من خدمة هذه الشركات لقلة الرواتب أو لسوء المعاملة بحيث لا نجد الآن في هذه المراكز سوى عددا محدودا من العمانيين يعملون كموظفي محاسبة الزبائن مقابل أعداد هائلة من الوافدين يعملون في مختلف الوظائف. ولن تجد عمانيا واحدا يعمل في الإدارة العليا لهذه الشركات، وللأسف فالسيناريو نفسه تكرر مع بعض مناشط الخدمات.
ألم يكن الهدف من قرار تعمين محلات البقالة وغيرها هو توفير فرص العمل للعمانيين والقضاء على التجارة المستترة وتشجيع الإستثمارات الكبيرة والشرعية وكبح جماح هروب الأموال إلى الخارج من خلال التحويلات الغير شرعية وتحسين دخل الدولة من الضرائب. حسنا، فلنستعرض الوضع كما هو عليه الآن ونقارنه بما كان عليه قبل إتخاذ هذه القرارات ونرى ما الذي تحقق.
إختفت محلات البقالة ومحلات بيع الفواكه والأسماك والمستلزمات المنزلية والملابس من أغلب حارات وأسواق البلاد (أغلب بلدان العالم تعتبر الأسواق التقليدية جزءا من التراث وتبذل كل جهد للحفاظ عليها)، بحيث أصبح المواطن الآن مضطرا، للذهاب إلى الهايبرماكت قريبا كان أو بعيدا ولو لشراء علبة كبريت. وإنتقلت ممارسة التجارة المستترة من يد المواطن البسيط إلى أيدي كارتلات أجنبية وإن كانت محدودة من ناحية العدد، إلا أنها أخطبوطية من حيث التمدد والتفرع و بعوضية من حيث خاصية المص. وتحت شعار تشجيع الإستثمار الأجنبي، سرعان ما أطبقت هذه الشركات وخلال مدة قصيرة سيطرتها على تجارة المواد الغذائية والمستلزمات المنزلية في كافة أنحاء البلاد وباتت تجني أرباحا خيالية نظرا لعدم وجود منافسة فيما بينها (بل ويبدو الأمر وكأن هناك شبه إتفاق على الأسعار عن طريق تبادل الأدوار) والمأساة أن هذه الأرباح الهائلة لا يتم إستثمارها في البلاد بل يتم ضخها إلى الخارج والأمَر من ذلك أن الرأسمال الأساسي نفسه هو إستثمار مزعوم ووهمي لأن مصادر تمويله محلية سواء عن طريق تسهيلات من البنوك أو من الموردين المحليين. أما الإلتزام بالإستحقاق الضريبي فأتمنى لو تظهر هذه الشركات قليلا من الشفافية وتعلن عن أرقامها كبادرة حسن النية كما تفعل شركات المساهمة العامة حتى نعرف حجم مساهمتها في إقتصاد البلاد.
وفي المقابل فقد آلاف المواطنين، أغلبهم بسطاء، مصدرا من دخلهم كانوا يحصلون عليه من الوافدين الذين كانوا يمارسون عملهم في هذه المحلات تحت كفالتهم. علما بأن الوافدين الذين كانوا يمارسون التجارة من خلال محلات البقالة وغيرها من المناشط كانوا يقيمون في البلاد مع عوائلهم وبالتالي كانت مشاكلهم الإجتماعية محدودة، كانوا يصرفون جزءا لا بأس به من دخلهم في البلاد، فهم كانوا يستأجرون محلاتهم من المواطنين وكذلك منازلهم ويرتادون المطاعم ويتسوقون. والأهم من ذلك كله، كانت الأسعار في متناول الجميع في ظل المنافسة التي كانت تحكم سياستهم التسعيرية وانخفاض مصاريفهم التشغيلية. أما ممارسوا التجارة المستترة الجدد (المستثمرين)، فقد لجأوا إلى العمالة العازبة من الذكور والإناث، ويتم توفير السكن لهم في مخيمات أو مراكزعمالية تابعة لتلك الشركات، وكذلك توفير الوجبات الثلاث لهم بل حتى العلاج يوفرونه لهم في عياداتهم الخاصة، ما يعني أن أصحاب الإمبراطوريات يستولون بطريقة غير مباشرة على الجزء الأكبر من رواتب موظفيهم مقابل التسهيلات التي يقدمونها لهم وبالتالي فإن العمالة التابعة لهم لا يتبقى لديهم سوى جزء بسيط من رواتبهم يتم تحويله إلى بلدانهم، ناهيك عن إستعار أسعار بضائعهم في ظل سياسة الإحتكار التي يبدعون ويتفننون في تطبيقها. ناهيك عن ثقافة الإستهلاك الغير مسؤول الذي إنتشر في أوساط المواطنين.
وبالإضافة إلى السلبيات الإقتصادية لاحتكار مجموعة صغيرة وفي الوقت نفسه أجنبية، لتجارة المواد الغذائية والمستلزمات المنزلية في كافة أنحاء البلاد، وما يشكله هذا الإحتكار من تهديد على الأمن الغذائي للبلاد، أصبحت البلاد فريسة لمجموعة من الأوبئة الإجتماعية – لم تألفها سابقا – أنتجها وجود أعداد هائلة من العمالة العازبة خاصة من العنصر النسائي متروكة دون رقابة من كفلائها ما أدى إلى تفشي بعض الأمراض الإجتماعية من دعارة وترويج للمخدرات وإزعاج للجيران في المناطق السكنية إلخ.
كل هذا يحصل تحت مسمى الإستثمار الأجنبي الذي توسع الآن ليشمل صغار المستثمرين. وللأسف فإن هذا الإدعاء هو مثل ذر للرماد في العيون وضحك على الذقون. فالمعروف أن المستثمرين يدخلون بلداننا بإزار وقميص ودراجة نارية كما هو الحال بالنسبة للخبراء وكبار إداريي المؤسسات التجارية من الأجانب، ويغادرونها بثروات يحسدهم عليها قارون بما ملك من خزائن. رأس مالهم، والمفروض أنه إستثمار، يتم تدبيره كما أسلفنا على هيئة تسهيلات من البنوك من أموال أودعتها أنا وأنت وغيرنا – وأغلبنا بدون فوائد أو بفتات من الفوائد – ومن الموردين وكذلك من الرسوم الخيالية التي يتقاضونها كإيجارات للأكشاك التي يوفرونها للموردين لعرض بضائعهم في مراكزهم التجارية، والموردين بدورهم يشفطون هذه النفقات من ظهر المواطن من خلال الأسعار الخيالية التي يسعرون بها بضاعتهم.
وفي ضوء المقارنة أعلاه، ترى هل كان من الحكمة تنفيذ مثل هذه القرارات والتي من المفترض أن يكون الهدف منها محاربة التجارة المستترة، دون اتخاذ إجراءات تمهيدية قبل تنفيذها: من قبيل تدريب المواطنين على هذا النوع من النشاط، ومن ثم ضمان توفير مصادر تموينهم بالمواد التي يحتاجونها لمحلاتهم ومن ثم تنفيذ خطة التعمين في هذا النشاط الإقتصادي الهام على مراحل. بل كان من المفترض العمل على إنشاء جمعيات تعاونية إستهلاكية بالتعاون مع من يرغب من المواطنين أو صناديق التقاعد أسوة بالدول الأخرى التي سارت في هذا الإتجاه بمشاريع ناجحة عادت بالنفع على الوطن والمواطن.
والمحصلة أصبح الوضع كالآتي: كنا سابقا وكمثال، عندما نرضخ لضغوط أطفالنا وطلباتهم لشراء ألعاب ألكترونية مسجلة على الأقراص الممغنطة، كنا نسحبهم إلى سوق روي ونبتاع ما يختارون مقابل ريال واحد لكل قرص، أما الآن فنشتريها بثمانية عشر ريالا فقط لا غير. هذا الفرق في السعر ندفعه أنا وأنت من غير أن يكون لنا فيه ناقة ولا جمل وإنما هي من بركات إنضمامنا إلى منظمة التجارة العالمية والتي من ضمن شروط التشرف بعضويتها حماية منتجات الأعضاء من التقليد والإغراق وحرب الأسعار. علما بأن هذه المنتجات التي يفترض أنها أصلية وأنها صناعة دول العالم الأول، يتم صناعتها في دول العالم الثالث. لذا نجد أن الإختلاف في المواصفات الفنية يكاد ينعدم بين الأصل والتقليد لأن كلاهما مصنوع في نفس البلد، في حين أن الفارق في الأسعار يأتي على الأخضر واليابس من المتوفر في جيوبنا ندفعه من أجل شراء سراب إسمه “ماركة عالمية مسجلة”. والأمثلة كثيرة لماركات عالمية مزعومة نشتريها بأسعار خيالية وتتفتفت بين أيادينا ونحن لما نخرج من المتجر الذي إشتريناها منه.
لقد ألزمنا أنفسنا عن قصد أو دون قصد بدفع فاتورة باهضة لحماية مصالح هذا المستثمر أو ذاك، ولحماية منتجات هذه الدولة أو تلك، ترى ما الذي يتحمله الطرف الآخر في المقابل إذا لم يكن لدينا نحن ما ننتجه وبالتالي نصدره ونستفيد من مبدأ المعاملة بالمثل. ولا نفشي سرا إذا إدعينا أن الكثير من المنتجات التي تصلنا والتي من المفترض أن تكون أصلية هي عبارة عن شحنات مرفوضة ومرتجعة من دول أوروبية نظرا لوجود عيوب إنتاجية فيها ويتم تحويلها لأسواقنا لأننا مستهلكون ليس لنا بواكي.
والمحصلة النهائية هي أن الحرب الشعواء التي شنت على التجارة المستترة لم تقضي عليها أنما عملت عن قصد أو دون قصد إلى تعديل نمطها من القديم والتقليدي إلى الجديد والمتحضر. إلا أنه في حين كانت التجارة المستترة بنمطها القديم والتقليدي وعلى الرغم من سلبياتها، تجود بخيراتها على عدد كبير من المواطنين البسطاء، فإن التجارة المستترة بنمطها الجديد والمتحضر، مع احتفاظها بنفس سلبيات ضرتها القديمة، تحتكر خيراتها خمس مؤسسات أجنبية وتدفع زكاتها إن أحسنا الظن لخمس شركات عمانية عائلية ليس إلا.
لا شك أن العمل على تحقيق أهداف التعمين من خلال تشجيع الشباب على الإنخراط في ممارسة الأعمال الحرة وفي مقدمتها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ومشاريع الشباب وغيرها أمر محمود. ولا شك أن كل خطوة أو مشروع تتبناه الدولة في هذا الإتجاه جدير بالتقدير لاسيما ذلك المجهود الذي يبذل من أجل ترجيح كفة المواطن في سوق العمل سواء من حيث توفير الوظائف المناسبة لهم أو حماية حقوقهم لتصل على الأقل إلى نفس مستوى الحقوق والإمتيازات التي يتمتع بها الوافدون إن لم تكن إلى أفضل من ذلك. ولا شك أيضا أن محاربة التجارة المستترة من أجل القضاء عليها وليس تغيير نمطها حسب ما بينا سابقا، واجب وطني، ولكن إذا تم ذلك من دون تدبر وإعداد مسبق، فإن السحر قد ينقلب على الساحر بحيث تجري رياح النتائج عكس ما تشتهيه سفنها كما حدث في بعض من المشاريع والخطط التي نفذت في بلادنا.
من المعروف أن مصادر الدخل القومي بحاجة إلى التسريع في عملية تنويعها على اعتبار أن العائدات الحكومية من النفط والغاز تشكل 83% من الدخل القومي بينما لا تشكل هذه العائدات من جميع المصادر الأخرى سوى 17%. ولا شك أن النشاط الإستثماري يشكل رافدا مهما لهذا الإقتصاد إلا أنه لا يجب ترك الحبل على الغارب لمن هب ودب ليستثمر في ما نحتاجه وما لا نحتاجه. بل يجب تشجيع القطاع الخاص الوطني لأن يقوم بدور أكبر في مجال الاستثمار الصناعي وليس الإستهلاكي كما هو حاصل الآن، وبالذات يجب التركيز على الصناعات الغذائية لصلتها الوثيقة بالأمن الغذائي. خاصة إذا علمنا بأن حجم الاستثمار العماني في الخارج في نهاية عام 2013 بلغ نحو أكثر من 7 مليارات ريال عماني. كذلك يجب التركيز على تشجيع المواطنين لتأسيس المشاريع الصغيرة والمتوسطة والجمعيات التعاونية التي تهدف إلى رفع نسبة مساهمتها في الناتج المحلي لتمكين المواطن العماني من إدارة الاقتصاد، الأمر الذي يستدعي مراجعة وتنظيم جميع التشريعات التي صدرت لتنظيم نشاط الإستثمار، وفرملة الإستثمارات الإستهلاكية والوهمية التي تتمدد بسرعة جنونية، خاصة وأن ما توفره الدولة من إمتيازات لمدعي الإستثمار من تخصيص للأراضي وإعفاء من الضرائب وتوفير للعمالة الوافدة وتوفير تسهيلات من قبل المصارف المحلية ليست بالهينة. وبالتالي يجب أن تكون بصمة هذا القطاع على الإقتصاد الوطني دسمة وليس مشاريع إستهلاكية تقتات على الإقتصاد الوطني وتتغذى عليه بدل أن تساهم في تعزيزه.
قبل أن أتطرق لهذا الموضوع جرى نقاش بيني وبين أحد الأخوة حوله فقال لي: ببساطة نحن استجرنا من الرمضاء بالنار، استبدلنا “مستترين” صغارا ب”مستترين” عمالقة تحت عنوان الإستثمار. قلت: لا فض فوك وجعل الله كل ذلك في ميزان حسنات الإستثمار والإقتصاد الحر والبنك الدولي وعمتهم منظمة التجارة العالمية

الحادي والستون سياسة

عن الكاتب

عيسى عبد الحسين اللواتي